الجمعة, ديسمبر 20, 2024
الجمعة, ديسمبر 20, 2024
Home » هل كاد الجاسوس كوهين أن يرأس سوريا؟.. إسرائيل واختلاق أسطورة

هل كاد الجاسوس كوهين أن يرأس سوريا؟.. إسرائيل واختلاق أسطورة

by admin

روّجت التقارير الإسرائيلية أن كامل أمين ثابت كان قد تعرف على اللواء أمين الحافظ عندما كان ملحقا عسكريا بالسفارة السورية في بيونس آيرس، وقد دعاه شخصيا إلى زيارة سوريا والإقامة فيها، لكنه لم يلبها بسرعة خوفا من كشف سره وبناء على توصية صارمة من مشغليه

الجزيرة \ زهير حمداني

أنهى كامل أمين ثابت يومه الحافل في دمشق الذي تخللته الكثير من المقابلات، وختمه بجلسة مهمة في مقهى بحي أبو رمانة الراقي. عاد إلى بيته غير البعيد منهكا. كان عليه أن ينهي الأمر الأهم. دلف إلى مكتبه وبدأ يتحضر لكتابة برقيته المشفرة، قبل أن ينقض عليه عناصر المخابرات السورية. بعد أربعة أيام من الإنكار والمراوغة أفصح عن هويته الحقيقية: “أنا إيلي كوهين، من إسرائيل”.

نزلت كلماته كالصاعقة على مدير المخابرات العقيد أحمد سويداني والرائد محمد وداد بشير. طوال شهر ونصف قبل ذلك راقب عناصر المكتب الثاني تحركات كامل أمين ثابت بدقة. تأكدوا أنه عميل لدولة أجنبية رجحوا أنها مصر أو العراق، لكن ليس إسرائيل. في تل أبيب، أيقن مشغّلوه أن جاسوسهم الثمين في سوريا قد وقع في المصيدة.

بمجرد أن طُلب منه إرسال برقية إلى مشغليه بشفرة مورس نفسها، نفّذ ما تدرب عليه. بدأ الرسالة التي أُمليت عليه بالتحية التي تسبق عادة أي كلام، وكان ذلك يعني للموساد أنه سقط، فالتعليمات الصارمة التي تلقاها تفيد بأن يبدأ أي رسالة دون مقدمات أو تحية في الحالات العادية، وعكسها إذا كان يكتبها تحت الضغط.

آخر برقية أرسلها الجاسوس إيلي كوهين قبل إلقاء القبض عليه (مواقع التواصل)

كانت نص البرقية “البتراء” السابقة التي أرسلها كوهين إلى تل أبيب قبل القبض عليه يوم 19 فبراير/شباط 1965 -دون سلام أو تحية أو مقدمات- “لقاء في رئاسة أركان الجيش السوري أمس مساء على الساعة الخامسة مع أمين الحافظ وكبار الضباط”، وهي واحدة من مئات البرقيات التي أرسلها منذ دخوله البلاد أوائل عام 1962.

صورة لإيلي كوهين في شرفة منزله بدمشق أوائل ستينيات القرن الماضي (مواقع التواصل)

عودة مغترب مزيّف

بعد رحلة طويلة بدأها من الأرجنتين، وصل المغترب السوري كامل أمين ثابت يوم 10 يناير/كانون الثاني 1962 برا إلى دمشق قادما من مرفأ جنوى. رافقه من المدينة الإيطالية شخص ملتبس وشديد النشاط يدعى ماجد شيخ الأرض، أوصله بسيارته التي تحتوي أجهزة التجسس والبث إلى دمشق عبر طريق بيروت. كان شيخ الأرض قد نسّق مسبقا مع صديقه ضابط الأمن نصر الدبن وانلي الذي سهل العبور دون تفتيش أو تدقيق صارم في الهويات.

وأكدت عدة تقارير إسرائيلية أن ماجد شيخ الأرض هذا كان عميلا للمخابرات المركزية الأميركية (CIA) منذ سنوات. لاحقا تمكنت المخابرات السورية من رصد نشاطاته وراقبته، لكنها لم توقفه إلا أثناء القبض على كوهين، وحكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات وفق سجلات المحاكمة.

استفاد كامل أمين ثابت من سمعته وعلاقاته التي كوّنها في أوساط الجالية السورية في بيونس آيرس، فقد حمل معه أربع توصيات من أشخاص عرفهم هناك إلى أقارب لهم في دمشق، من بينها توصية خاصة من صاحب مجلة “العالم العربي” الصحفي عبد اللطيف الخشن إلى نجله كمال، فقّدمه إلى الضابط معزّي زهر الدين، الذي سيستمد أهميته لاحقا بالنسبة لكوهين من منصب خاله رئيس الأركان ووزير الدفاع عبد الكريم زهر الدين.

