الرحلة الإستشراقية (المكتبة الفرنسية الوطنية) ثقافة و فنون هل يصمد أدب الرحلة في عصر التكنولوجيا البصرية؟ by admin 1 ديسمبر، 2024 written by admin 1 ديسمبر، 2024 20 رحلات بين ثقافة الأنا والآخر واستعادة نوع تاريخي واكتشاف عوالم بين التاريخ والجغرافيا اندبندنت عربية / نشوة أحمد حول راهن أدب الرحلة العربي ومستقبله في عصر التكنولوجيا وتفوق الصورة، تحدث عدد من المهتمين العرب بهذا الشأن إلى “اندبندنت عربية”. في االبداية يصف مدير “المركز العربي للأدب الجغرافي” في أبوظبي الشاعر نوري الجراح نص الرحلة بأنه “مرآوي متعدد الطبقات والمستويات والتطلعات”، مؤكداً أن لكل رحالة حكاية، ولكل رحلة حكايات مرجعها اختلاف طبيعة الرحالة واهتماماته ونظرته للأشياء وثقافته وعمله والغاية من رحلته. ويرى أن هذه النصوص المذهلة في ثرائها المعرفي تساعد على ترميم الثغرات وبناء السطر التاريخي وإعادة كتابة التاريخ. ويؤكد أن العرب هم مؤسسو أدب الرحلة، أو ما يمكن تسميته الأدب الجغرافي بفروعه المتعددة، ومنها على سبيل المثال الجغرافيا المتخيلة، كما في “التوهم” للمحاسبي و”رسالة الغفران” لأبي العلاء المعري و”الرحلة الأخروية” للغرناطي، وأنهم كانوا منضبطين في نصوصهم، سواء كتبوا عن رحلة في المخيلة أو في الواقع. لكن هذا الأدب الذي يعده الجراح أدباً معرفياً من طراز رفيع، تعرض – على حد قوله – للتجاهل في النصف الثاني من القرن الـ20، على عكس النصف الأول من القرن نفسه. كما أنه حتى وقت قريب لم يكن مجموعاً أو متاحاً في مكان واحد، بل كان موزعاً في كل من مصر والمغرب وسوريا والعراق. ومن هنا – كما يوضح الجراح – جاءت فكرة تأسيس مشروع في أدب الرحلة، بدأ باستثمار نصوص مطبوعة – من نسخة واحدة – كانت تمثل ثروة حقيقية شملت كل الكتب القديمة التي صارت خارج التداول لنصوص رحلة ويوميات، وكانت – بوصفه – مادة أولى مدهشة حوت مؤلفات شديدة الأهمية، ثم كان الاتجاه بعد ذلك نحو بحث وجمع النصوص وتحريرها وتدقيقها. إعادة البريق رحلة ابن بطوطة بريشة الواسطي (صفحة الواسطي – فيسبوك) وحول تأثير هذا المشروع الذي يقوم على جهود أهلية، ويرعاه الشاعر الإماراتي محمد السويدي، يقول الجراح: “الآن وبعد 25 عاماً من التأسيس أنجزنا خزانة تضم نحو 340 كتاباً، موجودة في كل مكتبات العالم العربي، من بينها رحلات بالغة الأهمية مثل رحلة العياشي ورحلة الحجوي والثعالبي وابن فضلان ومحمد الغساني الأندلسي، وغيرها من كتب تضمنت قراءة موضوعية للآخر، على مستوى البنية السياسية والاجتماعية والحياة اليومية”. ويردف: “لقد نجحت جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة، التي أطلقها المركز قبل ربع قرن في إعادة البريق لأدب الرحلة، إذ قدمت كشفاً عن أدب كان مهملاً أو مرتبطاً بغيره ثم بات –بفضلها – أدباً يعتد به في الثقافة العربية”. الشاعر نوري الجراح (صفحة الشاعر – فيسبوك) ويقيم الجراح حضور أدب الرحلة عربياً، مؤكداً أن مصر حققت تقدماً في هذا الصدد لحقبة من الزمن، لكنها ربما تشبعت منه، فلم يعد جاذباً أو مستقلاً بذاته، ومن ثم تراجع لمصلحة الرواية. وينتقد “المركزية المصرية” التي “أثرت سلباً في نص الرحلة، فكان من نتائجها إهمال كنوز عربية من هذا اللون الأدبي”. كما ينتقد اعتماد بعض المفكرين والباحثين