إيغور سترافنسكي (1882 – 1971) (غيتي) ثقافة و فنون هل افتتح سترافنسكي موسيقى القرن الـ20 أم كان آخر مبدعي الـ19؟ by admin 26 فبراير، 2024 written by admin 26 فبراير، 2024 177 السؤال الذي لا يتوقف عن إرباك المؤرخين في تعامله مع احتمالات جواب لا تنتهي اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب تنطلق المسألة عادة من فكرة طرحت خلال الربع الأول من القرن الـ20 وتتمحور أساساً من حول الإبداع الموسيقي عبر تساؤلات راح يطلقها نقاد ومؤرخون موسيقيون كبار. ويمعنون في إطلاقها في كل مناسبة يكتشف فيها من جديد مقدار ما يكنه جمهور هذا الفن من تقدير وهيام بالموسيقى القديمة ووريثتها الحديثة معاً التي انطلقت مع بدايات عصر النهضة الإيطالية لتقدم عند نهايات القرن الـ19 أروع ما أنتجه هذا الفن في تاريخه ولا سيما في روسيا خلال الربع الأخير من القرن الـ20. وهو على أية حال إنتاج كان ينظر إلى الروسي الذي أمضى حياته متنقلاً بين أوروبا وأميركا ناشراً فيها نوعاً من التوليف بين ما نهله من ذلك الغرب، على اعتبار أن ما حمله معه من روائع الأساليب الروسية، يجعله أكبر المستحقين لصفة “كوزموبوليتية”، من ثم راحوا يجمعون تساؤلاتهم في ما سيبدو سؤالاً واحداً: هل ختم سترافنسكي الموسيقى حتى ولو بمعنى أن كل ما سيأتي بعده لن يكون سوى تنويع عليه وعلى سابقيه؟ وهو سؤال ربما راح يؤكد مشروعيته واقع أن ثلاثي فيينا – شوينبرغ وألبن برغ وأنطون فيبر- في وقت يطرح، من خلال موسيقاه الإثني عشرية تجديداً ثورياً في التأليف الموسيقي، إنما كان في الحقيقة يعلن موت الموسيقى، وفي أسوأ الأحوال، موت المخيال الموسيقية تاركاً كل الموسيقى التالية تجتر ما كانت العصور السابقة قد أنتجته وهيمنت على الذوق الموسيقي به؟ لماذا سترافنسكي؟ لكن لماذا سترافنسكي؟ ربما بالتحديد لأنه هو نفسه طرح المسألة ولو بتعابير مختلفة، إذ إن صاحب “عصفور النار” و”بتروشكا” وغيرهما من أعمال أضاءت موسيقى النصف الأول من القرن الـ20 عبر مزجها الخلاق بين تراث الموسيقى الروسية في القرن السابق عليه، وتجديدات مدرسة فيينا ولا سيما منها الموسيقى التسلسلية. وكان، قبل ذلك تلميذ رمسكي – كورساكوف، الذي ما إن صار في باريس وتعرف من كثب إلى أعمال كلود ديبوسي وموريس رافيل حتى شعر أن آفاق الحداثة تنفتح أمامه، فأحدث في عمله ومزاجه العام ذلك الانقلاب الذي جعل كثراً من أبناء الجيلين التاليين له، في الموسيقى الأوروبية والأميركية أيضاً، يتبعون خطاه، عن وعي أو في شكل غير واع، من سرجي بروكوفييف إلى بيلا بارتوك ومن داريوس ميلو وآرثر هونيغير وصولاً إلى آرون كوبلاند. وفي هذا السياق، يمكننا أن نقول إن سترافنسكي أحدث واحدة من أكبر الثورات الموسيقية في القرن الـ20. ولا ريب أنه عرف كيف يرفد نتاجاته وأفكاره بتلك المحاضرات والمقالات والكتب، التي كان يدونها قاصداً أن يسهم في الحوارات والسجالات الكبرى في شكل يجعله يبدو واحداً من كبار منظري فن الموسيقى في القرن الـ20. وعلى هذا النحو ينظر إلى كتاب “شاعرية موسيقية” لإيغور سترافنسكي، على أنه بالفعل واحد من الكتب المؤسسة في النقد الموسيقي. والكتاب في الأصل، محاضرات ألقاها سترافنسكي ضمن موسم دعي