ثقافة و فنونعربي نوري الجراح: قصيدتي مدينة أصوات في عالم تهدمت مدنه by admin 14 سبتمبر، 2022 written by admin 14 سبتمبر، 2022 10 يعتبر أن لا شعر من دون مواجهة شرسة مع اللغة وعلى الشاعر أن ينطق دائماً باسم العنق ضد السكين اندبندنت عربية \ شريف الشافعي كاتب وصحافي يأتي صدور الجزء الثالث من أعمال نوري الجراح الشعرية عن “المؤسسة العربية للدراسات والنشر” في بيروت تكريساً لرحلته الإبداعية الزاخمة، الحافلة بالإصدارات المتتالية، والترجمات إلى لغات متعددة. فالشاعر السوري، المولود في دمشق عام 1956 ويقيم في لندن منذ عام 1986، يشتبك بقصائده مع لحم الواقع الحي، ويتفاعل مع مستجدات المشهد الشعري العربي منذ أربعين عاماً، حين صدرت باكورة مجموعاته الشعرية بعنوان “الصبي” في بيروت عام 1982. وتوالت بعدها دواوينه المشحونة بالرؤى النابضة، والتساؤلات المثيرة، وضربات الأجنحة، التي تتحدى سطوة العالم وقساوته، وتصحر أجوائه وسكانه، وتضع عناوين للخصوبة والنماء في مواجهة الجدب والاضمحلال والموت. يحتوي الجزء الثالث من أعمال نوري الشعرية المجموعات الأحدث، المنشورة ما بين عامي 2011 و2019، وهي “يوم قابيل والأيام السبعة” و”يأس نوح” و”قارب إلى ليسبوس” و”نهر على صليب” و”لا حرب في طروادة”، بعد مجلدين سابقين تضمنا دواوينه المبكرة، والتالية، ومنها “الصبي” و”مجاراة الصوت” و”نشيد صوت” و”طفولة موت” و”كأس سوداء”، وغيرها. أما ترجمات شعره إلى لغات أخرى فتنوعت بين الإنجليزية والفرنسية والإسبانية واليونانية والتركية والفارسية والإيطالية. وقد احتفت بمؤلفاته الشعرية مجموعة من الكتب والأطروحات. الشعر والتحولات العاصفة “اندبندنت عربية”، التقت الشاعر السوري نوري الجراح في هذا الحوار حول محطاته الشعرية الممتدة منذ أربعة عقود، وملامح تشكلات القصيدة السورية والعربية الجديدة، وعلاقة الإبداع بتحولات المجتمعات العربية، خصوصاً في مرحلة الثورات العربية وما بعدها، والمواقف المتناقضة للمثقفين، وغيرها من المحاور المتعلقة. صدور الجزء الثالث من أعماله الشعرية (المؤسسة العربية) للمرحلة الأخيرة في تجربة نوري الجراح الشعرية خصوصيتها التي لا تخفى، وذلك بعدم اكتفاء قصيدته بمساءلة الواقع الدامي، الذي شهد تفجر الثورات العربية، وإنما أيضاً بمعالجتها الملحمية والفلسفية لما أملاه التاريخ، وما تحكيه الأساطير. بسؤاله عن تلك الأنفاس الشعرية الجديدة المتلاحمة، التي امتزجت أبخرتها الصافية البريئة بالبارود والأدخنة والرياح العاصفة، لتكون صوتاً للذات، ومرآة للدماء السورية والعربية، وبوصلة للمحنة الإنسانية التي لا تتلاشى عبر العصور، يجيب بقوله، “الشعر سؤال، لكن: كيف يمكن للشاعر أن يفكك هذا السؤال في شعره؟ هل يستطيع الشاعر أن يمدد قصيدته على المشرحة ويعمل فيها قراءة القارئ؟ ربما كان الجواب موجوداً في تلك الانتباهات النقدية التي قرأت هذه الأعمال، وصدرت غالباً عن نقاد شعراء، وأحياناً عن نقاد احترفوا النقد. هؤلاء وأولئك وقفوا، كل على طريقته، على جوانب مما اعتبروه انعطافة فنية في شعري، ظهر فيها البعد الملحمي بتأثير من الوقائع والتحولات العاصفة، التي داهمت الحياة العربية في العشرية الأخيرة”. ويؤكد نوري أنه يشعر بكرم فائض من قبل من أشعروه بقيمة ما قدمته قصيدته تعبيرياً وجمالياً، موضحاً بقوله، “ثمة انطباعات نقدية عن شعري المكتوب في السنوات العشر الأخيرة أشعرتني بشيء من الزهو، لكن أيضاً بمسؤولية كبيرة. مهمة الشاعر تنتهي مع السطر الأخير في قصيدته، والكلام على الشعر أصعب من كتابة الشعر. أحياناً، في لحظات اليأس من واقع القراءة أرى في خطابات الشاعر الموازية لشعره ضرباً من عبث، لا طائل من ورائه. وفي كل الأحوال، هل من الحصافة أن يستعرض الشاعر شعره كمروج لسلعة؟ أظن أن من الأفضل أن يذهب القارئ إلى القصيدة، ليقرر بنفسه ما يحب وما لا يحب. لا يستطيع الشاعر أن يكون شاعر القصيدة وناقدها، ولو حدث شيء كهذا فهو عنوان عريض لموت القراءة. أما الناقد في الشاعر فهو موجود أصلاً في صلب العملية الإبداعية، في قلب التجربة وفي لحظة الكتابة نفسها. إنه ناقد سري يرقب ويتصرف، وهو موجود إلى أن تفتح القصيدة الباب وتخرج من البيت”. خصوصية الألم السوري ديوان وترجمات (صفحة الشاعر- فيسبوك) ويمضي نوري الجراح في إجابته مستطرداً، “مع ذلك، وما دمت متورطاً في الإجابة عن سؤالك، دعني أقول، وباختصار، إن شعري في السنوات الأخيرة اعتنى بالملحمي، ربما، ليضاهي الواقع العصي على التعريف، وليكون في وسعه أن يلم على نحو ما بمأساوية ما حدث ويحدث في عالمنا، وللناس الذين أنتمي إليهم. وقد هدم الطغيان عالمهم، وأحالهم بحروبه المهولة إلى أمة ممزقة، فباتوا طرواديي العصر الهائمين على وجوههم في البحر واليابسة، وفي جهات الأرض الأربع. ولا أتحدث هنا عن السوريين وحدهم، على الرغم من خصوصية الألم السوري، والقيامة السورية، ولكنني أتحدث عن اللبنانيين والفلسطينيين والليبيين واليمنيين، وكل أولئك الذين أنعشت أرواحهم نسائم الربيع، ثم ووجهوا بالتنكيل والقتل والتهجير من ديارهم المحترقة، لكونهم تلفظوا بتلك الكلمة: الحرية”. “لم أكن شاعراً سورياً بالمعنى الصغير للكلمة، يضيف نوري، “فأنا ابن اللغة العربية بكل قواميسها ولهجاتها. وهذا لا يمنعني من تأكيد فكرة أنني شاعر متوسطي يكتب بالعربية، ونشيده إنساني المنزع. ومن دون الأسطوري والملحمي لم يكن بإمكان قصيدتي أن تضاهي كل هذا الجنون وتلك الآلام التي شهدها البحر المتوسط، ولا أن تسمع آهات الغرقى في قاعه العميق، ولا أن تعبر بالتالي عن وجداني العميق وقدري الشخصي، وتطلعاتي المرتبطة بمآسي شعبي. لعقود مضت كانت قصيدتي صوت شخص واحد، والآن هي مدينة أصوات في عالم تهدمت فيه المدن وتشردت الأمم على الهواء مباشرة، تحت سمع وبصر عالم مخطوف العقل ومعطوب القلب، وميت الضمير”. القصيدة والثورات العربية بالنظر إلى الثورات العربية، نجدها قد أعادت العلاقة الحميمة بين الإبداعي والسياسي، والإبداعي والاجتماعي، والإبداعي والأخلاقي. وقد شهدت الثقافة العربية ظهوراً متناقضاً من المبدعين، فهناك من ناصر الربيع العربي، وهناك الآخر الذي تشكك فيه إلى درجة الصمت على الجريمة أحياناً. وبسؤال الشاعر نوري الجراح: نعرف أنك من الفئة الأولى، ومع ذلك أنت مدافع قوي عن جمالية القصيدة، وثوريتها الداخلية، فكيف تنظر إلى مسألة أن تكون “قصيدة الثورة” هي في الآن ذاته “ثورة القصيدة”؟ وبمعنى آخر، كيف يبقى الشاعر “الشخص” محتفظاً باستقلاليته خارج فكرة الشاعر “الدور” التي حذرت منها من قبل؟ في أمسية شعرية (صفحة الشاعر – فيسبوك) في المبتدأ والختام، كما يرى الجراح، “القصيدة عمل مع اللغة، عمل ممتع وشاق في الوقت نفسه. لا قصيدة من دون مواجهة شرسة مع اللغة، مواجهة تعكس طبيعة علاقة الشاعر بذاته وبالعالم. وهو عمل في مختبر للخلق، أحياناً ما يشبه نهراً تغتسل فيه الكلمات، لتعود نقية من مرجعياتها ومحمولاتها السالفة. وأحياناً يكون مرجلاً تنصهر فيه الكلمات، وتخرج وقد حملت السمات الخاصة بشاعر. فإذا بالقصيدة عمارة ذات شيفرة وراثية، وأسرار تتخلل الصياغات والتراكيب والإيقاعات والموضوعات، التي لا يمكن أن تصدر عن شخص آخر. في هذه الصيرورة تتخلق الميزات والميول الخاصة، والطابع الفريد، والتاريخ الشخصي لشاعر. الشاعر، كما تعرف، لا يختار موضوعاته، هي ثمرة صيرورة مرتبطة بـ(وصادرة عن) منظومة من التأملات والنزوات والهواجس والتفكر، والانفعالات والتهيؤات والمواقف، التي تتضافر وتتحول إلى بؤرة تخرج من شرنقتها فراشة القصيدة”. أما بالنسبة إلى علاقة الشاعر بعالمه وبالوقائع المأساوية التي نتجت عن عناد دولة الطغيان العربية، خصوصاً في هذه البرهة من الزمن، وبالنسبة إلينا كعرب، وإليه كسوري. يقول نوري، “دعنا نتأمل أولاً في الوقائع التي فرضت نفسها. ففي لحظة عربية هائلة، لحظة الربيع العربي، تحرك السوريون أسوة بشعوب المنطقة، منتفضين على نظام عسكري متوحش، ظن أنه محصن من الثورات، معتداً بجبروته. نظام أقام للناس كهفاً مظلماً يخيم عليه الصمت وينتشر فيه الرعب. وقد ابتدع من لدنه وبطانته وبعض المغامرين المتذاكين العاملين في مؤسساته الثقافية أو الواقعين على مقربة منها نخبة من (المثقفين) يسر للبعض منهم أن يلعبوا أدواراً معارضة وأخرى براقة على هامش منظومة للعبودية، لا مثيل لها إلا في ما اختبره المستعبدون في الإمبراطورية الرومانية”. المثقفون المنفيون لم يكن الشاعر نوري الجراح في تلك اللحظة الفارقة موجوداً في دمشق، لأنه كان غائباً عنها منذ عقود. وقد عبر شعراً عن ذلك بقوله “لم أكن في دمشق/ وصلت إلى نهاري على حصان قتيل/ وصلت، ورأيت النهر محترقاً/ والأشجار هاربة على الوادي/ السماء أطبقت على الأرض/ والفتى الصريع سد بقامته باب البيت/ لم أكن في دمشق عندما جاء الزلزال/ لم أكن في جبل ولم أكن في سهل/ عندما ترجفت الأرض وتشققت صور هي والهواء/ كانت يدي الهامدة، تنبض، في أرض أخرى/ رعدة خفيفة سرت في جسدي/ وضاءت يرقة في صدغي الجاف/ أهي الرسالة، تسقط، في بريدي/ أم الربيع يتقلب في أرض بعيدة؟”. وبسؤاله عن ذلك المنعطف، يجيب بقوله، “خذ هذا المثال: في يوم أسبق على ثورة البركان، وصل إلى لندن رسولان للنظام يحملان لي بطاقة ترحيب للمشاركة في احتفالية (دمشق عاصمة الثقافة العربية). والآن، تخيل مهزلة أن تركب الطائرة وتهبط في مطار دمشق لتكون ضيفاً على المنظومة التي تسببت بتشردك لربع قرن بوصفك الابن الضال، وقد عاد أخيراً ليعتذر عن ماضيه. يومها تذكرت رسالة دانتي لحكام فلورنسا الذين نفوه عنها، وقد قال للمبعوث ما معناه: من يجب أن يعتذر لمن، الحاكم الطاغية للشاعر؟ أم الشاعر للطاغية الذي نفاه؟ لقد فشلت الوساطة التي تبرع بها المحسنان (موظفين كانا أم متطوعين)، وقد ودعتهما بإشارة إلى أن رد المثقفين المنفيين سيكون خطاباً مفتوحاً يرفض فكرة أن يحتفل شعبهم بدمشق عاصمة للثقافة العربية وفي أقبيتها أدباء ومفكرون ومثقفون وفنانون يسامون سياط العذاب بسبب آرائهم. ليتكشف الأمر لاحقاً، وبوضوح أكبر بالنسبة إليَّ، عن هشاشة في انتماء المثقف العربي لفكرة الكرامة، وازدواجية مهلكة في علاقة الكاتب بالسلطة. فالكاتب في دولة البعث زبون عند السلطة مرتعد الفرائص، مرة بمرتبة قن وأخرى بمرتبة مهرج. ويمكن أن يلعب دور المصيدة الثقافية لصالح جماعة الطاغية”. ديوان للشاعر (المؤسسة العربية) وبسؤال الشاعر الجراح عمن يعنيهم في إشارته هذه، يجيب موضحاً، “هم شخصيات أدبية هزلية عابرة للجغرافيا، لا تزال تتقافز هنا وهناك بقاموس شفاهي عائم وكلام يصلح في لحظة المقتلة للتأويل على وجوه شتى، فصاحبه خارجي في الخارج، وداخلي في الداخل. والطريف أنه يعرف أننا نعرف أن أمره معروف! لكن الغريب في الأمر أن يسمح وضوح الصورة المأساوية الراهنة بين حال أهل الداخل وحال أهل الخارج، بكرة تسقط هنا في شباك المنافي، حتى عندما لا تسمح المقتلة بنسمة تمر، أو نملة تدب، أو نأمة تسمع هناك في البلاد المسيجة بأسلاك الطغيان والاحتلالات الأجنبية! لا ألوم الأسرى في مدن الطغيان، لكنني ألوم المتبرعين في تبييض صفحة الجريمة بتقديم صور زائفة عن حرية الحركة من وإلى مدن الطغيان”. يعود نوري مرة أخرى إلى فكرة الموقف الأخلاقي للشاعر، وموقع الشاعر في التاريخ، ليقول مؤكداً، “إن سوء الصور التي سلفت لا يساوي شيئاً أمام السقطات المتكررة للشاعر الموصوف بأنه حداثي، والذي ظل ينادي بالثورة على القديم، ويبشر بحرية الشاعر بوصفه صوت الكينونة، إلى أن طرقت الحرية الباب على شعبه، فإذا به يرتجف من الفكرة، وينكر على من اعتبروه شاعرهم حقهم بالخروج على الطغيان. ومع مرور الوقت، وكلما أهرق دم تحت رايات تلك الكلمة، كلمة الحرية، وكلما سقطت زهرة من أزهار الشباب مضرجة بدمها، ابتكر هذا الشاعر لثورة شعبه من الرهاب صوراً، وطاف بتلك الصور المفزعة المعمورة مشهراً بانتفاضة شعبه بلغة حربائية تتلون بألوان المكان المضيف ومواضعات الزمان، مزيناً خطابه المراوغ بصور مثالية وأخرى مستحيلة لفكرة الثورة، ليسوغ رفضه لها وإنكارها على شعبه. فهي مقبولة في تونس ومصر ومن قبل في طهران، ومرفوضة في سوريا ولبنان”. قتل الظلام وحول ما إذا كان الشاعر المجدد، من هذا المنطلق، يبدو أقرب إلى فكرة المعارضة السياسية، والتمرد على الوضعيات السلطوية والمجتمعية الراكدة والساكنة، يجيب قائلاً، “عندي أن الشاعر ليس مطلوباً منه أن يكون على وفاق أو انسجام مع المعارضات السياسية، لكن موقع الشاعر أن ينطق، على الدوام، باسم العنق ضد السكين، أياً كان صاحب العنق، وأياً كانت اليد التي تحمل السكين. أن لا يبتلع الشاعر لسانه أمام هول الجريمة، وأن لا يزيف الصور خوفاً من بطش الطغاة، أو تواطؤاً معهم أياً كان الدافع أو السبب. وإلا كيف يكون الشاعر رائياً، وكيف يكون ضمير عصره؟ كلامي لا يسمي شاعراً دون غيره ممن خذلوا شعوبهم، وهو يشمل غير واحد ممن ملأوا صحائف النصف الثاني من القرن العشرين بخطابات الحرية والحداثة، ليتبين لنا أخيراً أنها خطابات زائفة”. يتسلح الشاعر السوري نوري الجراح دائماً بالأمل، على الرغم من كل ما يشهده الواقع من خرائب. وهذا الأمل هو شعاع الضوء الذي يقتبسه الشاعر من تفجرات القصيدة. ومن دون هذه العملية الإبداعية التي يجب أن تستمر فلا شيء في هذا العالم المتهاوي سوى الخواء والظلام. إنه، باختصار، شاعر يقيم في قصيدته، ويتخذها حصناً للفكاك من ذلك الإحساس بالاغتراب، إذ “لا بيت لي لأقف بالباب وأدعوك إلى البيت/ لا نافذة لأهتدي، لو رجعت من الموت/ لا ضوء في نافذة/ ولا قمر ليل في شجرة”، كما يقول في قصيدة له. وعلى الرغم من أن الشاعر نوري الجراح “لم يكن في دمشق عندما جاء الزلزال” (الربيع العربي)، لكونه يعيش مغترباً، فإنه كما جاء في قصيدة له “وصل مع الواصلين إلى النهار”. وبسؤاله هل يد الشاعر وهي تنزف الكلمات تجعله يصافح بسهولة “تلك الساقية التي تنتحب في البستان” وهو هناك “في آخر الأرض”؟ أية مواصفات لتلك الكلمة الشعرية التي تتحدى الموت والتي لا يتبقى للمتشبثين بطوق النجاة غيرها؟ يجيب نوري الجراح بقوله، “لكأني بك تتساءل عن قدرة الشعر على ابتكار الأمل. والشعر بالنسبة إلى الشاعر هو المصدر الأخير للضوء، وما تبقى هو ظلام مطبق. وجوابي أن إقامة الشاعر في المكان هي المجاز، أما الإقامة الحقيقية له فهي في اللغة. المكان حيز للوجود العابر، وقصيدة الشاعر شرفته على العالم ونشيده الكوني. وإذا كان الحلاج اعتبر البعد والقرب واحداً فإن الشاعر هو صوفي العصور كلها، وهو من أهل الخطوة بطرفة عين يطوي بقصيدته الأرض، لسان يلهج بالحق، وقلب يخفق للجمال. من أبعد مكان في الأرض يسمع الصوفي صوت اهتزاز العشب في أرضه الأولى، التي نفي منها، وقد هب عليها هواء الحرية، وتبلغه صرخة الألم التي ندت عن جريح سقط تحت راية الحرية. ليكون أول ما يكون صوت الثائر على الطغيان، ولسان الضحية. بالكلمات يعمر الشاعر المدن ويحرس الأحلام، وبالكلمات يقاتل الظلام ويصنع الأمل”. معاني المنفى تتعدد طبقات الإحساس بمعاني المنفى في شعر الجراح، فهو المغترب منذ عقود، وإذ به يتوحد مع المنفيين والمهجرين قسراً من السوريين. بسؤاله عن تطور دلالات المنفى لديه، ومن ثم إبحاره في أعماق مفهوم الاغتراب، الجسدي والروحي والصوفي في آن، منذ ابتعاده عن الوطن في سن مبكرة، وصولاً إلى مجموعته “قارب إلى ليسبوس”، التي يتماهى فيها همه الخاص، والجرح التراجيدي السوري، ويصير الاغتراب والشتات “دولة” بأكملها، يجيب بقوله، “خرجت من سوريا في أواسط العشرينيات من عمري، وها أنا ذا في أواسط الستينيات. تعددت الجغرافيات التي سكنت والمشارب التي نهلت منها، ولكم خطوت هنا وهناك بشغف المغامر المكتشف، ولكم بنيت وهدمت لأحمي الحلم وأحرس جذوة الشعر فيَّ وشعلته المقدسة، وأجدد علاقتي بذاتي وبالعالم. الكتابة ظلت لي أرض المغامرة وسماءها، كتابة ضد طرائق المحو وأسباب النسيان، وقصيدتي كانت ولا تزال ديدنها السعي إلى خلق لغة في قراءة