“أهل أشقياء” و”أبناء” لا يقلون عنهم شقاوة للتعمق الشاعري في دراسة المجتمع المعاصر
اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب
على رغم ملامحه التي غالباً ما كانت تبدو متجهمة كسيماء المفكرين بعمق من الذين يصعب عليهم إيجاد فسحة في حياتهم اليومية لشيء من الابتسام وبعض المرح، كان جان كوكتو (1889 – 1963) كاتباً مجتهداً غزير الإنتاج وأحياناً إلى حد يثير غيظ محبيه أكثر ما يثير مناوئيه، وكان صاحب نوع شديد الخصوصية من المرح يتجلى في حياته وكتاباته الذاتية (مراسلاته أو نصوصه في أدب الرحلات وما شاكل ذلك) أكثر كثيراً مما يتجلى في إبداعاته على اختلاف أنواعها ومراحلها، وهي – على عكس ما قد يخيل إلينا – كانت شديدة التنوع فهو كان شاعراً وروائياً وكاتباً مسرحياً وسينمائياً ورحالة ثاقب النظر ورساماً ناهيك بكونه سينمائياً ورجل مجتمع يبدو في نهاية الأمر حاضراً في كل مكان همه ألا يفوته أي احتفال.
ومن هنا كان كوكتو ظاهرة أساسية في الحياة الثقافية الفرنسية أواسط القرن الـ20 كما كان ظاهرة حتى في ردود فعله السياسية وبخاصة عندما احتل نازيو هتلر فرنسا منذ بدايات الحرب العالمية الثانية وفرّ العدد الأكبر من المبدعين الفرنسيين بعيداً من باريس وحتى من فرنسا، فإذا به هو يواصل حياته وإنتاجه في العاصمة وعلى رؤوس الأشهاد وكأن شيئاً لم يكن إلى درجة أن عدداً من مناوئيه وهم دائماً كثر، طالبوا بمحاكمته مرات بتهمة التعاون مع النازيين ومرات خلال هيمنة هؤلاء بتهمة العمل سراً ضدهم، غير أنه لم يكن لا هذا ولا ذاك، بالأحرى كان لا مبالياً يراهن على حركة الزمن وتبدلاته!

مشهد من فيلم مقتبس عن رواية “الأبناء الأشقياء” (موقع الفيلم)
هرب إلى عالم الإبداع
كان كل ما فعله هو أن يواصل حياته ويواصل، أكثر من ذلك، إبداعه وفي شتى المجالات التي كان يحلو له خوضها حتى وإن لم يكن متمكناً في إمساكه بتقنياتها وأسرارها المهنية.
فهو في النهاية كان واثقاً من مبدأ فحواه أنك إذا كنت موهوباً في مجال إبداعي ما… لن يصعب عليك إيجاد إمكانات تمكنك من التعبير عن موهبة ما في مجال إبداعي آخر.
والغريب أن هذا المبدأ قد نجح معه إلى درجة أنه، على سبيل المثال، قد كتب مع فارق زمني يصل إلى نحو 10 سنوات عملاً روائياً وآخر مسرحياً بعنوانين متشابهين، يكادان يبدوان يتكاملان مع بعضهما بعضاً: رواية عنوانها “الأبناء الأشقياء” ومسرحية تحمل عنواناً لا يبدو بعيداً هو “الأهل الأشقياء”، وهو أنجز الأولى عام 1929 والثانية عام 1938. وتُعامَلان منذ ذلك الحين وكأنهما ثنائي إبداعي لا يمكن فصلهما عن بعضهما بعضاً. والطريف أن كوكتو حين كان يسأل عن سر ذلك التضافر “بالنسبة إلى موضوع واحد بين عملين ينتميان إلى صنفين إبداعيين لا علاقة مباشرة لأحدهما بالآخر” يجيب كالحائر الذي بوغت بالسؤال أنه لا يملك جواباً، مبدياً كذلك دهشته من أن طارحي السؤال يربطون بين العملين! والحال أن العملين وعلى رغم “حيرة” مبدعهما و”دهشته” فلا يمكن التعامل معهما إلا معاً، لأن بيئتهما واحدة وحبكتهما واحدة وتوقعاتهما واحدة وحديثهما عن الوضع الاجتماعي العائلي واحد، وواحدة إمكانية قراءة الزمن الاجتماعي المقبل على ضوئهما على رغم أن الكاتب لم يكن ليدعي كتابة مستقبلية، ففي النهاية يمكن للمتلقي أن يتعامل مع العملين اليوم على ضوء ما آلت إليه العلاقات العائلية عند بدايات الألفية الجديدة.
صورة أخلاقية

غلاف كتاب “الأبناء الأشقياء” (أمازون)
مع ذلك لا بد هنا من ملاحظة محددة وهي أن كثراً من مناوئي جان كوكتو تعاملوا مع العملين خلال الزمن الذي ظهرا فيه كنتاج إبداعي غير أخلاقي “يليق حقاً بما يتهم به جان كوكتو عادة من ابتذال أخلاقي وخروج متعمد عن أعراف المجتمع السليم”، ففي نهاية الأمر لا بد من التسليم مع هؤلاء المناوئين بأن جان كوكتو لم يكن قديساً ولم يكن من ثم من المنافحين عن الأخلاق القويمة. كان ابناً لزمن تفككت فيه أوصال الأخلاق المعتبرة سليمة بتأثير الأزمات الاقتصادية المتلاحقة وبتأثير حداثات باغتت إنسان الربع الثاني من القرن الـ20، وكان من أبرز ملامحها تفكك العائلة، ذلك التفكك الذي يكمن في خلفية نصّي كوكتو اللذين نتناولهما هنا.