أقام كامل أمين ثابت في غرفة بفندق “أمبسادور”، ليجد له أصدقاؤه سريعا منزلا بالمواصفات التي طلبها في حي أبو رمانة الراقي. كانت شقة في الطابق الرابع، وتقع بالقرب من مقرّ قيادة الأركان وقصر الضيافة ومعظم السفارات وسكن نخبة الأثرياء والكثيرين من القيادات السورية في ذلك الوقت، وبعد شهرين أرسل برقيته الأولى إلى مشغلّه بالموساد على شكل شيفرة من رقمي 88، وتعني وجدت بيتا لأسكن فيه في دمشق.

طوال ثلاث سنوات لاحقة، استمرت برقياته المشفرة بمعدل اثنتين كل أسبوع، بحسب المصادر الإسرائيلية. وبين 15 مارس/آذار و29 أغسطس/آب 1964 أرسل أكثر من 100 برقية إلى إسرائيل، تتضمن معلومات عن جلسات الحكومة وأصحاب مراكز القوة في الجيش والحزب وعدد الدبابات وتمركزها في القنيطرة، وفق التقارير الإسرائيلية.

كانت المهمة الرئيسية الموكلة لكوهين هي مطاردة الضابط النازي لويس برونر مساعد أدولف إيخمان (المسؤول النازي الذي اختطفه الموساد من الأرجنتين عام 1961 وتم إعدامه). وكان برونر قد هرب فعلا إلى سوريا وغيّر اسمه إلى جورج فيتشرد، وصار يعمل في مجال الاستيراد والتصدير بمشاركة شخص سوري، وكانت المخابرات السورية تعلم بوجوده، كما ذكر مسؤولون سوريون.

تناسب “ساتر” (غطاء عمله الاستخباري) رجل الأعمال الذي اختاره الموساد لكامل أمين ثابت منذ أن زرعه في الأوساط السورية في بيونس آيرس تماما مع طبيعة مهمته، فقد أمّن له أعمالا تجارية وفّرت له تمويلا ذاتيا وحضورا في المجتمع الراقي دون أن يثير شبهات، فهو رجل مغترب ثري، رغم أن البعض استغرب تقتيره، وكان من الطبيعي أن يتسابق كثيرون في دمشق لكسب وده دون أن يبذل جهدا كبيرا.

عصر الانقلابات

يوم 28 سبتمبر/أيلول1961، قاد ضباط بقيادة العقيد عبد الكريم النحلاوي (يبلغ الآن 97 عاما) رتلا من الدبابات باتجاه القيادة العامة للجيش، ووضع المشير عبد الحكيم عامر (1919-1967)، نائب رئيس الجمهورية العربية المتحدة وحاكم الإقليم الشمالي قيد الإقامة الجبرية في مكتبه، قبل أن يغادر دمشق مساء إلى القاهرة. أجهض هذا الانقلاب أول تجربة وحدة اندماجية في التاريخ العربي المعاصر، وأكد تواصل موجة الانقلابات العسكرية بسوريا، منذ انقلاب حسني الزعيم يوم 30 مارس/آذار 1949 على الرئيس شكري القوّتلي، وكرّس عدم الاستقرار السياسي في البلاد.

في هذه الأثناء، كانت إسرائيل تراقب الوضع السوري عن كثب وترصد التحولات التي أصبحت محط اهتمام كبير للموساد، وتسعى لجمع أكبر قدر من المعلومات العسكرية والاقتصادية والسياسية. وكأي جهاز مخابرات كانت تحتاج إلى جاسوس استثنائي وعميل من الداخل وقريب من الجميع.

أواخر عام 1963، استُدعي كوهين إلى تل أبيب، وأُعلم أن مهمته قد تغيرت. شكّلت التحولات السياسية التي شهدتها سوريا عاملا مهما يستوجب وجود مصدر معلومات مهم، وبدا أن العلاقات والقنوات الجديدة التي فتحها كامل أمين ثابت أكثر أهمية من مجرد مطاردة ضابط نازي.

كان تقييم الموساد حسب التقرير الأرشيفي الذي نشرته صحيفة يديعوت أحرنوت “يمكث كوهن في دمشق بنجاح كبير وينسج علاقات واسعة وتغمره السعادة هناك”، مستفيدا من تدريبه ومن معارف سابقة وأخرى كوّنها، خصوصا مع معزّي زهر الدين، ابن شقيق اللواء عبد الكريم زهر الدين وزير الدفاع ورئيس الأركان كذلك.

