ثمة خطاب سياسي بالغ الوقاحة في أصل هندسة هذا القصر: الجبروت (علي علوش) ثقافة و فنون يوسف بزي يكتب عن العودة إلى دمشق: قصر أحمد الشرع وسوق الحميدية (4) by admin 29 ديسمبر، 2024 written by admin 29 ديسمبر، 2024 28 لا انبهار، بل إدانة لهذه المبالغة المعمارية المقصودة، المنتصبة كحصن عدائي يشرف على العاصمة ويتعالى عليها بصلف وترهيب. جريدة المدن الالكترونية / يوسف بزي – كاتب وصحافي لبناني هي رحلة مؤجلة منذ 20 عاماً إلى المدينة التي وقعت في غرامها وكرهت حالها في آن معاً، منذ زيارتي الأولى عام 1988. آنذاك، كانت المدينة المترامية التي تغلب عليها أناقة الماضي والإلفة والسهولة، تهيمن عليها أيضاً مشاعر قابضة للأنفاس. بعد جزء أول، وثانٍ، وثالث، هنا الجزء الرابع والأخير: اللامعقول أن أكون في هذه المدينة أصلاً. ما يفوق اللامعقول هو أن أسلك الطريق المحرّمة وأدخل “قصر الشعب”، قصر آل الأسد. والأكثر خيالية، أن شبان إدلب المسلحين، والذين يضعون كمامة على وجوههم، وعبارة “لا إله إلا الله” على زنودهم، هم الآن بمثابة “حرس جمهوري”، فيما الساكن فيه أحمد الشرع شخصياً. التاريخ يصاب أحياناً بنوبات جنون. وهذه السطور كانت مستحيلة قبل أيام. صباح مبلل، في يوم أحد كسول، والضباب يخفي قمة قاسيون. السائق مدهوش من نفسه، غير مصدق أنه يقود باتجاه تلك القلعة الباهرة والمخيفة، التي تولى بناءها رفيق الحريري كقصر للرئيس السوري. الغرائبية لا تنتهي هنا. فالقصر الملعون على الموعد مع وليد جنبلاط وابنه وأركان حزبه ونوابه ووزرائه، بصحبة شيخ العقل ورهط من المشايخ الدروز. وبالطبع، تأتي معهم جحافل من الإعلاميين اللبنانيين، بكل ما يحملون معهم من نزق وفلتان وقلة حياء وحزازات لا مهنية.. وقلة اللياقة. لم يعتد بعد الطاقم الجديد لموظفي القصر، على إدارة وضبط هكذا حشد إعلامي فوضوي قابل لأن يستبيح المكان بغوغائية معيبة. وكان عليّ أن أبتعد متجولاً قدر الإمكان في هذا القصر الهائل، الأصم، الذي تجعلني سعته الباردة والرخامية وسقوفه العالية جداً، منقبضاً. ربما المبالغة في إظهار “الفخامة” أو بالأحرى ثراء السلطة، تحيل جماليات المكان وأبهته إلى منبع للتوجس والنفور. ثمة خطاب سياسي بالغ الوقاحة في أصل هندسة هذا القصر: الجبروت. ولا تسعف زخرفة حواشيه وأبوابه وسقوفه، وأثاثه الحِرَفي الدمشقي، في إضفاء أي خفة. ضخامته مفزعة: المبنى الرئيسي 31.500 متر مربع، ومجمل مساحته مع المباني الملحقة 510.000 متر مربع. لا انبهار، بل إدانة لهذه المبالغة المعمارية المقصودة، المنتصبة كحصن عدائي يشرف على العاصمة ويتعالى عليها بصلف وترهيب. يصل وليد جنبلاط والوفد الكبير. ورغم ملامح التعب والإنهاك، كانت ابتسامة السعادة غامرة. فهو ومن معه كانوا دوماً تحت تهديد مقصلة الأسد. لحظة سياسية لا تخلو من مشاعر ثأر، لكن تغلب عليها أيضاً رغبة بالمشاركة في طي صفحة آل الأسد في سوريا ولبنان. ثمة حاجة جنبلاطية-درزية للمساهمة في شق طريق آخر بين دمشق وبيروت، وبين المختارة والسويداء أيضاً. وربما، في الخلفية أراد جنبلاط ورفاقه أن يشاهد بشار الأسد شخصياً في منفاه صورة وجودهم في القصر الذي هرب منه. على نحو مباغت، أجد أمامي أحمد الشرع. عينان حادتان وملامح جامدة. يمرّ متجهاً مباشرة نحو وليد جنبلاط. نلهج جميعنا مدهوشين: إنه يرتدي الكرافات. إنها المرة الأولى بربطة العنق. سينوغرافيا التحول السياسي المتدرج لقائد “هيئة تحرير الشام” تكتمل بأزيائه، على نحو “استرداد” اسمه الرسمي متخلياً عن اللقب الجهادي (أبو محمد الجولاني). أقول في نفسي: إنه تأثير الانتقال من منزل إدلب إلى قصر دمشق. الانتقال من القتال إلى الحكم، ومن قائد ميليشيا إلى قائد دولة. وليد جنبلاط لديه أيضاً تجربة مماثلة تقريباً، حين انتقل من محارب وقائد ميليشيا إلى زعامة سياسية رسمية: النيابة والوزارة. لكن مع فارق عن الجولاني بإرث أميري-إقطاعي وتقاليد زعامة سياسية وأرستقراطية. بدا الشرع متودداً لجنبلاط، فيما الأخير كان يتفحص بحنكة وفراسة هذا “المنتصر” على الأسد. فما يهمه هو بناء علاقة سياسية أولاً، وتفاهماً على صيانة الحضور الدرزي في سوريا، وتنظيف طريق دمشق بيروت من مخلفات الأسدية. كان المهم هو الصورة