المصريين على الطهطاوي كمرجع وحيد في هذا الحقل، الذي أبدع فيه مصريون آخرون، مثل حسن توفيق العدل صاحب كتاب “رسائل البشرى في السياحة بألمانيا وسويسرا”. ويرى أن الاكتفاء بالطهطاوي ليس سوى استفقار للدرس، في ظل زخم من نصوص تعكس ثراءً حقيقياً. لكنه يرى أيضاً أن الأمر بدأ يتغير في الآونة الأخيرة، مدللاً بإنتاج باحثين مصريين اتجهوا لدراسة رحالة غير مصريين، ومنجز غير مرتبط بمصر، لرحالة سوريين قدامى من حماة وحمص وحلب ودمشق وآخرين من القدس. في المقابل يرصد تقدم أدب الرحلة في المغرب، سواءً في المطبعة أو في الحقل الدراسي الأكاديمي، “حتى بات هناك بحر من النصوص خصوصاً من رحلات الحج، وكذا من الرحلات إلى أوروبا”. ويرجع تقدم المغرب في نص الرحلة إلى الاعتماد على مناهج حديثة فرنسية وإنجليزية، إضافة إلى النزوع باتجاه الآخر، “الذي ترسخ لدى عدد كبير من الرحالة المغاربة، منذ القرن الـ19”. رحلة تاريخية (كتاب منى خزندار) ويؤكد حضور مصر القوي في نصوص الرحلة المغربية “لأنها كانت دائماً واسطة هذه الرحلة”، مشيراً إلى أن كثيراً من الرحالة المغاربة، مثل العقدري والعياشي والناصري وبن روشيد والمكناسي وغيرهم مروا بمصر، وكانت النتيجة كثرة عدد الكتب التي كتبت عنها، وتناولت جغرافيتها وناسها وحضارتها وعمرانها وعلاقاتها الاجتماعية وأسواقها ومعالمها. واشتمل هذا التناول – على حد قوله – على جانبين “أحدهما مشرق، والآخر صادم”. مغالطات وتزييف على رغم انضباط الرحالة العرب وموضوعية رؤيتهم للآخر فالأمر لم يكن كذلك في الرحلة العكسية، إذ يؤكد الجراح أن الرحالة الغربيين كثيراً ما أوردوا مغالطات كبيرة ومفزعة عن الشرق، ويدلل بفلوبير قائلاً: “إننا نتعامل مع جوستاف فلوبير صاحب رواية ’مدام بوفاري‘ كأديب فرنسي كبير، والحقيقة أن له جانباً أسود لا يعرفه كل الناس، وهو التجني خلال كتابة اليوميات، الذي وصل إلى مرحلة مقززة”. ويحكي عن تجربة إسناده ترجمة هذه اليوميات لأحد المترجمين، الذي توقف في مرحلة ما، رافضاً مواصلة الترجمة، “لما بها من مغالطات وأكاذيب”. ويقول: “حينها طلبت منه أن يترجم كل كلمة في النص، لأن من حق القارئ العربي أن يعرف تماماً موقف هذا الكاتب، وفي المقابل ذهبت إلى كتاب ’الاستشراق‘ لإدوارد سعيد، واستخرجت منه مقطعاً يتحدث فيه عن فلوبير في مصر وعن نيرفال، ونشرته كمقدمة للكتاب، حتى يعرف القارئ موقف هذا الكاتب من هذه الأمة، الذي يشوبه الاستعلاء والتدليس”. رصيد كبير سفينة ابن بطوبطة (صفحة ابن بطوطة – فيسبوك) ومن جانبه، يقول الشاعر والإعلامي المغربي ياسين عدنان: “الرحلة جنس أدبي راكم فيه العرب كثيراً من الأعمال وتفوقوا فيه، فكان الرحالة القديم ينطلق من بلده ومدينته، يصف خروجه في الرحلة، أهدافها وأسبابها، ثم يتدرج في التنقل عبر الأمصار، ويكتب مشاهداته ولقاءاته ويصف المكان، سواءً ما رآه رأي العين أو ما تصوره بعين الخيال”. ويكمل: “هذا الرصيد الأدبي الكبير في الرحلة أتلقاه شخصياً باهتمام وأتعلم منه، ولكنني أحاول أن أتجاوزه. لذا أكتب رحلتي اليوم خارج خطية السفر، مثلاً في ’مدائن معلقة‘ أعود إلى مراكش ولا أبدأ منها، بل أنطلق في الكتاب من الأندلس. وأعود عبر تقنية الفلاش باك إلى الجزائر التي كانت أول محطة لي خارج المغرب. وفي ’دفتر العابر‘ أيضاً