مقاتل تابع للإدارة السورية الجديدة يحمل رأس تمثال مقلوب لباسل الأسد، الابن الأكبر للرئيس السوري الأسبق حافظ الأسد، 4 يناير 2025 (أ ف ب) عرب وعالم هكذا “امتطى” آل الأسد حزب البعث لحكم سوريا by admin 23 يناير، 2025 written by admin 23 يناير، 2025 12 التحولات البعثية خلال عقود من أقصى الراديكالية العقائدية إلى الفساد المنظم اندبندنت عربية / طارق علي صحفي سوري في صبيحة الـ28 من سبتمبر (أيلول) عام 1961 قاد الضابط السوري عبدالكريم النحلاوي انقلاباً أطاح الجمهورية العربية المتحدة التي جمعت مصر وسوريا منذ عام 1958، وكان يتولى زعامة تلك الجمهورية جمال عبدالناصر، فيما سميت سوريا حينها بالإقليم الشمالي الذي عهدت إدارته المركزية للمشير المصري عبدالحكيم عامر وتعاونه شخصيات سورية بارزة. في أثناء الوحدة تبادل البلدان البعثات العسكرية وتشكيلاتها ومفاهيم توزعها وآليات دفاعها، ومن بين الضباط الذين خدموا في مصر وفي ظل الوحدة برزت أسماء مجموعة رفاق عسكريين برتب صغيرة بينهم حافظ الأسد وصلاح جديد ومحمد عمران وغيرهم. كان هؤلاء الضباط يعتنقون الفكر البعثي الذي ولد أولاً على يد المفكر السوري زكي الأرسوزي ثم تبناه وطوره المنظران السياسيان ميشال عفلق وصلاح البيطار، إذ أسسوا حزب البعث خلال السابع من أبريل (نيسان) 1947، أي بعد نيل سوريا استقلالها عن الفرنسيين بعام واحد، وتحت مسمى حزب البعث العربي. الحاجة لأيديولوجية مغرية تبنى الحزب الوليد مبادئ أيديولوجية تتعلق بالقومية العربية والوحدة والاشتراكية ومعاداة القوى الإمبريالية، وكانت تعني كلمة “البعث” في تسميته “النهضة”، وبات شعاره الذي استمر حتى انهياره في آخر معاقله داخل سوريا، “وحدة، حرية، اشتراكية”، وكان ذلك الانهيار عقب سقوط نظام بشار الأسد المستند إلى نظام الحزب الحاكم الواحد، وقبله سقوط حزب البعث العراقي مع سقوط صدام حسين عام 2003. أول ما فعله الحزب الجديد ضمن الطبيعة الفكرية لأسباب نشوئه هو استحداث أفرع إقليمية في عدد من البلدان، بينها لبنان واليمن بشطريه وليبيا والأردن ودول عربية أخرى، ولكنه لم ينجح في الوصول إلى السلطة سوى في العراق وسوريا، وعلى ظهر الدبابات. الاندماج خلال عام 1952 اندمج حزب البعث العربي مع الحزب العربي الاشتراكي الذي كان يقوده أكرم الحوراني ليشكلا معاً حزب البعث العربي الاشتراكي، وسرعان ما لاقى الحزب نجاحاً جيداً نسبياً على مستوى الشارع السوري وتمكن من المنافسة بقوة في الانتخابات البرلمانية عام 1954، ليشكل ثاني أكبر كتلة حزبية خلف الشيوعيين بـ15 مقعداً من أصل 142 مقعداً. وفي ذلك العام شهدت سوريا إطاحة نظام الرئيس أديب الشيشكلي العسكري وحكومته واستعادة رونق الديمقراطية في البلاد، وعرفت تلك المرحلة بمرحلة الحزبين “الشيوعي والبعثي”، لأن كليهما فقط كان قادراً على إمساك زمام الأمور في الشارع وتنظيم احتجاجات ووقفات ومسيرات أو تظاهرات، مستغلين تغلغلهم في صفوف طبقة العمال والفلاحين ونظرياتهم السياسية الداعية للإصلاح الاجتماعي، وتحقيق الوحدة العربية والتركيز على مصر التي كان اسم زعيمها عبدالناصر يجتاح الأرجاء بمشروعه المقاوم لقوى التدخل الخارجي