في مرحلة ما بعد الانفصال، أصبح ناظم القدسي رئيسا للجمهورية وعبد الكريم زهر الدين وزيرا للدفاع وقائدا للجيش، وتداول على رئاسة الحكومة عدة شخصيات، من معروف الدواليبي إلى بشير العظمة في أبريل/نيسان 1962 ثم خالد العظم في سبتمبر/أيلول 1962.

وفي 8 مارس/آذار 1963 حصل انقلاب آخر قاده ضباط موالون لحزب البعث العربي الاشتراكي، وتم تعيين مجلس وطني لقيادة الثورة برئاسة لؤي الأتاسي، وأصبح اللواء أمين الحافظ وزيرا للداخلية في حكومة صلاح البيطار ثم رئيسا للمجلس الرئاسي في يوليو/ تموز. وبات صلاح جديد قائدا للجيش والرجل القوي في البلاد، بينما اعتقل سلفه عبد الكريم زهر الدين ليطلق سراحه بعد أشهر، وانتهى بذلك دوره العسكري والسياسي، وكذلك ابن أخيه معزي كمصدر معلومات مهم لكوهين بعد أن تم تسريحه.

روّجت التقارير الإسرائيلية أن كامل أمين ثابت كان قد تعرف على اللواء أمين الحافظ عندما كان ملحقا عسكريا بالسفارة السورية في بيونس آيرس، وقد دعاه شخصيا إلى زيارة سوريا والإقامة فيها، لكنه لم يلبها بسرعة خوفا من كشف سره وبناء على توصية صارمة من مشغليه.

من جهته نفى أمين الحافظ حصول ذلك في أكثر من مناسبة، كما في برنامج “شاهد على العصر” على قناة الجزيرة، وأكد الرئيس السوري الأسبق أن كامل أمين ثابت (إيلي كوهين) كان قد غادر الأرجنتين فعلا قبل أن يصلها هو في 31 ديسمبر/كانون الأول 1961.

كوّن كامل أمين ثابت بمساعدة ماجد شيخ الأرض علاقات قوية في دمشق، وأضحى شخصا محبوبا ومقصودا من الجميع تقريبا، وتشير التقارير الإسرائيلية -التي استندت عليها عمليا كل السرديات الأخرى- إلى أنه كان يزور جبهة الجولان ويطّلع على التحصينات العسكرية فيها، ويحلّ ضيفا على كبار الضباط والسياسيين وعلى برامج بالإذاعة السورية، كما كان على علاقة وثيقة أيضا مع إعلاميين، وخصوصا جورج سيف مسؤول القسم اللاتيني بإذاعة دمشق، وأكدت تقارير إسرائيلية أن جورج سيف كان بدوره عميلا للموساد.

طُلب من كامل أمين ثابت أن يكون محايدا ومقبولا من الجميع ليتمكن من معرفة المعلومات والتفاصيل الكافية عن الوضع في سوريا وحالة الانقسام في السلطة وداخل حزب البعث بعد تسلمه الحكم، وتلقى تعليمات صارمة بعدم الانتماء لأي كتلة أو محور، وعدم قبول العضوية في حزب البعث نفسه.

ومع كل ذلك الحذر، كان هنالك من استرعت انتباهه وأيقظت شكوكه بعض تصرفات الرجل، إذ بدا له دمثا أكثر من اللازم، واجتماعيا أكثر من اللازم، وثوريا متحمسا أكثر من اللازم، وله علاقات متشعبة في أوساط العسكريين ومنتسبي حزب البعث أكثر من اللازم، وللمفارقة بخيلا أكثر من اللازم رغم أنه رجل أعمال.

إيلي كوهين (يسار) وبعض المتهمين السوريين أثناء المحاكمة يوم 9 مايو/أيار 1965 (الفرنسية)

ميلاد كامل أمين ثابت

في عام 1924 ولد إيلياهو بن شاؤول كوهين في الإسكندرية لعائلة يهودية من أصول حلبية، استقرت في مصر قبل أن تهاجر لاحقا إلى إسرائيل. التحق في طفولته بمدارس دينية يهودية، ثم درس الهندسة في جامعة القاهرة ولكنه لم يكمل تعليمه. انضم للحركة الصهيونية وهو في العشرين من عمره، كما نشط في شبكة تجسس إسرائيلية بمصر يديرها ضابط الموساد “أبراهام دار” الذي عرف أيضا باسم “جون دارلنغ”، وتورّط في أنشطة سرية لصالح الحركة الصهيونية، حيث تولى تهريب عائلات مصرية يهودية إلى إسرائيل في بداية الخمسينيات.

