ثقافة و فنونعربي وصرخت العجوز ضاحكة: من أين يأتي بجداته الشيطانيات؟ by admin 21 مايو، 2020 written by admin 21 مايو، 2020 31 روائع ماركيز القصيرة بين موت ميمي وعذابات إرنديرا اندبندنت عربية/ إبراهيم العريس باحث وكاتب تروي ناقدة أدبية فرنسية أنها أهدت ذات يوم جدتها في عيد ميلادها التسعين مجلداً، يضمّ مجمل القصص القصيرة التي كتبها غابرييل غارثيا ماركيز، قبل انخراطه في كتابة رواياته الكبيرة بدءاً من “مئة عام من العزلة”، ثم راحت تُصغي بدهشة إلى قهقهات الجدة وهي تقرأ، لتسمعها في النهاية تصرّح وهي تكاد تنقلب على ظهرها من الضحك: من أين يأتي هذا اللعين بكل تلك الجدات الشيطانيات ليملأ بهن صفحاته؟ وتعلق الناقدة، أنها فهمت من فورها أنّ جدّتها تشير إلى عدة نساء يردن في القصص القصيرة، لكن بشكل خاص إلى ميمي التي تستنفر جنازتها كبار كولومبيا والعالم وصولاً إلى بابا روما في “جنازة الأم الكبيرة” (1962)، كما إلى جدة الصبية إرنديرا في القصة المتوسطة المدهشة “القصة العجيبة والحزينة لإرنديرا الساذجة وجدتها القاسية” (1972). ونعرف، أنّ هاتين القصتين تكادان، وكل على طريقتها، تساويان في القيمة ومتعة القراءة عدداً كبيراً من روايات ماركيز اللاحقة. بل يمكننا أن نقول إن علينا أن نتنبه إلى أن في تينك القصتين، لكن في عشرات القصص القصيرة الأخرى التي تضمّها أربع مجموعات، كتبها ماركيز في مراحل متفرّقة من سنوات إبداعه الأولى، التي أحسن صنعاً المترجم صالح علماني بنقلها إلى العربية معاً بلغة جذابة ومميزة، يمكن العثور على مئات العناصر والتفاصيل التي سنعود ونجدها في الروايات اللاحقة، من دون أن ننسى بعض الشخصيات التي يستعيدها الكاتب، مسنداً إليها أدواراً تبدو أحياناً غاية في الأهمية. مهما يكن من أمر، وكنوع من الردّ على السؤال الذي طرحته جدة الناقدة كان ثمة جواب لم يكف ماركيز عن ذكره هو الذي قال مرة، إن كل ما كتبه في حياته إنما كان يعرفه، وتكوّن لديه قبل أن يبلغ الثامنة من عمره. ولا ننس هنا أن غابرييل ربّاه جدّه وجدّته، وتفرّدت هذه الأخيرة بالمهمة حين تُوفِّي جده، وكان هو في الثامنة، لكن في بيت سيقول لنا غابرييل لاحقاً في كتابه “تعيش لترويها”، إنه كان “مليئاً بالأشباح” إلى درجة أنه ما إنّ تحلّ الساعة السادسة مساءً حتى يستحيل على أي طفل أن يخرج من غرفته لخوفه، وذلك في انتظار أن تطرق جدته بحذائيها الصاخبين، لتصل إلى غرفته، وتروح راوية له تلك الحكايات، التي ستتحوّل عبر عشرات السنين التالية إلى تلك الروائع التي أوصلت الطفل ليكون من أشهر كتّاب العالم، ومن أكثر الفائزين بـ”نوبل” بيعاً للكتب! العالم كله في جنازة ميمي نحن هنا بالتالي أمام صورة حقيقية لتلك الجدة القوية التي ستتنوع صورتها بين الجبروت والهيمنة، بين القسوة والحنان، التي ربما سيكون أفصح تجسّد لها بتناقضاتها ماثلاً في جدّتي القصتين الأطول: الأم الكبيرة، ميمي، وجدة إرنديرا، مع ما بينهما من فوارق، وعبر الفوارق في الموضوع والحبكة والبيئة التي يصوّر بها الكاتب عالم كل من الجدتين. فالسابقة زمنياً هي ميمي سيدة المنطقة، التي لا يشقّ لها غبار في ماكوندو، التي لا تصوّر لنا القصة