والإمبريالية العالمية. أول وحدة عربية مع نهايات عام 1957 ومطلع عام 1958 صاغ البعثيون مشروعاً لإتمام الوحدة مع جمهورية مصر العربية، وكان آنذاك رئيس سوريا شكري القوتلي المنتخب ديمقراطياً مستبعداً من صياغة المشروع السري للحزب الذي أخذ بالتمدد في مفاصل الدولة، مكلفاً عسكرييه في الجيش بالذهاب إلى مصر ولقاء زعيمها وإتمام بنود الوحدة وشروطها وفق مذكرات سفير مصر لدى سوريا قبل الوحدة عبدالمحسن أبو النور. لا شك أن القيادة السياسية السورية غير البعثية حينها فوجئت بمشروع الوحدة، وعلى مضض من بعض قادتها وقعت تحت ضغط العسكر، وسلم القوتلي رئاسة سوريا إلى مصر، وكانت آنذاك تملأ الشوارع مسيرات مؤيدة للوحدة ومستبشرة بالمشروع التحرري القوي الذي سيغري بلداناً أخرى للانضمام إليه، لكن التطبيق على أرض الواقع كان مختلفاً تماماً، إذ نهش تلك الجمهورية ذات الأعوام الثلاثة الفساد والمحسوبيات والضعف وقلة الحيلة ومن خلالها وعبرها تأسست في سوريا للمرة الأولى ما بات يعرف بـ”الدولة البوليسية”، والتي قادها الضابط عبدالحميد السراج الذي كان يتولى إدارة المكتب الثاني “الاستخبارات العسكرية” ولاحقاً وزير الداخلية، ومن ثم معاوناً لعبدالناصر لشؤون الإقليم الشمالي. لم يدخر السراج جهداً في قمع معارضيه من وحدويين وانفصاليين، وتماهى مع صنوف التعذيب حتى قيل إنه ابتدع أشدها قسوة، وقيل إن ما من سجين دخل سجون السراج وخرج حياً، للدرجة التي جعلته مضرب مثل في الشناعة والقسوة وعدم الرحمة، وهو الضابط ذاته الذي أذاب القائد الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو بالأسيد حتى أذاب جسده وملامح جريمته. وحدة ممزقة في عصر الوحدة جاع الناس وخافوا وذاقوا مرارة القهر واندحار حلم الوحدة والديمقراطية والليبرالية والانفتاح والعيش الرغيد، ووجدوا أنفسهم أشباه عبيد لدى ديكتاتور لا يأخذ مطالبهم على محمل الجد ولا يسعى إلى تطوير حال بلادهم، وهو الذي اشترط الحكم المطلق –أي عبدالناصر- إلى جانب حل كل الأحزاب السورية وعلى رأسها حزب البعث صاحب مشروع الوحدة الذي وافق، بانياً آماله على الكسب السياسي السريع من بذرة تكوينه في إحداث وحدة جامعة، إلا أنها كانت ممزقة. ظروف محلية وإقليمية ودولية دفعت الوحدة نحو السقوط، لكن قبل ذلك السقوط كان لأولئك الضباط العسكريين السوريين في مصر أحلام كبرى تتحدث مصادر متعددة أنها جاءت إثر اجتماعات مع استخبارات دول متعددة، ليعودوا إلى سوريا ويصنعوا مجدهم الذي عاش 60 عاماً، مرة من خلف الستار وأخرى بالتكتيك البطيء، وأخيراً بالحكم العسكري المباشر لحافظ الأسد، الذي كان جزءاً مركزياً في تحركات ما بعد الانفصال. آخر تجربة ديمقراطية سورية بعد الانفصال تولى الرئيس ناظم القدسي رئاسة سوريا بين عامي 1961 و1963 ولعلها التجربة الديمقراطية الأخيرة في سوريا، إذ أطيح الرجل وحكومته في ما سمي بثورة الثامن من مارس (آذار)، وهي الثورة التي قادها أولئك الضباط، المجموعة القليلة العائدة من مصر، والتي أطلقت على نفسها اسم “اللجنة العسكرية” وكانت تضم في قيادتها كلاً من الضباط محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد وسليمان حداد الذين