ورد اسمه في تحقيقات السلطات المصرية ضمن قضية الخلية اليهودية “لافون” (Lavon Affair)، وهي عملية سرية فاشلة للمخابرات العسكرية الإسرائيلية في صيف عام 1954 تعرف أيضا بعملية “سوزانا”. وخططت هذه الخلية لتفجير أهداف أميركية وبريطانية في مصر لإحراج سلطة الضباط الأحرار الجديدة، لكن العملية كشفها الأمن المصري وفشلت بشكل مريع، وأُطلق عليها آنذاك اسم “فضيحة لافون” نسبة إلى وزير الدفاع الإسرائيلي بنحاس لافون الذي أمر بتنفيذها.

هاجر إيلياهو إلى إسرائيل عام 1957، وتزوج هناك ممرضة يهودية من أصل عراقي. عمل مترجما في بعض الصحف، وبعد فترة في وزارة الدفاع الإسرائيلية، حتى تم تجنيده في الموساد.

أعد الموساد خطة لزرعه في سوريا، حيث أرسله أولا إلى الأرجنتين أوائل عام 1961على أساس أنه مسلم من عائلة سورية مهاجرة كانت تعيش في بيروت ثم الإسكندرية، واسمه كامل أمين ثابت، وطُلب منه تثبيت مركزه بين أوساط الجالية السورية واللبنانية حتى يحين موعد تحوّله إلى سوريا، وقد نجح هناك عبر ارتياده النادي العربي في بناء سمعة طيبة كرجل أعمال طموح وشديد الحماس لوطنه الأم سوريا.

كان الهدف الأساسي من زرعه في سوريا ملاحقة بعض الضباط النازيين الذي هربوا إليها – كما تزعم إسرائيل- وكشفهم، وأهمهم الضابط لويس برونر، لكنه أثبت براعة تفوق مهمته، واستطاع الوصول إلى مصادر معلومات مهمة، غير أن دوائر الاختراق التي أحدثها إيلي كوهين داخل سوريا بقيت محل تكهنات، وتراوح بين الأكاذيب والحقائق.

إيلي كوهين (أقصى اليسار) وبقية المتهمين في قضية التجسس أثناء المحاكمة (أسوشيتد برس)

سرديات السقوط

بعد محاكمة سريعة محفوفة بتغطية إعلامية مكثفة، تم تنفيذ حكم الإعدام شنقا بإيلي كوهين ليلا في ساحة المرجة بدمشق في 15 مايو/أيار 1965. ورغم المحاولات المستميتة التي بذلتها إسرائيل لتفادي ذلك والوساطات التي سعت إليها، أُعدم الجاسوس ودُفن في مكان لم يعلن عنه.

حاولت تل أبيب لاحقا استعادة جثة كوهين ومبادلتها بآلاف الأسرى، ثم سعت لتهريبها سرّا عبر الحدود اللبنانية من دون جدوى، فالجثة كانت قد دفنت في مكان سرّي لا يعلمه إلا قلة. واستمرت المحاولات بعد اندلاع الثورة في سوريا عام 2011 لاسترجاع الرفات، دون أن تعثر له على أثر. وفي يوليو/تموز 2018، قالت إسرائيل إنها تمكنت بعملية استخباراتية نوعية من استرجاع الساعة التي كانت في معصمه قبل إعدامه وسلمت لزوجته.

وفي روايته لقصة كوهين، ذكر الكاتب والصحفي المصري الراحل محمد حسنين هيكل في كتابه “سنوات الغليان”، وكذلك في سلسلة لقاءاته مع الجزيرة، أن المخابرات المصرية هي التي كشفت كوهين بعد أن رصد أحد ضباطها شخصا غريبا ضمن المحيطين بوفد مصري وسوري خلال زيارة مواقع عسكرية، يقوده الفريق أول علي عامر، وتم التحقق من الصورة في أقسام المخابرات، حتى اكتشفت حقيقة كوهين الذي كان سجينا في مصر في بداية الخمسينيات.