الخاصة بها سوى احتضارها وموتها خلال أيام، بعدما تربّعت على عرش المدينة ومقدراتها الاقتصادية، ونظمها الأخلاقية بشكل يفوق في تسلطه، سلطة أي عراب أو زعيم عصابة في التاريخ الحديث. لقد عاشت عشرات السنين وفرضت قوانينها وسلطتها، وراحت تراقب ما ومن حولها من دون أن يجرؤ أحد حتى على التساؤل عن مصدر قوتها. اقرأ المزيد “خيانة المثقفين” لجوليان بندا: عن الذين ينسون القيم “الماضي الأبيض” لآنا أخمتوفا ذكريات السعادات الصغيرة ومن هنا، ومن دون أن يثير الأمر دهشة أحد اهتزّ العالم كله يوم تبيّن أن أيامها باتت معدودة، وراح الزعماء والرؤساء وزعماء العصابات والفاسدون والوزراء والانتهازيون ورجال الدين يصلون تباعاً إلى حيّها وبيتها، بينما كانت هي تمضي أيامها الأخيرة، وطبعاً في انتظار وصول الحبر الأعظم من روما، وقد صعقه النبأ، وأراد أن يكون في مقدمة المشيّعين، وطبعاً بينما كان الأبناء والأقرباء والأحفاد والمساعدون يهيئون الأطعمة، ويحضّرون رجل دين محدداً، لتتلو عليه “اعترافاتها” الأخيرة، وهو بالكاد قادر على الإصغاء إليها أو فهم ما تقوله. في نهاية الأمر، لن يكون من المبالغة القول إن تلك الجنازة كانت من أعظم جنازات الزمن، ومن دون أن يفهم أحدٌ لماذا؟ وكيف؟ والحقيقة أن ماركيز لم يكن مهتماً هنا بتقديم أي توضيح، هو الذي في الصفحات القليلة إنما الاستثنائية التي كتبها في وصف الحالة والجدة والجنازة والحضور، وصفاً يليق إلى حدّ مذهل بمهنته في ذلك الحين، باعتباره صحافي تحقيقات، قدّم نصّاً كان من الواضح لكل من قرأه في حينه أن ثمة هنا نواة متن أدبي رائع سيصل بصاحبه إلى فضاءات أدبية مذهلة. امرأتان في قافلة صحراوية ما نقوله هنا ينطبق بالطبع على كثيرٍ من القصص الأخرى التي يختلط فيها الخيال بالملاحظة الدقيقة بالواقع الاجتماعي بالعلاقات المتشابكة بين الناس أشراراً كانوا أم طيبين، والخلط بين هؤلاء وأولئك في بوتقة واحدة لا يُعصى على الملاحظة، وحسبنا أن نقرأ للتيقن من هذا حكاية “سيد عجوز بأجنحة هائلة”، أو “أجمل غريق في العالم”، أو “عينا كلب أزرق”، أو “قيلولة الثلاثاء”، حيث يأخذ الكاتب بأيدينا، ويسحبنا إلى عالم من الدهشة لا يحسن ابتكاره إلا حكواتي حقيقي من نوع بات نادر الوجود، ومع هذا نتجاوز إيزابيل ومونولوغها، وحواء وهرّتها، ونابو الزنجي الذي جعل الملائكة تنتظر، وسارق كرات البليار البائس والمحتار، ورحلة السفينة الشبح، وبلاكامان الطيب، وأناه/ الآخر الشرير بائع المعجزات، وحتى السيد الرئيس ورحلته الموفقة، وبائعة الأحلام، لنتوقف هنا عند إرنديرا وجدتها اللتين تشغلان القصة الأطول بين نحو الأربعين قصة التي تتألف منها المجموعات، فقصة إرنديرا وجدتها (أكثر من خمسين صفحة في الترجمة العربية، ولن تكون المتعة أقل لو أن الكاتب مدّها على عشرة أضعاف ذلك العدد!)