ثقافة و فنونعربي هنري ميرجيه صور حياته في مونبارناس فأصبحت أنشودة وسياحة by admin 6 يناير، 2023 written by admin 6 يناير، 2023 11 “مشاهد من الحياة البوهيمية”… تحقيقات صحافية أسست لفنون وآداب ونمط عيش مدهش اندبندنت عربية \ إبراهيم العريس باحث وكاتب من أوبرا “بوتشيني” التي لا تقل شهرة عن كبريات الأوبرات في تاريخ هذا الفن إلى أغنية شارل آزنافور التي يحفظها كل ناطق بالفرنسية منذ طفولته فتكيف نمط حياته إلى حد كبير، مروراً بالفيلم الأيقوني المصري “أيامنا الحلوة” الذي أطلق في خمسينيات القرن الـ20 عبدالحليم حافظ ممثلاً سينمائياً إلى جانب عمر الشريف وفاتن حمامة، لا يكاد أحد يجهل في العالم اليوم ما هي “الحياة البوهيمية” التي تشكل القاسم المشترك بين هذه المبدعات التي ليست هنا سوى نموذج لمئات الأعمال الفنية الكبرى التي تبدت دائماً دعوة لعيش الحياة كما هي بحلوها ومرها وربما استجابة لعبارة صلاح جاهين الشهيرة: “ما هي انتهت أحزان كتير قبلها”. كأنها بديهة كل هذا يعرفه كثر حول العالم، بل عاشه كالبديهة غالباً ويعيشه كل من يتطلع إلى الحياة بعين الرضا والفن. غير أن ما لا يعرفه كثر إنما هو الجذر الذي أتت منه كل تلك الحكاية. من أين نهل الكتاب والفنانون تلك الصور الرائعة على الرغم من حزنها والقاتلة على الرغم من تفاؤلها، التي لم تخلق إبداعات وحيوية فنية وحسب، بل خلقت في طريقها نمط عيش لا بد لكل فنان حقيقي من أن يمر به ولو للحظة في حياته، على غرار أزنافور الذي يفصله لنا بكل حنين وحنان في أنشودته الرائعة “البوهيمية”، أو بوتشيني الذي جعله عماد أوبراه التي تحمل الاسم نفسه أو حتى العنوان الأصلي، “مشاهد من الحياة البوهيمية”، وصولاً إلى الفيلم المصري الذي اقتبس الحكاية من دون أن يعترف بذلك متيحاً لـعبدالحليم حافظ أن يشدو لفاتن حمامة بأجمل أغانيه وهي على فراش الموت! البداية تحقيقات صحافية كانت البداية جملة من تحقيقات صحافية لا أكثر ولا أقل. تحقيقات نشرها صحافي فرنسي يدعى هنري مورجيه (1822 – 1861) في صحيفة لا أهمية لها تدعى “القرصان” تحدث فيها على مدى أسابيع ـ وفي قالب يكاد يكون روائياً- عن نمط حياة لفنانين مبتدئين– كان هو واحداً منهم على أي حال– يعيشون في منطقة مونبارناس الباريسية التي كانت تنافس مونمارتر الباريسية بدورها في كونها المكان المفضل للفنانين المبدعين للعيش على هواههم من دون أن يلقوا بالاً للصعوبات التي يكابدونها. من ناحية مبدئية لم يكن ثمة ما يوحي حقاً بوجود أي علاقة بين التحقيقات نفسها. كل ما في الأمر أن مورجيه اختار عدة شخصيات من بين معارفه واستعار نفسه كذلك ليحكي فصلاً بعد فصل، مشاهد مخترعة من الحياة اليومية التي يعيشها الشاب المتطلع لأن يكون فناناً. مشاهد مخترعة بالتأكيد لكنها مبنية على مكابدات حقيقية، على كل ضروب المعاناة التي يبذلها الواحد منهم للهرب من دائنيه ومن بينهم البقال ومالك البيت وجامعو الضرائب للدولة وصولاً إلى تجار اللوحات والناشرين الذين قد