من جهتها، أوردت صحيفة هآرتس فرضية أخرى روتها فيلترود شيفلدت أرملة الجاسوس المصري “رأفت الهجان”، أو رفعت الجمال (جاك بيتون)، والذي تصر إسرائيل على أنه كان عميلا مزدوجا دون أن تقدم دليلا ملموسا على ذلك. وذكرت السيدة بيتون أن زوجها هو من كشف كوهين عندما رأى صورة له في صحيفة مع مسؤولين سوريين في الجولان، فتعرف عليه مباشرة، وهو الذي كان سجن معه في الإسكندرية إبان فترة تجنيده من قبل المخابرات المصرية في خمسينيات القرن الماضي، وعندما كان مطلوبا منه الاندماج في الأوساط اليهودية هناك.

تشير سردية أخرى إلى أن رأفت الهجان، هو من اكتشف إيلي كوهين عندما رأى أيضا صورة له مع مسؤولين سوريين في جبهة الجولان بسورية، وكان قبل ذلك قد التقى به في تل أبيب أثناء لقاء جمع مسؤولين للموساد، وقدموه له على أنه رجل أعمال إسرائيلي يقيم في أميركا، فأبلغ المخابرات المصرية التي نسقت مع نظيرتها السورية.

بشكل ما، نحت السرديات المصرية التي انتشرت إعلاميا في ذلك الوقت، ونفاها مسؤولون سوريون، إلى التهويل من شأن كوهين وإنجازاته، والتقليل من شأن المخابرات السورية ودورها في كشفه، مقابل تضخيم دور المخابرات المصرية، ويعود ذلك إلى حالة النفور التي حصلت بعد الانفصال والخلافات بين النظام الناصري وحزب البعث السوري في ستينيات القرن الماضي.

صورة لإيلي كوهين مع عائلته (مواقع التواصل)

وفي سردية أخرى، يذكر الكاتب الإسرائيلي نوعام نحمان تافر، مؤلف كتاب “إيلي كوهين.. الملف المفتوح”، أن بداية كشف كوهين حصلت إثر لقاء جمعه وماجد شيخ الأرض مع ضابط ألماني (نازي) اسمه فرانز راديماخر، وهو صديق لويس برونر  الذي يلاحقه الموساد، وكان راديماخر تحت مراقبة عناصر المكتب الثاني السوري(المخابرات)، ولفت انتباه أحد الضباط علاقة شيخ الأرض -المحسوب على المخابرات الأميركية- مع “رجل أعمال وطني” مثل إيلي كوهين (كامل أمين ثابت) وضابط نازي سابق، وتم وضع الجميع تحت المراقبة المكثفة، حتى تم اكتشاف عمالة كوهين.

أشار تافر أيضا في مقال نشرته صحيفة معاريف في 22 مايو/أيار 2020، إلى أن ضابطا متقاعدا في جهاز الأمن الداخلي السوري برتبة مقدم يدعى عادل سعيدي كان صديقا لكامل أمين ثابت، وشك في بعض سلوكاته ونمط حياته وعلاقاته المتشعبة، وقدم تقريرا بذلك للمخابرات السورية التي تولت مراقبة ثابت حتى القبض عليه.

وفي الرواية السورية التي تتقاطع مع الرواية الإسرائيلية، تقول دمشق إن شعبة المخابرات العسكرية التقطت ترددا لإرسال لاسلكي، مصدره غير معروف، وتوقيته غير مسجل لدى فرع الرقابة السلكية واللاسلكية في شعبة المخابرات فتابعته، حتى اكتشفت مكانه بعد فترة في شقة كامل أمين ثابت، إثر الاستعانة بجهاز ألماني لكشف الترددات، إذ لم تستطع الأجهزة الروسية المتوفرة الوصول إليه.

وتؤكد رواية أخرى -أوردها هيكل أيضا في كتاب سنوات الغليان- أن السفارة الهندية في حي السفارات القريبة من مسكن كامل أمين ثابت اشتكت من تشويش على رسائلها، فأعلمت السلطات السورية التي بدأت الاستعلام والبحث مستعينة بجهاز روسي لتعقب إشارات الإرسال حتى تم تحديدها، فاقتحمت عناصر من الاستخبارات السورية الشقة وقبضت على كوهين.

من جهتها، عرضت قناة “مكان” الإسرائيلية الرسمية عام 2020 وثائقيا عن كوهين بعنوان “المقاتل 566″، يتضمن فرضية أخرى مختلفة تماما وردت على لسان نتان سولومون، الضابط الذي درّب كوهين وتولى تشغيله.

يؤكد سولومون أن كوهين قُبض عليه في الشهر نفسه الذي سقط فيه أيضا 4 جواسيس آخرين في دول عربية، بينهم 3 في مصر. ويذهب إلى أن جاسوسا كبيرا في الموساد يحمل رتبة عالية ويرجّح أنه سوفياتي، ساعد السلطات السورية في الكشف عن كوهين، ومكن السلطات المصرية من القبض على الجاسوس “رقم 567″، ويدعى “رئيف جور آري” وتفكيك شبكته.