، لدينا ذلك العالم الغريب والقاسي إنما المضحك أيضاً من دون شك، الذي سنعثر عليه لاحقاً، وبصورة مباشرة في “مئة عام من العزلة” وأخواتها. مشهد من فيلم مكسيكي مقتبس عن حكاية إرنديرا (اندبندنت عربية) ومع هذا تدور الحكاية في أرض صحراوية بائسة، ومن خلال الصبية المراهقة إرنديرا، التي تعيش لدى جدتها وفي حمايتها بعد أن لم يعد لها غيرها في هذا العالم. والجدة متقدمة جداً في العمر، لكنها امرأة بالغة القوة والجبروت تستغل حفيدتها وكأنها خادمة لديها. لكنّ الطفلة الساذجة الطيبة التي لا تجد نفسها أمام خيارات أخرى، تبدو راضية بنصيبها لا تتذمر ولا تشتكي، ولا تملّ ولا تكلّ، تقوم بكل الأشغال التي تكلفها بها الجدة. حتى اليوم الذي تتسبب فيه، لسذاجتها بكارثة تحرق البيت البسيط الذي تعيشان فيه، ما يضطر الجدة إلى البدء في الاستعانة بما لديها من احتياطي، ليس فقط لكي تواصل العيش مع الحفيدة، بل أكثر من هذا: لكي تحول عيشهما معاً إلى بيت دعارة متنقل، إرنديرا هي فتاته الوحيدة والجدة مديرته، وتخبر هذه الأخيرة حفيدتها بأنها حددت لها تسعيرة معينة، ستحررها حين تسدّد الدين الذي عليها تعويضاً على ما اقترفته. وهنا أيضاً توافق إرنديرا، وتبدأ الاثنتان التجوّل في تلك المناطق القفراء، الفتاة تبيع شرفها وجسدها للعابرين من مهربين وبائعين وجنود من دون أن تشكو، بينما الجدة تجمع الغلة يوماً بيوم من دون أن ترتوي. كل ماركيز هنا تلكم هي باختصار الحكاية العجيبة التي يرويها ماركيز في هذا النصّ، الذي سيفاجئنا في نهايته بخاتمة من الصعب توقعها، مع أنها الخاتمة المنطقية الوحيدة التي يمكن أن يقفل عليها ستار الحكاية. والحال أن هذا النوع من المفاجآت الختامية يكاد يكون السمة الرئيسة التي تطبع هذه الحكايات ما يبرر بالطبع كون ماركيز اعتُبر منذ بداية التعرف عليه كاتباً في بلده كولومبيا، كما في المكسيك، بلده الثاني رائداً أساسياً من روّاد تيار الواقعية السحرية، مع تشديد على الواقعية أكثر، في بعض الأحيان، وتركيز على السحرية أكثر في أحيان أخرى. وفي الأحوال كافة سيمكن لمدمن قراءة غابرييل غارثيا ماركيز (1927 – 2014) أن يكتشف بكل بساطة أن كل أدب هذا المبدع وسحر كتابته ماثلان هنا في تلك القصص التي كتبها عشية تحوّله إلى ذلك الكاتب العظيم الذي نعرفه. المزيد عن: غابرييل غارثيا ماركيز/مئة عام من العزلة/جنازة الأم الكبيرة/قصص ماركيز القصيرة 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post غضب حقيقي أم إبراء ذمة.. هل تستطيع أوروبا معاقبة إسرائيل على ضم الضفة؟ next post أمل دنقل رحل ولم يقل كل أسراره بعد You may also like جون هستون أغوى هوليوود “الشعبية” بتحف الأدب النخبوي 27 ديسمبر، 2024 10 أفلام عربية وعالمية تصدّرت المشهد السينمائي في... 27 ديسمبر، 2024 فريد الأطرش في خمسين رحيله… أربع ملاحظات لإنصاف... 27 ديسمبر، 2024 مطربون ومطربات غنوا “الأسدين” والرافضون حاربهم النظام 27 ديسمبر، 2024 “عيب”.. زوجة راغب علامة تعلق على “هجوم أنصار... 26 ديسمبر، 2024 رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري… الراسخ في... 26 ديسمبر، 2024 محمد حجيري يكتب عن: جنبلاط أهدى الشرع “تاريخ... 26 ديسمبر، 2024 دراما من فوكنر تحولت بقلم كامو إلى مسرحية... 26 ديسمبر، 2024 يوسف بزي يتابع الكتابة عن العودة إلى دمشق:... 26 ديسمبر، 2024 كوليت مرشليان تكتب عن: الصحافي والكاتب جاد الحاج... 26 ديسمبر، 2024 Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.