تتلاحق الأماكن والمدن والمطارات والفضاءات من دون أن يحكمها أي التزام كرونولوجي بتوالي الرحلات وتعاقب الأسفار”. ويعلل لجوءه للتجريب في الرحلة عبر استخدام الشعر والتدوين قائلاً: “كانت لدي رغبة في اقتحام مجال الرحلة الشعرية، التي لم أقرأ فيها شيئاً في الأدب العربي، ولا حتى في آداب أخرى معاصرة، لذا قررت أن أكتب ’دفتر العابر‘ على هذا النحو ليكون رحلة شعرية، فيما جاء السرد في ’مدائن معلقة‘ حراً متدفقاً ومنفتحاً على مختلف أشكال القول الأدبي”. ويوضح أن العمق الذي أراد أن يبلغه من خلال كلا الكتابين هو اللقاء الحر مع الآخر، الحوار معه واكتشاف الفضاءات الطبيعية والعادات السوسيوثقافية للبلدان التي يزورها. هذا هو جوهر الرحلة بالنسبة إليه بغض النظر عن شكل الكتابة ما إذا كان شعراً أو تدوينة. فما دامت التدوينة بحسب قوله “تتيح فكرة توثيق الأسفار والرحلات فهي شكل كتابي، وربما أدبي جديد لا بأس من استخدامه لتطوير فن الرحلة وتحديث كتابتها”. الشاعر المغربي ياسين عدنان (صفحة الشاعر – فيسبوك) يؤكد عدنان تفوق المغاربة في كتابة الرحلات، مشيراً إلى ما اشتهروا به من كتابة رحلاتهم الحجية، التي تعد تقليداً بالغ الأهمية لديهم. ويدلل بأمثلة عديدة، منها “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار” لابن بطوطة، وكان بالأساس رحلة حجية على غرار باقي رحلات المغاربة، الهدف الأول منها حج بيت الله الحرام. ويخلص إلى أن المغاربة تبنوا هذا التقليد في تدوين رحلاتهم الحجية نتيجة طول الرحلة، التي تمتد من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق. ويلفت إلى مفارقة استمرار محافظة المغاربة على هذا التقليد حتى اليوم، مدللاً بكتاب رحلة الأنثروبولوجي عبدالله حمودي، الذي صدر باللغة الفرنسية، وصدرت ترجمته بالعربية عن دار الساقي تحت عنوان “حكاية حج… موسم في مكة”، والرحلة الحجية للكاتب أحمد المديني بعنوان “الرحلة إلى بلاد الله”. ويؤكد أن أدب الرحلة في المغرب لم يقتصر على الرحلة الحجية، بل إن هناك عديداً من الرحلات الأخرى إلى أوروبا، ومعظمها رحالة سفارية، فتحت المغاربة على الحوار مع الآخر، وهو يريد لرحلته اليوم ألا تحيد عن هذا المسعى: مسعى الحوار الدائم والمستمر مع الآخر. وعن تأثير هذا التراث في تجربته يقول عدنان: “إذا كان المغاربة قد حافظوا على تقليدهم في كتابة الرحلة، فأنا ابن هذا التقليد وأحاول أن أجدد فيه، ولست وحدي، وإنما هناك عدد من الأدباء المغاربة، منهم عبدالرحيم لحبيبي، صاحب رواية “تغريبة العبدي” التي سبق لها أن بلغت القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية”. ويضيف: “هناك أيضاً من ذهب بالرحلة إلى السينما كما في فيلم ’الرحلة الكبرى‘ للمخرج إسماعيل فروخي، الذي حاز جائزة أسد المستقبل من مهرجان البندقية، وكان موضوعه رحلة حجية أيضاً، وهذا ما يدل على ما للرحلة الحجية من رسوخ في الوجدان الأدبي والفني للمغاربة”. تبدل الملامح والغايات السفر بريشة جاك كارتييه (صفحة الرسام – فيسبوك) وحول مستقبل أدب الرحلة في عصر غيرت تكنولوجيا الاتصال مفرداته وملامحه، يشدد عدنان على أن التحدي كبير وصعب، وليست الحال كما كانت في العصور السابقة، التي سمحت للرحالة بالمبالغة والتخييل، فنحن الآن – على حد وصفه – مكشوفون تماماً