كانوا يمثلون التوجه العسكري المنبثق من حزب البعث في سوريا. آنذاك، كان رئيس الحزب ميشال عفلق، وجرى الانقلاب بموافقة منه استلهاماً من تجربة الانقلاب البعثي العراقي ونجاحه قبل شهر واحد، وليكتسب الانقلاب صبغة ذات شعبية أكبر أُشرك ضابطان من التيار الناصري فيه وهما محمد الصوفي وراشد القطيني والمستقل زياد الحريري، وأيضاً رفعت اللجنة ظاهراً وتمويهاً شعارات تجديد الوحدة وتطويرها، لكنها باطناً كانت تعمل على مشروع سوري سلطوي خالص فما أن نجحت تلك الثورة حتى استبعدت الناصريين ودخلت البلاد عصر التآمر داخل أروقة الحزب والصراعات غير المفهومة ضمن التيار الواحد ورفاق الدرب الذين لم ينج منهم إلا حافظ الأسد. تخطيط حثيث كان هؤلاء الضباط يعملون على مدار العام السابق بالكامل من دون كلل أو ملل لإنجاح ثورتهم، فاستهدفوا أولاً تجنيد ضباط وعناصر الجيش لتأمين حماية عسكرية مطلقة للحزب حال نجاح ثورته، مع النية المبيتة لإطاحة ميشال عفلق اللاحقة على رغم موافقته على الانقلاب، لكنهم كانوا في حاجة لاكتساب الشرعية الموقتة عبر وجود شخص مدني يمتلك قاعدة شعبية على رأس الأمانة العامة للحزب. وفي طور تلاحق مراحل التحضير برزت عدة اتجاهات على الساحة السورية وكان كل ذلك خلال عام 1962، إذ تحالفت اللجنة العسكرية مع الناصريين في مواجهة ما سمي فصيل دمشق، وهو ائتلاف القوى الداعمة للنظام القائم برئاسة ناظم القدسي وكذلك أكرم الحوراني ومناصريه، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الحوراني شريك تأسيس “البعث” والذي كان من أشد مؤيدي الوحدة وتولى خلالها منصب معاون عبدالناصر استقال وصار من أكثر المتحاملين والرافضين لأي مشروع وحدوي، وهو الستار الذي اتخذته خداعاً اللجنة العسكرية في أهدافها، والأعوام اللاحقة أوضحت أن تلك اللجنة لم تقم بثورتها من أجل وحدة جديدة. وبناءً عليه قبل الناصريون بمشروع اللجنة وتواصلت اللجنة العسكرية مع رئيس شعبة الاستخبارات راشد القطيني سراً، والعقيد محمد الصوفي قائد لواء حمص وكلاهما ناصريان، وبالأثناء كانت تجري اتصالات متسارعة مع العقيد المستقل زياد الحريري قائد الجبهة السورية الإسرائيلية، والذي انضم إليهم انتقاماً من الرئيس ناظم القدسي الذي كان على خلاف معه وفي طور خفض رتبته. تنفيذ الانقلاب كان انقلاب اللجنة عسكرياً تقليدياً بالسيطرة على قطاعات وألوية من الجيش السوري ومن ثم إذاعة دمشق وتلاوة البيان رقم واحد، الذي شرح مبررات وظروف الثورة واتهم النظام السابق بالرجعية وضرب أسس الوحدة العربية، ومع قراءة البيان الأول دخلت سوريا في مرحلة قانون الطوارئ الذي بدأ عام 1963 واستمر حتى أُلغي بعيد الثورة السورية عام 2011 بصورة شكلية. وإلى جانب قانون الطوارئ سيئ الصيت، ألغيت الحريات السياسية والمدنية والاقتصادية والحزبية وصارت تحكم سوريا عبر نظام الحزب الواحد، وأصبحت شعارات البعث ومبادئه عنواناً ثابتاً للدولة على مدار ستة قرون متواصلة، وأصبح شعار “أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة” هو ميثاق الجمهورية وسياساتها العلنية ومناهجها التعليمية وأيديولوجيتها التي اتخذت لها جناحين ثابتين في استمرار تمرير