إليه في جامعة هارفرد الأميركية عام 1939، حين لجأ إلى الولايات المتحدة هرباً من احتلال النازيين باريس، التي كان يقيم فيها وصدر للمرة الأولى في الإنجليزية ليصدر بعد ذلك في الفرنسية على رغم أن الموسيقي/ الكاتب، كان ألقى المحاضرات في اللغة الفرنسية. في عصر جماهيرية الفن للوهلة الأولى، تبدو المحاضرات، متفرقة متنوعة، لكنها، وفي الحقيقة، أكثر ترابطاً مما يخيل للقارئ أول الأمر… وكذلك، إذا كان كثر من الباحثين والمعلقين قد رأوا في “شاعرية موسيقية” نوعاً من الدفاع عن نيو-كلاسيكية، ربط بها اسم سترافنسكي منذ بدايات تعرف عالم الموسيقى إليه، فإن الكتاب يبدو أعمق من هذا بكثير، لأن ما يطرحه صاحب “تطويب الربيع” هنا، إنما هو وقفة عميقة وجذرية مع سمو الفن الموسيقي منذ ولادته، وحتى اشتداد تأثيره الحاسم في الجمهور في عصر جماهيرية الفن الذي كان عليه القرن الـ20. كل هذا صاغه سترافنسكي في لغة سجالية، وفي أسلوب لا يخلو هو الآخر من إيقاع متدرج، يبدأ بالموضوع بهدوء، ليصل إلى كريشندو عند النهاية، حين يصل إلى استنتاجات، غالباً ما تبدت، محاضرة بعد محاضرة، استفزازية ومتجددة في تطرقها إلى مواضيع كانت قبل ذلك تبدو مسلمات. حرية الإبداع في الميزان ولعل أهم الأمثلة على هذا، تلك المحاضرة التي يتصدى فيها سترافنسكي للفهم الشائع – “الخاطئ” في نظره – لمسألة “حرية الإبداع” مستنداً في هذا، بخاصة إلى بودلير وآرائه. ولعل هذا الموقف يبدو مخفياً في شكل خاص، يتعين السعي إلى العثور عليه، خلف نص يفرق فيه سترافنسكي بين الكلاسيكية الحقيقية والرومانطيقية المزيفة، ليصل إلى استنتاج يتوخى منه أن يؤكد أنه “كلاسيكي” قبل أي شيء آخر، وأن الذين وصفوه عند بداياته بأنه “ثوري” لم يكونوا دقيقين في الحكم عليه. وإذ يصل سترافنسكي إلى هذا المستوى من التحليل، ينتقل في محاضرة تالية إلى فاغنر ليهاجم ما لدى هذا الأخير من نزعة “درامية شاعرية” تبدو لديه مقصودة لذاتها. هنا، إذ يستند الموسيقي الكاتب إلى ما يقوله أندريه جيد عادة من أن “العمل الكلاسيكي إنما ينبع جماله من مقدار ما ينطلق من نزعة رومانطيقية مدجنة”، يرى أن فاغنر، ومن ثم ريتشارد شتراوس وهكتور برليوز بصفتهما مكملين لصاحب “تريستان وايزولت”، يفتعلون ذلك البعد الرومانطيقي في موسيقاهم، وعلى العكس منهم – على سبيل المثال – بالنسبة إلى سترافنسكي، فنانون كبار من طينة أنطون فيبر وفردريك شوبان، فهم “صادقون في نزعتهم الرومانطيقية”، في تناقض مع نزعة فاغنر وأتباعه “التي يغلب عليها الطابع الأدبي” وتستمد “تعبيريتها من أمور ومجالات خارجة عن فن الموسيقى الصافي”. على ضوء الواقع السياسي غير أن فاغنر وصحبه ليسوا الوحيدين الذين يتصدى قلم سترافنسكي لهم، إذ ها هو ذا في محاضرة أخرى، لعلها الأكثر شعبية وشهرة بين محاضراته جميعاً، يصب جام نقده وغضبه على الموسيقيين الروس، ولا سيما ذوو السمعة الراسخة، في مجال التجديد المازج بين “الأصالة والمعاصرة”. هنا يفيدنا سترافنسكي أن نزعة هؤلاء التي لا يراها إلا كوزموبوليتية “بالتضاد مع النزعة الكونية الخلاقة”، كما يقول، لم تعد سوى موسيقى هجينة، إذ إنها – في حقيقة الأمر – ليست معاصرة وليست أصيلة. “فقدت الصفتين معاً لفرط ما