بسبب التكنولوجيا، فلا يمكن لكاتب أدب الرحلة أن يبالغ، أو أن يضيف شيئاً من وحي خياله كما كان يفعل القدماء، الذين تحفل رحلاتهم بعديد من المبالغات، التي تجعل بعض سرودهم أقرب إلى الأدب العجائبي منها إلى أدب الرحلة. ويوضح أن الغاية من أدب الرحلة اليوم لم تعد إدهاش الناس بالمعلومات والصور، في ظل إمكانية الحصول عليها من القنوات المتعددة، التي تقدم الصورة الحية عن الأماكن والمدن والطبيعة في مختلف بلدان المعمورة. ويرى أن العبرة بالنسبة إلى كاتب الرحلة المعاصر تكمن في الإحساس بالمكان، لأن القارئ الذي يقرأ هذا النوع من الأدب ليست أولويته التعرف إلى الأمكنة، وإن كان ذلك لا ينفي أن يكون التعرف إلى المكان جزءاً من أهدافه، لكنه بالأساس يقرأ أدباً يستمتع فيه بحساسية الكاتب وطريقة تلقيه للمكان واللغة التي يعيد بها تشكيل هذا المكان، فارتفاع منسوب هذه الحساسية – وفقاً له – هو ما يحقق للنص الرحلي الجديد أدبيته. ويستطرد قائلاً: “إن تفكيري في الرحلة ومحاولتي التجريب الأدبي فيها عبر كتابتها بالشعر والتدوينة هو محاولة لتعزيز أدبية هذه المغامرة، مغامرة أن تكتب رحلة أدبية حديثة معاصرة”. أسبقية أدب الرحلة الرحلة الحديثة (سوشيل ميديا) وعن تجربتها في أدب الرحلة تقول الكاتبة المصرية منصورة عز الدين: “إن اهتمامي بأدب الرحلة سابق على اهتمامي بالكتابة، فالرغبة في التعرف إلى الآخر رغبة فطرية، وربما هذا ما جعل أدب الرحلة أقدم أنواع الأدب، ولعل ما كتبه هيرودوت عن مصر يثبت ذلك”. وتضيف: “الارتحال نفسه أثر في كتابتي من دون قصد، ولم يحدث ذلك بصورة واعية، وإنما تحول مفهوم الرحلة من دون وعي مني إلى مفهوم مركزي في كتابتي، وحتى على مستوى الذات، فالارتحال يغير الذات بصورة أساس”. وحول نشأة هذا النوع من الأدب تؤكد أسبقية وقدم أدب الرحلة في مصر الفرعونية، وتدلل بـ”حرخوف” ورحلاته إلى قارة أفريقيا، وكذا “سنوحي” ورحلته الشهيرة إلى سوريا هرباً من الصراعات والاضطرابات السياسية، التي أعقبت وفاة الملك “أمنمحات الأول”، ودونها على جدران مقبرته. الروائية منصورة عز الدين (صفحة الكاتبة – فيسبوك) أما عن أدب الرحلة في الثقافة العربية فترصد سماته مقارنة بنظيره الغربي قائلة: “يتميز أدب الرحلة العربي القديم في معظمه بالنزوع العلمي والموضوعي في نظرته إلى الآخر، على العكس من النزوع الاستعماري الاستعلائي لكثير من الرحالة الغربيين في رحلاتهم إلى الشرق”. وتضيف: “كانت رحلات الحج من أهم روافد أدب الرحلة عربياً، ولعل واحدة من أهم تلك الرحلات، رحلة الفارسي ناصر خسرو الذي اتجه للمنطقة العربية من أجل الحج، فظل بها لمدة سبع سنوات، ثلاث منها قضاها في مصر”. وترى أن أدب الرحلة، رحلة في الزمان أيضاً وليس في المكان وحسب، وهذا ما يتضح – وفقاً لها – عند المقارنة بين ناصر خسرو وعبداللطيف البغدادي، وكلاهما كتب رحلته إلى مصر، ويتضح عبر كتابيهما تباين رؤية المكان نفسه في زمنين مختلفين، ثم حين نقرأ نحن كتب الرحلات القديمة نرتحل معها إلى أزمان سابقة. ما يخفيه التاريخ تؤكد عز الدين أن أدب الرحلة يكشف جوانب مخفية قد لا يفصح عنها التاريخ، ليس كشفاً موثوقاً في كل الأحوال، لكن عبر المقارنة والقراءة النقدية لكتابات متنوعة تتناول الفترة ذاتها يمكن أن يكون أحد مصادر التأريخ، وتضيف: “لا يوجد تاريخ نهائي بل هناك مجموعة تواريخ، والتاريخ في النهاية يمكن أن يعتمد على دراسات مقارنة لرؤى هؤلاء الرحالة، فمن يقرأ مثلاً كتب ابن حوقل والبغدادي وناصر خسرو، يجد كثيراً من التشابهات التي يجمع عليها ثلاثتهم، وإن اختلفت رؤية كل منهم لها واختلفت الفترة الزمنية التي يتناولها، وهذا ما يجعل كتابتهم هم وغيرهم شهادات يمكن الارتكان إليها، بوصفها مصدراً يضاف إلى مصادر أخرى، مع الوعي بأنها شهادات ذاتية في الأساس. وعن الأثر السلبي للوسائط الحديثة في أدب الرحلة، وإذا ما ترتب عليها تراجع في أهميته، تقول عز الدين: “لا يجب التعاطي مع أدب الرحلة وفق مفهوم بدائي يحصره في فكرة دليل للسفر يمكننا الحصول عليه عبر وسائط تقنية، لأنه من أكثر أنواع الكتابة التي تتسم بتاريخ حافل ومتنوع، ومنفتح على العلوم والآداب الأخرى، مثل الاجتماع والفلسفة والأنثروبولوجيا، وهذا الانفتاح سمة أصيلة فيه منذ القدم”. وتردف: “لا بد أيضاً من الاعتراف بأن التكنولوجيا تجبرنا على أن نكتشف مدخلاً جديداً لكتابة الأماكن، لكنها في الوقت نفسه لن تقدم ما يمكن أن يقدمه كاتب ينقل المكان بعينه وخبراته ولغته وخلفيته الثقافية”. المعاصر والتراثي الكاتب العراقي باسم فرات يرى أن غالبية كتاب أدب الرحلات المعاصرين غير مطلعين على التراث الرحلي العربي، لكنهم كتبوا نتاجهم، مستفيدين من تقنيات الكتابة الـمتنوعة، شعراً وسرداً، فضلاً عن الاستفادة من تقنيات السينما، وإن كان بعضهم يكتب أدب رحلات غير مستوف شروط هذا الأدب المميز، إما لأن المكان غير طاغ في نصهم الرحلي، أو لأن السرد القصصي أو الروائي هو الطاغي عليه، مما يجعل كتابته أقرب إلى روح الرواية منها إلى أدب الرحلات، فضلاً عن الخلط بين النص الرحلي والتحقيق الصحافي الاستقصائي. ويؤكد أن أدب الرحلات أدب مكاني “جغرافي”، قريب من أدب السيرة، لهذا يتضمن أدب الاعترافات أيضاً، ويتطلب معلومات دقيقة في مجالات الجغرافيا والتاريخ الثقافي والاجتماعي للمكان. ينفي فرات ما يثار حول تراجع أدب الرحلة قائلاً: إن كتب أدب الرحلات زادت كثيراً في الـ20 سنة الأخيرة، وأصبحت لها جوائزها مثل جائزة “ابن بطوطة” في الإمارات العربية المتحدة، وجائزة “ناجي جواد الساعاتي” في بغداد، فضلاً عن أن جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب خصصت جائزتها الأدبية لعام 2019 لأدب الرحلات التي فزت بها. أما جائزة الشيخ زايد للكتاب فيعد أدب الرحلات ضمن الأنواع الأدبية الداخلة فيها. ويردف: “إن أدب الرحلات هو نسيج خاص، يستفيد من الأنواع الأدبية والفنية، بل نجدها واضحة فيه لكنه يحافظ على تلك الشعرة التي تميزه وتمنحه التفرد والخصوصية”. ويؤكد أن هذا التفرد ينتج أيضاً من اعتماد هذا الأدب على المكان حاضراً وماضياً، أي الكتابة عن مشاهدات آنية، وضخ معلومات تاريخية عن المكان لتأثيثه، مشيراً إلى ضرورة أن يمتلك كاتب أدب الرحلات مهارات المصور الفوتوغرافي والباحث الإناسي في التقاط المهمل وجزيئيات الحياة، التي لا ينتبه إليها سواه. وحول التأثيرات السلبية المحتملة للتكنولوجيا في رواج هذا النوع الأدبي، يؤكد فرات أن روائح الأمكنة وعبقها تبقى عصية على الصورة والتقنيات، لأن نقلها خاص بإمكانات الرحالة اللغوية والثقافية وذائقته الجمالية في رؤية