مشاريع أفرادها في السلطة، محاربة إسرائيل، وإتمام وحدة عربية جامعة حين تحين الفرصة المناسبة. ثورة على الثورة عقب نجاح ثورة “الثامن من آذار” جرى تعيين حكومة برئاسة صلاح البيطار، وفيما بعد عينت اللجنة العسكرية الضابط أمين الحافظ رئيساً للجمهورية، وظل كذلك حتى عام 1966، إذ قامت اللجنة العسكرية بثورة جديدة أقصت بموجبها ميشيل عفلق من قيادة الحزب وأمين الحافظ من رئاسة الدولة، وكانت بقيادة مباشرة من الضابط البعثي صلاح جديد، وجِيء حينها بنور الدين الأتاسي رئيساً للجمهورية، وكان ذلك واحداً من الانقلابات الدموية في تاريخ سوريا. بعد اعتقال على أمين الحافظ الذي لم يلب تطلعات ومصالح اللجنة العسكرية تم سجنه وأفرج عنه بعد حرب عام 1967 ونفي إلى لبنان ومنها إلى العراق قبل أن يسمح له بالعودة عام 2003 إلى مسقط رأسه في حلب شريطة الامتثال لأوامر السلطة وعدم المشاركة في الحياة العامة أو السياسية وضمناً أي حديث مع وسائل الإعلام داخل سوريا. تولى نور الدين الأتاسي رئاسة سوريا بين عام 1966 و1970 عقب خلع الرئيس أمين الحافظ، ولم تكن فترته واحدة من الأوقات الجيدة في تاريخ سوريا، إذ إن رفاق الدرب في اللجنة العسكرية حين انتهوا من تقاسم الغنائم الفكرية والعقائدية والمناصب التفتوا لبعضهم متصارعين حول هوية الرجل الأوحد الذي سيقود البلاد دون شريك في القرار. صراع الرفاق برز في ذلك الصراع ثلاثة من أعضاء اللجنة العسكرية، محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد، واستطاع الأخيران إطاحة عمران وأحلامه بعد أن كان وزيراً للدفاع ونفيه إلى لبنان، هناك حيث اغتيل عام 1972 على يد مجموعة مجهولة يتهم معارضو الأسد إياه بالإشراف عليها، لكون عمران منافساً محتملاً للأسد وكان ما زال لديه مناصرون داخل الجيش. بعد فروغ جديد والأسد من عمران واستتباب الأمر في قيادة البلد لهما، بدأت ملامح من الصراع تتشكل بين الرفيقين القديمين، إلا أن صلاح جديد كان الرجل الأقوى لأعوام، إذ كان هو من عين الأتاسي رئيساً للجمهورية، وهو من عين رئيس الحكومة ووزير الخارجية ووزراء آخرين من بينهم حافظ الأسد الذي رفعه بقرار حزبي– عسكري من آمر للقوى الجوية إلى وزير للدفاع. حاول جديد أن يحتفظ بالإدارة المدنية للبلاد كأمين للحزب ومسؤول عن مكتب الضباط، وعقب هزيمة 1967 تعالت الأصوات التي حملته مسؤولية ما حصل، إذ أنه تماهى حد الانصهار مع الخط السوفياتي وبالغ في العداء اتجاه دول عربية بعينها مع ترد حاد في الاقتصاد وململة سياسية تطالب بتحرير الأحزاب وتقديم نقد ذاتي ومراجعة أخطاء الماضي، وفي ذلك الوقت كان يعمل حافظ الأسد على إحكام قبضته على الجناح العسكري داخل الجيش ليصير هو القوى الضاربة تمهيداً لما كان ينوي القيام به لاحقاً. تبلور الخلاف الأخير خلال سبتمبر (أيلول) الأسود عام 1970 قرر صلاح جديد إرسال قوات مقاتلة إلى الأردن لمناصرة الفلسطينيين، إلا أن الأسد رفض قراره ورفض دعمهم بالطيران تاركاً إياهم لمصيرهم، وهنا اشتعل الخلاف الأخير والحاسم بين القائدين، وفي الـ13 من نوفمبر (تشرين الثاني) وخلال أحد المؤتمرات القطرية للحزب في دمشق، نفذ حافظ الأسد انقلاباً أبيضاً على