لوحة للرسام الفلسطيني عماد الدين الطيب (معهد العالم العربي - باريس) ثقافة و فنون “ملحمة” الياس خوري الفلسطينية تخاطب القارئ الفرنسي by admin 28 يناير، 2024 written by admin 28 يناير، 2024 236 “نجمة البحر” تواصل سرد المسار التاريخي ومراحله المأسوية المتوالية اندبندنت عربية / مارلين كنعان أستاذة الفلسفة والحضارات، كاتبة وباحثة @MARLKANAAN ليست المرة الأولى التي تترجم فيها إلى اللغة الفرنسية رواية للروائي والكاتب اللبناني إلياس خوري وتصدر في باريس. وليست المرة الأولى التي تتوقف فيها صحف عالمية كصحف “لوموند” و”لو فيغارو” و”لا كروا” عند رواياته التي ترجم معظمها إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والسويدية والنرويجية وغيرها من اللغات. والرواية الجديدة الصادرة عن دار آكت سود، تحمل عنوان “أولاد الغيتو 2: نجمة البحر” (2023) ترجمتها إلى الفرنسية رانيا سمارة بأمانة ومتانة. وقد تناولت هذه الصحف الرواية في مراجعات قيمة أطلقت عليها صفة “الملحمة الرائعة”، بعد أن أجمع كتابها على الإشادة بمهارة كاتبها وقدرته اللافتة على الإمساك بخيط السرد في حبكة خلقت شخصيات معقدة وعوالم آسرة، ربطت بين مجموعة من الأحداث التاريخية والخيالية بلغة عربية صافية، رسخت مكانة خوري المرموقة في الساحة الأدبية العربية المعاصرة. والرواية الصادرة أخيراً حديثاً في باريس تشكل الجزء الثاني من ثلاثية أو ربما رباعية “أطفال الغيتو” بحسب ما تشير عمارة العملين وتشابك نطاقهما الزماني والمكاني. سبق أن ترجم جزؤها الأول إلى الفرنسية عام 2018 وهو بعنوان “اسمي آدم”. تتابع هذه الرواية إذاً سرد مسرى حياة بطلها وهو رجل فلسطيني – إسرائيلي يدعى آدم دنون، التزم إلياس خوري نقل حكايته، بوصفها تعبر عن مأساة الفلسطينيين، التي شكلت قضيتهم محور معظم كتاباته كما في رائعته “باب الشمس” (1998). والرواية التي نحن بصددها صدرت باللغة العربية عن دار الآداب في بيروت عام 2019. “نجمة البحر” بالترجمة الفرنسية (دار أكت سود) في الجزء الأول منها نتعرف إلى آدم دنون المولود عام 1948 – عام النكبة – وقد نشأ في الحي اليهودي في مدينة اللد، أكبر وأقدم مدن فلسطين التاريخية، حيث أقدم الإسرائيليون، وتحديداً قوات الهاغاناه، على حبس آلاف اللاجئين الذين نجوا من مجازر يافا والقرى المجاورة ومعاركها العنيفة، في “غيتو” أشبه بالمعتقلات المحاصرة بالأسلاك الشائكة والبطش والدم والقتل. فنراه وهو في الـ15 من عمره، أي في عام 1963، يهرب بمفرده من مآسي طفولته، لا سيما بعد قتل والده وهو لا يزال طفلاً رضيعاً في المعركة التي شنها الإسرائيليون لطرد العرب من اللد عام 1948، ورعايته، هو وأمه نوال، من قبل رجل أعمى يدعى مأمون، ثم زواج والدته وعلاقة آدم المتوترة بزوجها، ليعيش مغامرات سمتها الضياع، يعالج الروائي من خلالها موضوعات الهوية والانتماء والذاكرة والعلاقة بين المحرقة اليهودية والنكبة الفلسطينية وغيرها، في تشابك جميل للوقائع التاريخية بالسرد الحكائي. يحيلنا عنوان الرواية “نجمة البحر” أو “ستيلا ماريس” على دير مكرس على اسم العذراء مريم يقع في مدينة حيفا على سفح جبل الكرمل، تذكر التقاليد المسيحية أنه ضم مغارة اعتكف فيها النبي إيليا التشبي. فمن على شرفة هذا الدير الحيفاوي المطل على البحر والمدينة، حيث لجأ البطل الذي اعتاد الجلوس وحيداً وشعر في وحدته أنه لا أحد، كائن غائب ولا مرئي، والذي تحكي الرواية قصته بضمير الغائب، نتعرف إلى فصول جديدة من سيرة آدم دنون، المراهق الأشقر الذي تحول لون شعره مع الوقت إلى بني وتحولت معه هويته منذ أن غادر منزل والدته معتقداً أن الهرب سيمكنه من التخلص من طفولته المليئة بقصص الإذلال والفقر والجثث المتحللة. هوية جديدة الروائي اللبناني الياس خوري (دار أكت سود) لكن البحث عن هوية جديدة لن يكون