وتحسس الأشياء ونقلها عبر الكلمات. الأيديولوجيات القاتلة لم يعد من الضروري في أدب الرحلة وصف الأماكن والطبيعة، هذا ما يذهب إليه الكاتب المصري عمار على حسن، مؤكداً أن هذا الوصف لم يعد له مكان في ظل ثورة الاتصالات، التي جعلت بالإمكان التجول في أية عاصمة من دون السفر إليها، كما يلفت إلى العالم الافتراضي الذي يتيح التبضع من الشانزليزيه من دون مغادرة المنزل. ويوضح أن هذه التغيرات صرفته في كتابه “ألف نافذة لغرفة واحدة: رحلة من الطبيعة إلى الطبائع”، إلى الانشغال بطبائع البشر، في عالم تتوحش فيه الأيديولوجيات القاتلة. وحول العلاقة بين الأنا والآخر، التي هي جوهر نص الرحلة يقول حسن: “الدراسات التاريخية تخبرنا بأن أكثر الدم الذي سفك في تاريخ البشرية كان بسبب صراع الهويات”. ويتساءل: “هل نحن نستحق هذا التطاحن باسم الهويات، سواء الدينية أو الطبقية أو اللغوية أو العرقية طوال الوقت، أم أن هناك مشتركات إنسانية؟”. ويستدرك مجيباً: “ما أذهلني في حقيقة الأمر قبل كتابة هذا الكتاب أنني وجدت أن أكثر ما يوحد البشرية هو الموروث الشعبي، القصص والحكايات والأساطير، التي تتشابه إلى حد كبير وكأنها نابعة من مخيلة واحدة لذهنية واحدة، لذا فحينما تسافر وتبدأ في قبول الاختلافات والتسامح معها في المأكل والمشرب والملبس وطبيعة الحياة ونمط القيم، وتتعامل مع البشر كبشر في الأفراح والأتراح، ستجد أن ما يجمعنا أكبر كثيراً من اختلاف الألوان والأذهان، وهذا ما عنيت به في كتابي”. ومن هذه المعطيات يخلص إلى ضرورة أن ينشغل أدب الرحلة بمثل هذه الزوايا، مؤكداً أن وصف الطبيعة لن يقدم إضافة جديدة في ظل ثورة الاتصالات، ولن يكون المحتوى الوصفي جاذباً كما كان على سبيل المثال في كتاب “حول العالم في 200 يوم” لأنيس منصور، لأن هذا الكتاب الذي كان الناس يتخاطفونه نشر في وقت كانت الناس فيه عاجزة عن السفر، أما الآن فلم يعد الناس ينتظرون أن يزور كاتب المدن ويعود كي يحكي ويصفها لهم، فهم أيضاً لديهم حكايات وأسفار متعددة. ويرى حسن أن الأديب يستطيع، بعينه الواعية ورؤيته ذات الزوايا المتعددة وذائقته وحسه المرهف، أن يتغلغل إلى أعماق إنسانية وبشرية في أولئك الذين نسميهم “آخر”. المزيد عن: أدب الرحلةالتراثالحداثةمخطوطاتالآخرالتاريخالجغرافياالتكنولوجيارحلات الحجفلسفة الرحلة 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post إليف شفق تقع في فخ السرد الملحمي بين عوالم وأزمنة next post مخرجة تونسية تتعقب الشباب في السودان المشتعل You may also like هل هناك مدرسة فلسفية مغربية؟ 3 ديسمبر، 2024 “الجميلات النائمات” في رحلة الحب والموت 3 ديسمبر، 2024 “أعراس” لسترافنسكي: تقاليد الريف الروسي تغزو الموسيقى الأوروبية 3 ديسمبر، 2024 العراقي قيس الزبيدي ترك اثرا كبيرا في السينما... 3 ديسمبر، 2024 محمود الزيباوي يكتب عن: لُقى «سمهرم» في محافظة... 3 ديسمبر، 2024 “أيام الرخص” تسترجع الأربعينيات الليبرالية في مصر 2 ديسمبر، 2024 مهى سلطان تكتب عن: الفن والجنون وجهان لعبقرية... 2 ديسمبر، 2024 ما حدود قدرة كُتاب الظل على نقل التجارب... 2 ديسمبر، 2024 برامانتي بصحبة ليوناردو سنوات بداياته في خدمة آل... 2 ديسمبر، 2024 مرصد كتب “المجلة”… جولة على أحدث إصدارات دور... 2 ديسمبر، 2024