المجتمعين يدعمه الضابط مصطفى طلاس والذي صار وزير دفاعه لعقود تلت. نتيجة ذلك الانقلاب كان اعتقال صلاح جديد وقيادة الحزب ورئيس الجمهورية وإيداعهم سجن المزة العسكري، وقد ظل جديد حبيس زنزانته حتى وفاته 1993، ورفض الأسد طوال تلك الأعوام الوساطات والالتماسات في شأن جديد تاركاً إياه لمصيره النهائي في السجن. سمي ذلك الانقلاب بالحركة التصحيحية المجيدة، وهو يوم كان لا يزال يُحتفل به في سوريا حتى سقوط نظام بشار الأسد، وإثر ذلك الانقلاب تلقى الأسد نصائح بألا يكون في واجهة الحكم لأسباب متنوعة، من بينها معارضة المتحزبين وموالو جديد ولكونه قادماً من أقلية لم يسبق لها تصدر المشهد السوري. القائد الأوحد إلى الضوء إثر ذاك قام الأسد بتعيين أحمد حسن الخطيب رئيساً للجمهورية لمدة ثلاثة أشهر خلالها أتم لنفسه الاعتراف المسبق من دول عديدة، قبل أن يقيل الخطيب ويطرح نفسه كمرشح وحيد عبر استفتاء شعبي عام 1971 نجح به بنسبة 99.2 في المئة وبمشاركة 95 في المئة من الشعب، وبذلك يكون الأسد قد افتتح عهد حكمه الذي استمر ثلاثة عقود لسوريا، ومجرياً عهد الاستفتاءات التي تصل نسبها لحدود المئة في المئة، مورثاً إياها مع البلد لولده بشار الأسد. بدأ الأسد الأب عهده باعتقال كل معارضيه، ثم الالتفات لبناء تحالفات خارجية تبقيه على كرسيه، مراعياً خلال الوقت ذاته شؤون الجيش والأمن والقوات المسلحة كسلاح دفاع متقدم عن مكانته ودوره، صانعاً من نفسه رمزاً لا يجوز المساس به أو التطاول عليه، ملتفتاً في ذات الآن لإعادة بناء حزبه ورئاسته، وفي الحزب كما الجيش، أقام نهج التعيينات بناءً على الولاءات والطاعة، لا الكفاءات والقدرة. عصر القمع لعل حافظ استلهم من شخصية وطبيعة عبدالحميد السراج ومنهجية عمله خلال عهد الوحدة، فكان سيفاً بتاراً في وجه خصومه حتى ولو كانوا على أتم الحق، وكذلك في وجه معارضيه، وفي وجه المشكوك بهم ولو كان ظلماً، وفي عصره المليء بالقمع عرف السوريون معنى عبارة “الجدران لها آذان”، فكانوا يخافوا أن يهمسوا ولو بالسر، وحتى وأن يتناقشوا في جلساتهم الخاصة بالسياسة. مبنى يحمل صور الرئيس السوري الأسبق حافظ الأسد (يمين) وابنه بشار، في 4 يناير 2025 (أ ف ب) من المؤكد أن الأسد استلهم من تجارب أخرى أكثر شمولية من تجربة السراج، تجارب على صعيد بناء دول الحزب الواحد، فعوم البعث فوق المجتمع، ومنح أفراده وقياداته صلاحيات شبه مطلقة، وحول الحاضنة الشعبية إلى أمنية لتكون رديفاً عسكرياً لعسكره، فاستطاع أن يحول الناس لكتاب تقارير ضد بعضهم، حتى جعل الأخ يكتب بأخيه، وخلق صراعات ومنافسات بين الأجهزة الأمنية وفرق الجيش تصب جميعها في خانة إثبات الولاء المطلق له. التدرج الحزبي للبعثي ثلاث مراحل يمكن التدرج بينها اختيارياً، إذ يبدأ بمسمى “نصير” وهو التنسيب الإجباري لطلبة المدارس في الثانوية العامة لحزب البعث مع إلزامهم دفع الاشتراكات، ومن ثم تأتي مرحلة العضو المتدرب وقد تستغرق عامين، ومن ثم المرحلة العليا وهي العضو العامل وقد يستغرق الحصول عليها عامين ويزيد، وبعد نيل العضوية العاملة يحق للحزبي حضور اجتماعات معينة والتصويت على قرارات أخرى وتتيح له هذه العضوية التدرج