أرادت أن تكونهما”. غلاف الطبعة الإنجليزية من “الشاعرية الموسيقية” (أمازون) ولا يكتفي سترافنسكي، هنا، بتوجيه سهام نقده إلى الموسيقيين الروس من أبناء الأجيال السابقة عليه مباشرة، بل يركز هجومه الأكثر عنفاً، على من ظهر من مبدعين موسيقيين “منذ قيام النظام السوفياتي”، إذ إن هؤلاء “وبقدرة قادر” بحسب رأيه، تحولوا فقط إلى ظواهر غريبة، تعطيها غرائبيتها قيمتها بالنسبة إلى الأجانب. ومن هنا بات محكوماً عليهم أن يكونوا شديدي المحلية، ومن ثم وطنيين وقوميين، كي يواصلوا احتلال مكانة أسبغت عليهم. وبهذا، يكون الرأي الخارجي، هو الذي صنع “قيمة” أولئك الموسيقيين وفنهم. ثورة على الراهن لقد وصلت “ثورة” سترافنسكي على كل هؤلاء الذين يتصدى لهم ولممارساتهم وللجمود الذي وصلوا إليه، إلى درجة مواصلة لعبة الانتقاد الحاد هذه. فنراه في فصل تال يكرس صفحات عدة لمقدمي الأعمال الموسيقية، وليس للذين أبدعوها ويبدعونها هذه المرة. فهؤلاء، بالنسبة إليه، ينساقون وراء السهولة والجماهيرية المزيفة إلى درجة تجعلهم مجرد مؤدين ميكانيكيين لأعمال لم يعودوا يرون أن من حقهم التدخل الخلاق فيها. والحقيقة أن سترافنسكي لا يورد كلامه هذا، هنا، على عواهنه، بل يوضحه بالتفصيل مستنداً إلى أسماء محددة، وأحياناً إلى أمسيات موسيقية محددة. والحقيقة أن هذا قد جعل لكتاب “شاعرية موسيقية” على رغم أن بعض صفحاته، بل بعض محاضراته أيضاً، تتسم بشيء من الراهنية الآنية، جعل له قيمة مطلقة، بحيث إنه اعتبر منذ صدوره، وترجمته، من الكتب الأساسية التي ترصد حال الموسيقى وأصحابها في القرن الـ20. وعلى رغم أن كثراً من الباحثين والنقاد، أخذوا على معظم أحكام سترافنسكي في هذا الكتاب، “رجعيتها” في المحصلة الأخيرة، فإن هؤلاء جميعاً، إضافة إلى مناصري أفكار سترافنسكي الدائمين، لم ينكروا قيمة هذه النصوص السجالية وأهمية الآراء التي يوردها صاحبها، والتي لن يفوت معظمهم أن يراها كورقة نعي للموسيقى الجديدة وتساؤلاً حول ما الذي يجعل الكلاسيكيين القدماء يواصلون حضورهم في القرن الـ20 معلنين خواء ما يحاول هذا القرن إبداعه؟ المزيد عن: سترافنسكيعصر النهضةأميركاأوروباروسياشاعرية موسيقيةفردريك شوبانجامعة هارفرد 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post “التموين”… كبش فداء وصمام أمان في مصر next post نصائح الفيلسوفة حنة أرندت للعيش في “زمن اللايقين” You may also like محمود الزيباوي يكتب عن: فيروز… من فتاةٍ خجولة... 19 نوفمبر، 2024 محمود الزيباوي يكتب عن: أسود منمنمة من موقع... 19 نوفمبر، 2024 براعة باخ في كونشرتوات براندنبورغ وأثرها الدائم 19 نوفمبر، 2024 في روايته الجديدة… أوبير حداد يصوّر الحرب بعيني... 19 نوفمبر، 2024 16 فيلم رعب تسببت بصدمة نفسية لممثليها 19 نوفمبر، 2024 العداوة والعدو كما فهمهما الفلاسفة على مر العصور 19 نوفمبر، 2024 قصة واحدة من أكبر الأكاذيب في تاريخ حكايات... 19 نوفمبر، 2024 أول ترشيحات “القلم الذهبي” تحتفي بالرعب والفانتازيا 17 نوفمبر، 2024 شعراء فلسطينيون في الشتات… تفكيك المنفى والغضب والألم 17 نوفمبر، 2024 “بيدرو بارامو” رواية خوان رولفو السحرية تتجلى سينمائيا 16 نوفمبر، 2024