وتعود قصة الجاسوس “رقم 567” إلى عام 1957، حين جند الموساد اليهودي ذا الأصل الألماني فولفغانغ لوتز -أو “رئيف جور آري”- وزرعه في مصر باسمه الألماني الحقيقي على أساس أنه نازي سابق، وكانت مهمته الرئيسية كشف العلماء الألمان الذين يعملون في الجيش المصري، وخصوصا مشروع الصواريخ، وكوّن شبكة علاقات واسعة في مصر حتى أضحى فوق الشبهات، إلى أن تم كشفه بشكل غير منتظر، وفق الرواية الإسرائيلية التي أسبغت عليه هالة أسطورية مثل إيلي كوهين.

جثة إيلي كوهين معلقة على مشنقة بساحة المرجة في دمشق (مواقع التواصل)

اختلاق الأسطورة

وفق عدة مقاييس في العمل المخابراتي، وما تكشفه التقارير الإسرائيلية الجديدة المتعددة والمتنافرة أحيانا، لم يكن إيلي كوهين جاسوسا استثنائيا، وما كشفه في دمشق لا يتجاوز ما يمكن أن يقوم به عميل مدرب بالحد الأدنى تمت تغطيته بساتر جيد، وعمل في بلد لم يكن مستقرا بالقدر الكافي ولم تكن مؤسساته الأمنية متماسكة، وكانت الخلافات الداخلية تؤثر بشكل كبير في كيانه. كما أن عملية زرعه التي تفتخر بها إسرائيل لم تكن غير مسبوقة أو مبتكرة.

ففي سياق صراع أجهزة المخابرات في تلك الحقبة، تعتبر قصة كوهين وطريقة زرعه في سوريا نسخة كربونية من قصة الجاسوس المصري الأرمني “كابورك يعقوبيان” الذي كان يعمل مصورا في القاهرة وجندته المخابرات المصرية، ليتم زرعه أولا في البرازيل في أبريل/نيسان 1960 باسم “يتسحاق كاوتشوك” ويفرض نفسه في أوساط الجالية اليهودية في ساو باولو، ويهاجر لاحقا بإلحاح من الوكالة اليهودية إلى إسرائيل. وقام العميل المصري بعمل استخباراتي مميّز قبل القبض عليه يوم 19 ديسمبر/كانون الأول 1963.

وفي ذلك الوقت، روّجت إسرائيل كثيرا لعملية كشف يعقوبيان، وضخّمت قصة القبض عليه إعلاميا رغم أنه سقط بهفوة بسيطة، كما أصدرت كتابا حول العملية تحت اسم “الذئب الوحيد”، وكل ذلك يأتي ضمن إستراتيجية تعتبر مسألة الدعاية -تضخيم العملاء وتصغير الأعداء- من ضرورات الحرب النفسية ذات الأهمية الشديدة ضمن سياقات الحرب الشاملة.

لم تفتح سوريا أرشيفها المتعلق بقصة بإيلي كوهين، وبقيت رواية تغلغله في الأوساط الدمشقية غامضة، وكذلك قيمة المعلومات التي أرسلها للموساد وعلاقاته بالنخبة السياسية والعسكرية، لكن بعض الشهادات عن مسؤولين في تلك الفترة تؤكد أنه لم يقم أصلا بتكوين شبكة تجسس أو تجنيد شخصيات مهمة، بل كانت جلّ معلوماته محصّلة من جلسات مع أصدقاء ومقربين منهم ودردشات اجتماعية أو ملاحظات وتحليلات شخصية.

وتؤكد التقارير الإسرائيلية أيضا أن كوهين بالغ في إرسال البرقيات التي لم تكن تتضمن معلومات مهمة، وبعضها كان يعتمد على مصادر لا تعدو أن تكون ثرثرات في المقاهي أو الصالونات، ويعزو الموساد ذلك إلى أنه “اكتسب ثقة زائدة” تجاوزت المحاذير الأمنية.

كما تشير المعلومات أيضا إلى أن كامل أمين ثابت لم يلتق أبدا بأمين الحافظ، الملحق العسكري السوري في بيونس آيرس. فقد وصل الحافظ إلى الأرجنتين في 31 ديسمبر/كانون الأول 1961، بينما كان كوهين قد غادرها قبل ذلك في أغسطس/آب. وبالتالي، فإن سردية العلاقة الوطيدة التي ربطت بين الرجلين في الأرجنتين أو دمشق، بعد أن أصبح الحافظ رئيسا لسوريا بعيد انقلاب 8 مارس/آذار 1963، وزيارتهما معا إلى الجولان، لا تستند على أي أساس موضوعي.