في المناصب الحزبية. وكذا، صار حزب البعث مطمعاً شعبياً لكونه الوحيد المؤهل للسلطة، ومرة أخرى بناءً على حجم الولاء قد يترفع الشخص في أروقة الحزب من قاعدته وحتى هرميته المتمثلة بأعلى سلطة حزبية عبر القيادة المركزية المكونة من مجموعة أفراد يقودهم رئيس الجمهورية بوصفه أيضاً أميناً عاماً للحزب. ولهذه اللجنة دور حسم في تعيين المناصب العليا في الدولة، من حكومة ووزراء وضباط ومديرين عامين وفرعيين وبرلمانيين وغيرهم، ويحق لها بما يتبعها مباشرة من أفرع حزب في المحافظات والمدن وفرق وشعب حزبية أن تتدخل في كل شيء ضمن نطاقها الجغرافي، إذ يكون أمين فرع الحزب في محافظة ما أهم وأعلى تمثيلياً من محافظها وقائد شرطتها، بل يمكنه أن يملي عليهم التعليمات. يعرف السوريون جيداً أن الوصول إلى السلطة يتطلب الوصولية، وحصل ذلك بعد أن نهش الفساد جسد “البعث” وفتته من الداخل، وعلى رغم حفاظه المطلق على ولائه لأمينه العام فإن قياداته استغلت نفوذها في توزيع المناصب وجمع الثروات وجني الإتاوات مبتعدين صورةً ومضموناً عن أيديولوجية الحزب وشعاراته، بل وربما ساخرين منها في سرهم. باختصار، بات المنصب البعثي أقرب لمكافأة صاحبه على منجز قدمه وليس مهماً أن يكون لمصلحة الشعب، إذ يكفي أن يكون لمصلحة القيادة العامة، وبذلك اختلط يمين الحزب بيساره ليخرجوا بعصارة من القادة الذين لم يقرأ جلهم يوماً شيئاً من نظريات الآباء المؤسسين. بين مرحلتين يمكن الحديث هنا أن الحزب نفسه تباين بين مرحلتي حافظ وبشار، على رغم أن التعيين بناءً على الطاعة لم يتغير ولكن طمس هوية الحزب هي ما تغير، فإن كان البعثيون قوميين على عهد الأب وإن كان خجلاً لحفظ ماء الوجه والتمسك بالشعارات الرنانة، فإنهم على عهد الابن استباحوا كل شيء علانية، وصاروا تحديداً في الحرب الأخيرة أمراء حرب ويبدو بعض منهم أقرب للارتزاق من شخص يحمل فكراً نمت أولى بذوره قبل قرن. مقاتلون يحطمون تمثال حافظ الأسد بمدينة إدلب في 28 مارس 2015 (أ ف ب) كان السوريون خلال الأعوام الأخيرة يلقبون أعضاء القيادة بـ”كهنة المعبد” وذلك لأن جلوسهم على الكرسي كان يستمر ويستمر ويستمر على رغم تغير حكومات وبرلمانات. مع مطلع شهر مايو (أيار) 2024 أعلن الحزب عن عقد مؤتمره القطري، وفي ذلك المؤتمر وعد الرئيس المخلوع بشار الأسد بإصلاحات جذرية، وبالفعل عزل من طريق الانتخابات كل أعضاء القيادة التاريخيين في المراحل السابقة، وجاء بقيادة جديدة بالمطلق، لكن تلك القيادة لم يكتب لها أن تعمل لأكثر من نصف عام، وهو تاريخ سقوط النظام. نهج ثابت تلك النقلة النوعية داخل الحزب كانت لافتة وجريئة فعلاً، وبدا أن الأمر حركة تصحيحية حقيقية، لكن حين النظر إلى الخلفيات التي جاء منها معظم القادة الجدد لم يكن صعباً الاستنتاج السريع أن الحزب يعيد استنساخ نفسه من جديد، محافظاً على عقلية التزكية والطاعة والخلفيات المشبوهة، مبدلاً الأسماء نحو أشخاص بات يرى فيهم ديناميكية أكبر وقدرة على التكيف مع المسار الاقتصادي الذي يحتاج عقليات منفتحة نحو الجباية من خارج الصندوق القديم. جرى العرف أن تضم أية قيادة مركزية في الحزب إلى جانب الأعضاء المفرغين الأساسيين رئيس