الجامعة، كمصدر قوة لجنبلاط في البلدين معاً. كنت مستعجلاً في الخروج من هذا القصر، هرباً من ثقله الاسمنتي، ومن الجوقة الإعلامية اللبنانية ولغوها… وإلى شوارع دمشق في هذه الساعة التي يكثر فيها المشاة. ومن لا يرغب بسوق الشعلان الذي يحتفي الآن بكم هائل من الفاكهة التي كانت نادرة: الموز والقشطة والدراغون.. كميات من كل صنف مقدمة بسخاء على البسطات. حركة مفعمة بالناس والبيع والشراء، وروائح مدوخة للأطايب والبهارات والمأكولات والعصائر والسحلب الساخن، ونداءات الباعة. في دكان السندويشات، وفي كل محل أدخله، يعرفون لبنانيتي من لهجتي، وأسمع العبارة ذاتها: نورتم الشام. وتسري قشعريرة من دفق المحبة، رغم كل الاقترافات التي أوقعها لبنانيون بالسوريين.. وأنزلها النظام باللبنانيين. وكان المطعم أعيد افتتاحه من اسبوع، بعدما استعاده صاحبه. فالظاهرة السارية في دمشق هي حركة استعادة الأملاك والعقارات. جلاوزة النظام وعصاباته و”رجال أعماله” وضباطه وضعوا أيديهم على عقارات لا عد لها، واستولوا على محال وبيوت وأراض بالقوة والغصب، كما لو أنهم قوة احتلال. وهذا يحيلنا إلى طبيعة العلاقة التي حكمت نظام الأسد بأهل دمشق وسوريا، بوصفها أيضاً علاقة نهب وليس فقط إذلال وقمع وقتل. عدد من البيوت والمحلات في قلب العاصمة، كان يجري تسليمها لأصحابها على مدار الساعة، بما يشبه استعادة أحمد الشرع لمنزل أهله في منطقة المزة. لم أنتبه للمسافات التي أمشيها. قوة الإغراء تجعلني كالتائه أو كالسائح الأبله. أسير في شارع النصر، بمحاذاة بسطات منجزي وسماسرة معاملات الزواج والطلاق، لكن “المزدهر” في أعمالهم هو استصدار “شهادة الوفاة” وتصديقها. سوريا أرض الأموات والدموع والأرامل والأيتام. أصل إلى سوق الحميدية، المفقّر والمتهالك، والمتدني الجودة. دليل انحطاط الصناعات المحلية كما دليل فقر حال المستهلكين. دمشق كالحميدية ربما لم يدمرها الأسد، لكنه جعلها تهترئ ببطء. مع ذلك، ما زال في الحميدية ملامح ماضيه المدهش. هنا تجتمع سوريا كلها: بدو البادية، أهل الشمال، أهل الأرياف، أهل الجنوب. سحن وأزياء ولهجات الفسيفساء السورية معاً في هذا النهر البشري المزدحم. أدخل إلى متجر باذخ لبيع الفضيات والحرفيات، يملكه تاجر دمشقي محنك وسليل عائلة تجارية. كان مبتهجاً: زمان لم يأتنا اللبنانيون الأكابر والذواقة. في السنوات الأخيرة (الله وكيلك)، شفنا نوع من اللبنانيين لا يسرون الخاطر. عملوا في السوق عراضات غريبة عجيبة.. وكان قصدهم إهانتنا بلا سبب. كلامه يؤكده سائق التاكسي، عن أتباع حزب الله: “إذا هم قتلوا سيدنا الحسين لما تخلوا عنه، نحن شو ذنبنا؟”. في الطريق نشتري سندويشات الشاورما، ويقول بحرقة: “منذ سنتين ونصف لم أذق طعم سندويش لحم.. يلعن روحه”. بين قصر الشعب وأسواق دمشق مسافة قصيرة، كانت بمثابة هوة عميقة ومظلمة بين الحاكم والمحكوم، فهل سيردمها الحكّام الجدد، ليحلو العيش والمشي في هذه المدينة المظلومة؟ (انتهى). يوسف بزي يكتب عن: العودة إلى دمشق.. المدينة التي كرهتها وأحببتها دوماً (1) يوسف بزي يتابع الكتابة عن العودة إلى دمشق: إرث البعث الرهيب (2) يوسف بزي يكتب عن: العودة إلى دمشق.. عشوائية جرمانا وحميمية باب توما (3) 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post يوسف بزي يكتب عن: العودة إلى دمشق.. عشوائية جرمانا وحميمية باب توما (3) next post سامر أبوهواش يكتب عن: بين “سقوط الأسد” و”مئة عام من العزلة”: نقاط تقاطع وافتراق You may also like مئات المسارح والمتاحف تواجه خطر الإغلاق في بريطانيا 30 ديسمبر، 2024 نحو فهم العلاقة الملتبسة بين الفلسفة والأدب 30 ديسمبر، 2024 ديان سوس الصوت الأجرأ في المشهد الشعري الأميركي 30 ديسمبر، 2024 “فيرونا تهبط من التل” ترصد احتضار قرية أوروبية 30 ديسمبر، 2024 في “الشتاء الطويل” لإسماعيل كاداري خطأ صغير يصنع... 30 ديسمبر، 2024 أفضل 15 فيلما لعام 2024 30 ديسمبر، 2024 شخصيات ثقافية وإبداعية بارزة رحلت في 2024 30 ديسمبر، 2024 كيف عبر فنانو الكاريكاتير عن سقوط الأسد؟ 29 ديسمبر، 2024 أبرز الكتب المنتظرة عام 2025 29 ديسمبر، 2024 سارتر يهجو الحرب الباردة التي حولت النصابين أبطالا... 29 ديسمبر، 2024