صحيح أن كوكتو، وكالعادة التي حرص على اتباعها طوال حياته، لم يساجل من وجه تلك “التهم” إليه، وصحيح أن مناصريه من النقاد استجابوا لحرصه على عدم المساجلة، فكان أن استخدمت نظرة المناوئين للنيل منه، ولكن لاً شك أن الزمن قد تولى لاحقاً الدفاع عنه ولو بعد حين. وهذا ما جعل “الأبناء الأشقياء” و”الأهل الأشقياء” بأكثر كثيراً مما تبدوان – بحسب اتهامات المناوئين دعوة إلى مجتمع من دون أخلاق – تبدوان توقعاً لما ستكون عليه أحوال المجتمع والعائلة في المجتمع وليس فقط في البيئة التي يصورها كوكتو في عمليه.
ولنتحدث هنا الآن عن السمات التي تطبع العملين عبر تشابه كان هو في خلفية النظرة إليهما كعملين متكاملين. فهما معاً حتى وإن كان لأولهما انغلاق البيئة المسرحية المحصورة وللثاني الانفتاح الذي يعد العالم الروائي به عادة، يصفان لنا بيئة منغلقة تعيش صاغرة تحت ربقة أعرافها وطقوسها وقوانينها الخاصة بها. أما الموضوع المشترك فإنما هو الرفض القاطع لتلك الأعراف والقوانين والتصدي لمجتمع يحمل انحرافاته في داخل، فالمؤلف يخوض هنا وبتعمق يكاد يجعل من العملين جلداً للذات الكاتبة إذ يبدو أن ثمة علاقة لهما ببعض من سيرته الذاتية، يخوض في انحرافات مجتمع يبدو في ظاهره سليماً قويماً. وهو في ذلك الخوض يطاول العلاقات البشرية المجتمعية في الأحداث الأكثر عادية التي يمر بها فتى هو الشخصية المحورية. من اكتشافه لحب المحارم مدغوماً ببراءة لا لبس فيها، إلى ازدواجية العلاقة بين عالم الواقع وعالم الحلم، إلى اكتشاف الجنس، مروراً بالعلاقة الجاذبة النابذة بين الأجيال، وكل ذلك من خلال سبر عملية الانتقال من سن المراهقة إلى سن الشباب.
قبل زمن كورونا
وهنا قد يكون من المفيد أن نذكر أن كثراً من النقاد بل حتى من كاتبي سيرة كوكتو ومتابعي عمله فضلوا “الأبناء الأشقياء” التي كانت، تاريخياً، أسبق العملين في الظهور، حتى وإن كان تفضيل كوكتو سيذهب لاحقاً إلى “الأهل الأشقياء” إلى درجة أنه سيحولها فيلماً عام 1947، إذ حتى وإن أحب كثر منهم الفيلم في حد ذاته، بل اعتبره بعضهم ينهل ولو إلى حد ما من العملين معاً مع تركيزه أكثر على “الأهل الأشقياء”. فبالنسبة إلى المتابعين الأكثر جدية لأعمال كوكتو رأوا أن “الأبناء الأشقياء” بوصفها نصاً روائياً تبدو أكثر فتنة ولا سيما أن كوكتو بدا فيها كما على حقيقته الأولى، شاعراً ذا لغة جزلة غير مضطر فيها لمسايرة المسرح الذي يقوم على الحوارات أكثر مما على السرد الجمالي… ومن هنا بدا واضحاً بالنسبة إليهم أن كوكتو قد حرص على رسم مشاهد تبدو أحياناً وكأنها منتمية إلى أدب فطري يتضافر مع أسئلة بادية الغرابة، أو كانت كذلك حتى فترة شديدة القرب منا هي بداية العشرية الثالثة من القرن الـ21 وواحد من أسئلتها الأكثر إيلاماً يكاد يقول أشياء كثيرة: هل ترى كوكتو طرح في نصه هذا، سؤالاً طرح كثيراً مع حلول زمن كورونا وفحواه، “هل يمكن حقاً ترك الأبناء على سجيتهم منغلقين مع بعضهم بعضاً في شقة باريسية تحت وطأة إبقائهم في مأوى يقيهم شر جائحة تجتاح البلاد لتسقط موتى في العالم الخارجي؟”.
ترى كيف تمكن جان كوكتو من أن يطرح هذا السؤال قبل نحو قرن من تحوله ليصبح واحداً من أصعب الأسئلة التي طرحها الأهل على أنفسهم خلال حقبة كورونا قبل أعوام قليلة من يومنا هذا؟ ترى أفلم يكن جان كوكتو، إضافة إلى مواصفاته ومواهبه التي أشرنا إليها أول هذا الكلام، مستبقاً لزمنه وقلقاً على مستقبل البشرية بأكثر كثيراً مما اعتقدنا دائماً؟ حسناً لا شك أن التمعن في “الأبناء الأشقياء” و”الأهل الأشقياء” يحمل ما يخيل إلينا أنه الجواب الحاسم على هذا السؤال، من دون أن يفوتنا أن قراءة أعمال كوكتو الأخرى ومشاهدة أفلامه والتمعن في رسومه، كفيل بتوفير إجابات شافية على عشرات الأسئلة الأخرى.
المزيد عن: جان كوكتوأدب الرحلاتأدب الرسائلالحياة الثقافية الفرنسية