ورغم أن بعض الروايات السورية نفسها تؤكد علاقة الرئيس أمين الحافظ بإيلي كوهين، فقد أكد الرئيس الأسبق أنه وصل الأرجنتين بعد خروج كوهين منها، وأنه سمع عنه بعد القبض عليه ولم يقابله إطلاقا. ولم يكن كوهين أيضا عضوا في حزب البعث أو بالقيادة القطرية أو وسيطا لحل الخلافات بين القيادات، كما تم الترويج لذلك من قبل إسرائيل دون توثيق، وبالتالي تسقط الأسس التي بنت عليها إسرائيل أسطورة كوهين، وهي علاقته الخاصة برئيس الدولة وكبار قيادات حزب البعث.

نثرت إسرائيل أيضا معلومات عن أن كامل أمين ثابت كان مرشحا في فترة ما لرئاسة الجمهورية، وكذلك وزارة الدفاع ورئاسة الوزراء، ووجدت تلك المعلومات صدى وانتشرت بشكل واسع، مستمدة بعض صدقيتها من طبيعة التحولات العسكرية والسياسية السريعة في سوريا وكثرة الانقلابات وتغيّر المناصب والخلافات السياسية، لكن كامل أمين ثابت لم ينخرط في أي من التحالفات القائمة آنذاك، ولم يكن ضمن أعضاء حزب البعث بتوصية من مشغليه، وكمبدأ عام في العمل الاستخباراتي، يعدّ الاقتراب من النخبة السياسية والعسكرية دون مبرر مجلبة للشبهات والشكوك.

في سجلات المحاكمة التي نشرتها حتى إسرائيل، نفى إيلي كوهين في جلسة التحقيق الأخيرة يوم 3 مارس/آذار 1965 أن يكون قد تعرف على شخصيات سياسية أو عسكرية رسمية، مثل ميشيل عفلق أو صلاح البيطار، كما نفى زيارته للجبهة في الجولان أو مقابلة الفريق أول علي عامر (القائد المصري العام للقوات العربية الموحدة آنذاك) خلال زيارته لسوريا والجبهة أواخر عام 1964.

من جانبه، يؤكد صلاح الدين الضللي، الذي ترأس المحكمة العسكرية التي تشكلت لمحاكمة كوهين، تلك المعلومات في كتابه “حقائق لم تنشر عن الجاسوس الصهيوني إيلي كوهين” الذي نشر عام 2001، أن كوهين لم يتعرف على صلاح الدين البيطار (رئيس الوزراء آنذاك) أو أمين الحافظ أو ميشيل عفلق أو قبل ذلك خالد العظم أو أي من الشخصيات النافذة الأخرى، وكان يستقي معلوماته من بعض الضباط والمسؤولين الصغار والتجار والموظفين. وفي المقابل تشير بعض المصادر السورية أن الضللي نفسه كان على علاقة بكامل أمين ثابت.

ويؤكد مؤلف كتاب “إيلي كوهين.. الملف المفتوح” نوعام نحمان تافر أيضا انعدام العلاقة بين كوهين وأمين الحافظ، ويشير إلى أنه “لا يوجد شيء مميز في المعلومات التي أرسلها إيلي كوهين لإسرائيل حول الجولان”.

ومن جهته، يشير الكاتب الأميركي ويسلي بريتون معد بحث “ملفات إيلي كوهين” إلى أن “دور إيلي كوهين كان مبالغا فيه، ولم يزود إسرائيل بمعلومات مهمة”.

لم يبق إيلي كوهين في سوريا سوى 3 سنوات، ولم يكن جاسوسا منضبطا باعتراف الروايات الإسرائيلية، فقد غادر دمشق مثلا في فترة كانت الشبهات تحوم حوله، ولم يتقيد بالقواعد التي ألزمه بها مشغلوه، وبالغ في إرسال البرقيات من دمشق دون موجب، وتجاوز أيضا الوقت المحدد لكل عملية إرسال (دقيقتان على أقصى تقدير)، كما رفض أوامر مشغليه وزار تل أبيب دون تنسيق معهم وبرحلة لم تكن مؤمنة.