بالسهولة التي تخيلها، على رغم لقاءات الشاب أشخاصاً عديدين لعبوا، كما في طقوس العبور وروايات التعلم، دوراً في حياته. لقاؤه الأول كان مع غابرييل تاندروف، ميكانيكي يهودي جاء إلى حيفا من بولندا في سن السابعة، تعلق بآدم، فوظفه في ورشته إلى جانب عدد من العمال العرب، ذلك أن آدم ذكر غابرييل بشقيقه شلومو الذي اختفى في معركة السيطرة على المدينة الساحلية. وقد ظن الرجل بسبب لون بشرة آدم الفاتحة ولهجته العبرية القريبة من لهجة السفارديين أن آدم يهودي يمني. فآدم يتحدث العبرية بطلاقة، ويمكن اعتباره بسهولة يهودياً. وهذا ما لم يزعج الشاب الفلسطيني على الإطلاق. ولما لم يكن لآدم منزل يأويه، أسكنه غابرييل في بيت نزح عنه سكانه العرب يقع في وادي الصليب. وتعرف آدم إلى رفقة، ابنة غابرييل، وهو في الـ16 من عمره، فوقع في حبها. لكن غابرييل طرده بعد أن عرف أنه أقام علاقة معها. فانتقل للعيش في الفرن الذي تملكه عبلة، امرأة فلسطينية تركها زوجها ومضى إلى لبنان. كان المقابل المتوجب عليه كبدل للإقامة مساعدة المرأة على العجين كل صباح. هكذا تمكن آدم الذي أنهى تعليمه الثانوي أن يبدأ للتو دراسة الأدب العبري في جامعة حيفا متطلعاً إلى أن تكون هذه اللغة وآدابها ملاذاً جديداً له، فاللغة على ما يقول هايدغر مسكن الوجود. كل لقاءاته، أكانت مع أستاذه ياكوب إيبنهاينر، عالم اللغات الآرامية والمصرية القديمة، والقارئ النهم للتوراة بوصفها أدباً، والذي اختاره، ظناً منه أنه يهودي، للمشاركة في رحلة منظمة إلى بولندا ضمن وفد طلابي للتعرف من كثب إلى عذابات اليهود، وهي لحظة قوية جداً في الرواية، حيث يلتقي آدم ماريك إيدلمان (1919 – 2009)، طبيب القلب اليهودي وزعيم انتفاضة غيتو وارسو، الذي فضل البقاء في بولندا بعد الحرب العالمية الثانية، أو مع رجل عجوز، أو مع عديد من النساء، وعلى رأسهن رفقة وداليا بن تزيفي، حبه الكبير، التي تحمل في عينيها “رحابة البدايات الدائمة”، ستشكل بالنسبة إليه مناسبة لإسقاط أو لمساءلة الأقنعة المختلفة التي أخفى في معظم الأحيان وجهه وراءها متلوناً كالحرباء. ولعلها ستزيد سماكة الغموض الذي يخفي وراءه هويته الحقيقية كما لو أنه يرتدي طاقية الإخفاء. الهوية الملتبسة في كل الأحوال كان لهوية آدم الملتبسة تمثلاتها اللغوية، فقد كان الشاب يعرف اللغة العبرية ويحبها لأنها تشبه العربية. وكان له أيضاً اسمان شلومو، كما كان يناديه غابرييل، وآدم كما كان يناديه زملاؤه من العمال العرب. وها هو ذا يحفر اسمه باللغتين العبرية والعربية على شجرة كان يشعر أنها تقمصت روحه، لكنه لم يكن يتكلم معها إلا باللغة العربية قائلاً إن “الشجرة لا تفهم سوى لغة الأرض التي نبتت فيها”. بعد تخرجه في الجامعة حاملاً إجازة في اللغة العبرية وآدابها ومن ثم في اللغة العربية وآدابها والتي درسها “لا لشيء إلا لأن رقم هويته يشير إلى أنه عربي” وعمله أستاذاً لهذه اللغة، يتعرف آدم إلى طبيبة أسنان تدعى كرمى سمعان، سرعان ما يقع بحبها. غير أن تعقيدات الحياة تجبره على تركها بعد مقتل والدها أمام عيني والدتها وشقيقتها على يد عبدالله الأشهل زوج أمه الثاني، وقد عاد من لبنان لينتقم من زوجته الأولى التي خانته وحرمته من رؤية ابنتيه، التي بينت التحقيقات أن المسدس الذي استعمل في الجريمة وجد في الدير لدى راهبة اتضح أنها نوال، أم آدم، التي لجأت إلى سلك الرهبنة هرباً من مصاعب الحياة وشرور أزواجها. وبين تمزقه العائلي وتوزعه بين لغتين وأدبين وشعبين وأمكنة مدموغة بماض ما زال يغترب عن أهله في بحث مضن عن معنى وجودي يفيض من حكايا الفلسطينيين والإسرائيليين، تخطفنا شخصية آدم وذكريات حياته. ففي رواية تميل إلى الحكاية ولو استندت في سرديتها إلى أحداث تاريخية حصلت فعلاً، يواصل إلياس خوري بإبداع التفكير في القضية الفلسطينية بعامة، وفي حرية