الحكومة ووزير الدفاع ورئيس مجلس الشعب كأعضاء مقررين ولكن غير مفرغين بسبب مسؤولياتهم الأخرى، فيما يتولى المفرغون مكاتب متعددة من بينها المكتب الاقتصادي، ومكتب الشباب، ومكتب التنظيم، ومكتب النقابات والمنظمات، والإعلام والثقافة، وغيرهم، وكل رئيس مكتب تفوق صلاحياته أية شخصية أخرى في البلد، عدا كبار ضباط القصر الرئاسي والفرقة الرابعة. سقوط الحزب مع سقوط النظام فجر الثامن من ديسمبر (كانون الثاني) 2024 سقط معه بطبيعة الحال حزب البعث، وتناثرت قياداته بين الداخل والخارج، وبالضرورة ولأن الثورة انتصرت فجرى حل حزب البعث بكل ما حمله للسوريين خلال ستة عقود، ستة عقود تمسكت بالاشتراكية لفظاً وتعنتت بالكسب غير المشروع سراً. والآن بعد مضي أكثر من شهر على سقوط نظام بشار الأسد، وانتظار السوريين انقشاع الغيوم الرمادية من أجوائهم وتبيان وضع مصير بلدهم وإلى أين ستتجه الأمور، فلا شك أن الفرحين لانحلال الحزب الأمني كثر، الحزب الذي انتشر أكثر بين الطلبة وفي المجتمع خلال الحرب الأخيرة وصار أداة للقمع واستنهاض الهمم لمصلحة النظام وضرب الناس ببعضها ومراقبة الأفواه وسبيلاً متمرساً في كيل التقارير وسجن السوريين ظلماً، أما الحزانى فهم قلة قليلة التي استفادت من فساد الحزب وتحصلت على مكتسباتها من خلال علاقاتها بالقيادة القديمة وما يعرف بالمال السياسي، والذي صار ركيزة في حياة الحزب والساعين إلى تسلم مناصب مختلفة. ويكفي القول إن دخول البرلمان كان يحتم على الراغب به دفع مليارات الليرات السورية ليحظى بالدعم والترشيح والكرسي لاحقاً، وعلى ذلك يمكن قياس توزيع بقية المناصب مهما علت أو تباينت، وهي ذات العقلية التي أوصلت في القريب الماضي طبيباً بيطرياً ليكون وزيراً للتربية، ووزيراً للدفاع لم يتول يوماً مسؤولية قتالية خلال حياته العسكرية، ومرتشين وفاسدين وضالعين في جرائم الحرب وجهلة ومجرمين إلى البرلمان والإدارات العامة والفرعية. المزيد عن: سورياحزب البعثحافظ الأسدبشار الأسدجمال عبدالناصرمصرالوحدة بين مصر وسورياسقوط بشار الأسدعبدالحكيم عامرالجمهورية العربية المتحدة 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post بعد هليفي قائمة المستقيلين من الجيش الإسرائيلي تطول next post خالدة جرار عن الفلسطينيين في سجون إسرائيل: يعاملوننا وكأننا لسنا بشرا You may also like خطة “فينيق غزة”: إزالة الركام تحتاج لعقدين 23 يناير، 2025 خالدة جرار عن الفلسطينيين في سجون إسرائيل: يعاملوننا... 23 يناير، 2025 بعد هليفي قائمة المستقيلين من الجيش الإسرائيلي تطول 23 يناير، 2025 الكويت تُسقط الجنسية عن 38 شخصاً لـ«المساس بولائهم... 23 يناير، 2025 قطع رأس جاره وتجول به… جريمة قتل مروعة... 23 يناير، 2025 الشكوك تحيط بالانسحاب الإسرائيلي من لبنان بعد انقضاء... 23 يناير، 2025 وزير الخارجية السعودي يحط في بيروت في أول... 23 يناير، 2025 علي عواض عسيري: اتفاق الطائف لم يطبق ولبنان... 23 يناير، 2025 أيمن عودة يدافع عن احتفاله بإطلاق سراح “الرهائن... 23 يناير، 2025 ترامب يعيد الحوثي إلى قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية 23 يناير، 2025