صورة لكوهين في ما يبدو أنها الجولان (مواقع التواصل )

في محاولة تأصيله لسردية الأسطورة، نشر الموساد صورا غير واضحة أو موثقة لكوهين وهو في هضبة الجولان، على أساس أنه حقق اختراقا عسكريا، لكن الصورة تشير إلى أنه كان بمنطقة الحمّة التي تضم محطة سياحية للتداوي بالمياه الكبريتية يزورها الجميع بعد الحصول على رخصة مرور من القوات المسلحة، وهي منطقة لا تتضمن في ذلك الجانب أي تحصينات أو مرافق عسكرية.

كما في قصة أشرف مروان، الذي أطلقت عليه إسرائيل الجاسوس “الملاك”، تُحسن إسرائيل الترويج لرواياتها وترسيخها، وتظهر المعلومات الكثيرة والمتناقضة حول إيلي كوهين أنها سعت لتضخيم اسمه ودوره، فقد أقامت له متحفا وأصدرت طوابع بريدية تحمل صورته، واعتبرته أسطورة جواسيسها، وأمعنت في أن تجعل منها فضيحة مخجلة لدمشق تستدعي الإحساس بالضعف ومجدا استخباراتيا لها يكرس الإحساس بتفوقها.

في عام 1987 روّجت إسرائيل لفيلم “جاسوس المستحيل” (The Impossible Spy) للمخرج الإنجليزي جيم غودار (Jim Goddard) عن قصة كوهين، وهي ليست بعيدة عن إنتاجه، ويحمل الفيلم معالجة درامية ضعيفة ومشوهة للتاريخ، ويحفل بالكثير من الأخطاء المقصودة التي تتغذى من السرديات الإسرائيلية.

وجاء مسلسل “الجاسوس” (The Spy) الذي أنتجته وعرضته شبكة نتفليكس عام 2019 للمخرج الإسرائيلي جدعون راف (Gideon Raff) أيضا في قلب الرواية الإسرائيلية وما علق بها من حشو ومزايدات، وهو يحفل أيضا بالكثير من الأخطاء التاريخية والأحداث المفتعلة التي لا يقبلها حتى السياق الدرامي، وتقترب من الفنتازيا. ففي سياق العمل يلتقي كوهين في دمشق مع الثري السعودي محمد بن لادن (متزوج آنذاك من السورية علياء غانم)، بينما يظهر في الأثناء صبي صغير لاهٍ يقدمه المليونير السعودي لكوهين على أنه ابنه أسامة بن لادن! وفي ذلك الكثير من الإشارات والإيحاءات المبنية على مغالطات.

بشكل عام، كانت عملية إيلي كوهين عملا استخباريا محبوكا، وهو بلا شك قد وفر معلومات قيّمة للموساد، لكنها لا تعد عملية خارقة أو غير مسبوقة، وقد ساهمت الخلافات البينية العربية في تلك الفترة، و السورية الداخلية وصراعات الأجنحة، وطبيعة الوضع في سوريا -قصدا أو من دونه- في نشر السرديات الإسرائيلية المضخمة بشكل مدروس، مقابل إسكات أو إغفال الحقائق أو حتى الرويات المضادة.

وأعطت ملابسات القبض على إيلي كوهين من قبل السلطات السورية وحيثيات المحاكمة وطريقة إعدامه، والمساعي الإسرائيلية لإنقاذه ومحاولاتها اللاحقة للعثور على رفاته الكثير من الإثارة وقابلية التلفيق على قصته، وأضفت عليها السرديات المختلفة وثقافة التأثيم، والصمت الرسمي السوري غموضا استغلته إسرائيل لاختلاق أسطورة أخرى، تعتمد على حقيقة غُلفت بالكثير من الزيف، ويخدم ذلك الكثير من أهدافها في إشاعة الشعور الذاتي بالضعف والقصور لدى الآخر.

 

 

You may also like

Editor-in-Chief: Nabil El-bkaili

CANADAVOICE is a free website  officially registered in NS / Canada.

 We are talking about CANADA’S international relations and their repercussions on

peace in the world.

 We care about matters related to asylum ,  refugees , immigration and their role in the development of CANADA.

We care about the economic and Culture movement and living in CANADA and the economic activity and its development in NOVA  SCOTIA and all Canadian provinces.

 CANADA VOICE is THE VOICE OF CANADA to the world

Published By : 4381689 CANADA VOICE \ EPUBLISHING \ NEWS – MEDIA WEBSITE

Tegistry id 438173 NS-HALIFAX

1013-5565 Nora Bernard str B3K 5K9  NS – Halifax  Canada

1 902 2217137 –

Email: nelbkaili@yahoo.com 

 

Editor-in-Chief : Nabil El-bkaili
-
00:00
00:00
Update Required Flash plugin
-
00:00
00:00