تتوقف عليهم حياة بأسرها ومستقبل موعود. غلاف أغنية شارل آزنافور “البوهيمي” (أمازون) تفاصيل صغيرة لقد تألفت تحقيقات مورجيه من هذه التفاصيل الصغيرة وبلغت من الواقعية والصدق إلى درجة أنك حتى في يومنا هذا، ما إن يروي لك فنانون شبان في أي بلد في العالم معاناة بداياتهم، حتى تخال نفسك تقرأ تحقيقات ذلك الصحافي البوهيمي الباريسي الشاب الذي كان له الفضل الأول في اكتشاف قدرة تلك الحكايات على أن تكون فاتنة وجذابة. وهو ما كانت عليه بالفعل، ذلك أن مورجيه إن لم يكن أول البوهيميين ولا فريداً بينهم، فإنه كان على الأقل ذاك الذي اكتشف المرحلة البوهيمية في حياة كل فنان بوصفها “مرحلة حتمية” لا بد لكل مبدع أن يمر بها. مرحلة وصفها مورجيه بنفسه، إنما بقدر كبير من المرارة بأنها “الخطوة التي لا بد منها للوصول إما إلى المشرحة إما إلى مجد الأكاديمية!”. ومن قرأ “مشاهد من الحياة البوهيمية” أو شاهد ما سينتج عنها لاحقاً من أعمال فنية لا تعد ولا تحصى، يعرف أن كل المآلات والمصائر على تناقضها، واردة وفي الوقت نفسه. ومن هنا لم يكن بعيداً من المنطق أن يختار ميرجيه بعداً روائياً يستعير من معارفه شخصيات يجعلها تتحرك أمام قارئه وسط تلك النصوص التي سيجدها هذا الأخير شخصيات روائية حيناً وشخصيات منتزعة من الحياة نفسها حيناً آخر. الشخصيات نفسها واللافت أن تلك الشخصيات كانت ولا تزال هي هي على مدى السنين. تطالعنا أحياناً بنفس الأسماء وفي أحيان أخرى وقد تبدلت تلك الأسماء بحسب الظروف والجنسيات والفترات الزمنية. أما بالنسبة إلى تحقيقات ميرجيه فلن يجد القراء المعتادون على أوبرا بوتشيني أنفسهم في أي غربة: فهنا لدينا موزيت التي لا ينفصل فعل الخيانة لديها عن العيش بألق ومرح ولا عن فعل الحب نفسه فتعرف كيف تنجح وتعيش، ولدينا ميمي العاشقة الرومانطيقية التي سيكون موتها البائس فعل عيش لرفاقها، ولكن لدينا أيضاً الرسام والكاتب والفيلسوف، لدينا مارسيل ورودولف وبائع اللوحات. وأكثر من هذا كثيراً لدينا ذلك البيت– الحلم على الرغم من تقشفه، البيت العابق بالفن والمزدحم باللوحات والأغاني والموسيقى والأوراق المتناثرة كما لدينا البرد والمرض… كلها عناصر لا بد منها لتشكيل تلك الحياة التي لن نجد لوصفها من هو في روعة شارل أزنافور في تلك الأغنية التي تعبق بالحنين ناعية مونمارتر– ولم ليس مونبارناس أيضاً؟ وقد تحولتا إلى مقصد سياحي، لا أكثر. مقهى في مكان ما… هو عالم من المؤكد أنه انزاح كثيراً عن أماكنه القديمة التي صورها مورجيه في “مشاهد من الحياة البوهيمية” واستعارها بوتشيني مكاناً لأوبراه الخالدة، ولكن هل ترى هذا العالم قادراً بعد على أن يحكي ما عنده من دون ذلك المقهى الشهير الذي يشكل جزءاً أساسياً من الديكور؟ في أغنيته يجعل أزنافور من المقهى معادلاً لبيت الفنانين. ولدى بوتشيني يبدو المقهى جزءاً من عالم داخلي يطل على الخارج. وهما على أي حال، الوظيفتان اللتان يسندهما مورجيه إلى المقهى نفسه في تحقيقاته. ولعل ما من صورة لمقهى باريسي من هذا النوع تبدو أجمل وأكثر صدقاً مما يفصله لنا ميرجيه ليس في فصل خاص من فصول تحقيقاته، وإنما على طول التحقيقات كلها. فالمقهى هنا ليس فقط مكاناً للقاء. هو مكان للعيش يستكمل العيش في البيت، لا سيما في الشتاء حين يعجز الفنانون عن تأمين ما سيكون أهم من التغذية بالنسبة إليهم، أي التدفئة فلا يجدون أمامهم إلا ذلك المقهى في الطابق الأسفل من حيث يعيشون ضاربين الصفح عن ضرورة الطعام إلا إذا تكرم عليهم زبون عابر أو حتى “الطباخة” زوجة صاحب المطعم في غفلة عن زوجها بطبق أو بقايا طبق! والمقهى إلى هذا وإلى كونه الحضن الدافئ الذي لا يكلفهم اللجوء إليه قرشاً، قد يحدث أحياناً أن يقتني صاحبه لوحة مقابل وجبة أو وجبتين ليتبين بعد عقود أنها لوحة يمكن أن تباع بالملايين ولكن بعد زمن طويل من رحيل راسمها أو وصوله إلى مجد منشود أو إلى مشرحة تخلصه من عذاباتها. من الحياة إلى القارئ طبعاً لم يأت هنري ميرجيه بأي شيء من هذا كله من عنده. كل ما في الأمر أنه صور بقلمه ليس فقط حياة وجدها تحيط به منذ شبابه المبكر فقال في نفسه “ولمَ لا نحولها إلى تحقيقات صحافية؟”. وعلى هذا النحو ولد عمل بدا للوهلة الأولى غريباً من نوعه طريفاً في فكرته لكنه من النوع الذي يمكن لأي كان أن يقول إنه كان في وسعه هو أن يقوم بالعمل. حسناً، يومها قام به ذلك الفنان الشاب “النكرة” فلم يعد نكرة منذ ذلك الحين هو الذي كان في إمكانه أن يقول بعد كل شيء: “لقد وجدت أمامي نصاً عن حياة يلح عليّ أن ألتقطه وأدونه ففعلت”. وهو فعل ذلك دون أن يخطر في باله ولو للحظة أن تلك التحقيقات التي راح ينشرها في جريدة لا يبالي بها أحد، ستفعل لباريس وتاريخها الفني، ما لم تفعله مجلدات وألوف الصفحات على مدى مئات السنين! المزيد عن: شارل آزنافور\أوبرا\الحياة البوهيمية\هنري مورجيه\منطقة مونبارناس الباريسية 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post وَفدٌ اقتصادي كندي في زيارة لِثلاث دول خليجية next post الرجل والمرأة يبحثان عن وحدتهما القديمة تشكيليا You may also like استعادة كتاب “أطياف ماركس” بعد 20 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 تحديات المخرج فرنسوا تروفو بعد 40 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 21 قصيدة تعمد نيرودا نسيانها فشغلت الناس بعد... 28 نوفمبر، 2024 الرواية التاريخية النسوية كما تمثلت لدى ثلاث كاتبات... 28 نوفمبر، 2024 بودلير وهيغو… لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم... 27 نوفمبر، 2024 شوقي بزيع يكتب عن: شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد... 27 نوفمبر، 2024 محمود الزيباوي يكتب عن: ماجان القديمة …أسرارٌ ورجلٌ... 27 نوفمبر، 2024 «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد 27 نوفمبر، 2024 محمد خيي ممثل مغربي يواصل تألقه عربيا 27 نوفمبر، 2024 3 جرائم سياسية حملت اسم “إعدامات” في التاريخ... 27 نوفمبر، 2024