الفرد إزاء ماضيه بخاصة، شابكاً التاريخ بالخيال، متصرفاً بالزمن السردي، طارحاً مسائل وجدانية من خلال سيرة آدم دنون، الذي يتطلع إلى إيجاد موقع له داخل وطنه المحتل في مجتمع يهمشه بعد أن سلب منه هويته، التي تتقاطع باستمرار مع قصص عديد من الرجال والنساء، يهوداً أكانوا أم عرباً، أو كلاهما في الوقت عينه، كقصة اليهودي العراقي حسقيل الذي يدرس الأدب العربي الجاهلي في جامعة حيفا. الهجرة القسرية والطرد وتتناول الرواية كذلك قصص الطرد والهجرة القسرية والاضطهاد وعلاقة الإنسان بالذكريات الأليمة، في مساءلة وجودية عن مصير اليهود والفلسطينيين. مما حمل كاتب مقالة “لوموند” الصحافي ريشار جاكمون إلى القول إن إلياس خوري قد حقق من خلال هذه الرواية ما حققه الفلسطيني محمود درويش (1948 – 2008) من خلال الشعر، إذ عبر كلاهما عن الحالة الفلسطينية في تفردها وعالميتها كحالة إنسانية. وهذا بالضبط ما يجعل قراءة “نجمة البحر” في رأيه ضرورية جداً في هذا الزمن الذي يتم فيه تجريد الآخر من إنسانيته على كل الصعد واختزاله في هوية أصبحت قاتلة. ولئن يحاول بطل الرواية الخروج من هويته أو الانقلاب عليها متطلعاً إلى الانتماء إلى هوية أخرى، وهي هنا اليهودية، التي نظر إليها آدم دنون بوصفها هوية للعبور أو للنسيان والرحيل والهرب، فإن الهوية الجديدة سرعان ما ستتحول بدورها إلى محاكاة لمأساة أخرى، انتقلت به من غيتو اللد إلى غيتو وارسو. فصار آدم نفسه “غيتو” جديداً، كائناً مبعثراً، لا عربياً ولا يهودياً، ابن شهيد مسلم وأم مسيحية يحمل الهوية الإسرائيلية، كائناً يحاول عبر سرد قصة حياته إعادة تكوين ذاته المشتتة هنا وهناك. لا شك أن حياة شخصية آدم دنون التي ابتدعتها مخيلة إلياس خوري تتقاطع مع فترة من تاريخ فلسطين المحتلة، تقدمها لنا الرواية بوصفها شخصية دينامية. غير أنها تتخطى في ضعفها وقوتها حدود رسوم الشخوص الروائية، لا سيما حين تستدعي استـطرادات ومحكيات ونصوصاً قديمة وحديثة ووقائع تاريخية وأسماء شخصيات حقيقية ومشاعر إنسانية وملامح نفسية موشحة ببعض الفكر السياسي والتراث الديني والشعري الذي يتفق مع الحبكة الرئيسة التي تتفرع عنها أحداث تقطع في بعض الأحيان حبل السرد، نثرها خوري، هنا وثمة، في ثنايا عمله، مما منح روايته شكلاً سردياً مشوقاً قابلاً لجميع أشكال الخطاب الإنساني. باختصار، يحيل إلياس خوري قراء “نجمة البحر” على واقع بطله المحاصر بالذكريات والمرتطم بجدران العيش في دولة إسرائيل، مشدداً على محاولاته الخروج من “غيتوهاتها”، من خلال الاحتماء بظل لغتها وأدبها في محاولة منه لدفن ماضيه. لكن الأدب يضلل ويعيد في النهاية إلى الواقع العربي الأليم. فيستهزئ الروائي بذكائه وبراعته المعهودة بقفص الهويات ووجوهها المتعددة، ويتحدث عن تشابك مصير اليهود بالفلسطينيين، الذين أصبحوا اليهود الحقيقيين ليهود إسرائيل، آخذاً بنا، نحن قراءه، نحو جمال لغته وحبكة خيط سرده السري القادر على شق مسار متفرد له، يربط، على نحو خاص، بين روايته التي استحوذت على إعجابنا، والتي رسخت مكانته كروائي أول في العالم العربي، روائي قادر على نسج حكاياته المديدة التي تبرع في استدراج التاريخ إلى أنساق السرد المختلفة، محولة إياها إلى عمل استثنائي في عالم الأدب العربي والعالمي المعاصر. المزيد عن: روائي لبنانياللغة الفرنسيةترجمةروايةفلسطينتاريخالهجرة القسريةالتشرد 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post لبنان: «حزب الله» يتحوّل إلى الدفاع في مواجهة إسرائيل next post إنجاز علمي بريطاني في رصد سرطان الدماغ بفحص دم You may also like مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 عبده وازن يكتب عن: فيروز تطفئ شمعة التسعين... 21 نوفمبر، 2024 “موجز تاريخ الحرب” كما يسطره المؤرخ العسكري غوين... 21 نوفمبر، 2024