الذات والعالم لا تني تتجدد. ولو كان ديدني أن أبني عمارة شعرية تؤخذ على محمل النموذج، وهذا قطعاً ما أرفضه، لقلت إن قصيدتي تسعى إلى أن يكون لها، في جوار نخبة من الشعراء العرب الذين بلوروا تجارب مؤثرة، سهم في إخراج الشعرية العربية من مأزق الركود والعادية والتكرار الممل للموضوعات نفسها التي يتقاسمها السواد الأعظم من الشعراء مشرقاً ومغرباً. وقد بلغ التشابه في الكتابة الشعرية حد التماثل السيامي، فباتت القصيدة الحديثة معهم (وهي في زماننا تسمى قصيدة النثر) خزانة مسبقة الصنع، تجمع أجزاؤها عن طريق دليل مكتوب بسبع لغات يرشد الشاعر إلى موضع كل قطعة من الخزانة، وكيفية جمع أجزائها وتراكيبها وموضع البرغي والمسمار والعزقة والمفصلة… إلخ. فهي قصيدة مسبقة الصنع”. ديوان للشاعر (دار ظلال وخطوط) ويستطرد نوري موضحاً، “لكأن في مدينة الشعراء صندوقاً كبيراً مبذولاً لكل واهم ينهل منه مفردات وتراكيب وصيغاً وموضوعات ومعها استعارات ومفارقات وإيقاعات، ويصوغ قصيدته. وهو ما يجعل من القصيدة نسخة من غيرها، وغيرها نسخة من أغيارها. فلا يعود لدينا في مدينة الشعر من بضاعة الشعر سوى تلك الصناعة الشعرية المهترئة وذلك اليقين الشعري البالي. وبالنسبة إليَّ الشاعر ليس مجرد صائد صيغ على طريقة صائد الفراشات. الشاعر مغامر، ومن طبع المغامر أن يكون جواب عوالم. وما أريده حقاً هو عنايتي في أن أظل أعي ما أفعل، منقذاً نفسي من أن تستهويها الأوهام التي أودت بالبعض إلى هاوية الشعور بجنون العظمة. والشعر أولاً وأخيراً بالنسبة إليَّ شغف شخصي، فرح بالكلمات، ورحلة شديدة الخصوصية في تأمل الحياة والصيرورة الإنسانية. وهو وسيلة لهدم الجدران بين الأزمنة، وفتح النوافذ، جميع النوافذ على جهات الأرض وهواء الوجود، وابتكار الأمل”. وهنا، عند هذه النقطة، يضيف نوري، “ثمة ما يفسر ولعي بالتواريخ والأساطير والأقنعة والشخصيات الميثواوجية والسرديات الكبرى، ولكن دائماً، انطلاقاً من منطقة محددة، بيئة مشتركة، هي بحيرة المتوسط وضفافها التي عمرتها أقوام أنشأت فيها الحضارات وتبادلت في ما بينها، إلى جانب الحكايات والأفكار والتصورات والآلهة، الزيوت والخمور والحبوب والشموع والأخشاب والقبل والطعنات. قصيدتي نهلت من ماء المتوسط، ونوره وزرقته وحكاياته، ولو كان فيها جمال فهو انعكاس لجمال المخاض الإنساني وصراع الأفكار والعقائد والخيالات، وتفاعل الصيغ المتعددة واللغات المختلفة، المعبرة عن التوق والمغامرة في رحلة البحث عن الأجمل والأسمى والأكثر براعة وثراء في التجارب المديدة والعظيمة لشعوب المتوسط. وهم، على اختلاف أعراقهم، يشتركون في امتلاك مزاج فريد من نوعه في ذكائه الفطري وأريحيته وطرافته وعمقه، ومن ثم في احتفائه العفوي بكل ما هو غنائي وفلسفي وتراجيدي. قبل 2011 كنت المغترب الوحيد في أسرتي بعيداً من أهلي ومسقط رأسي فكتبت “طريق دمشق”. بعد 2011، وقد دفنوا جميعهم في المراكب وابتلعتهم المنافي، هب عليَّ صوت دمشق وهي تطرق أبواب بيوتهم الموصدة وتبحث عنهم في أزقتها المقفرة فكتبت (الخروج من شرق المتوسط)”. فخاخ الترجمة بعد الترجمات الجديدة لشعر نوري الجراح إلى الإيطالية والإنجليزية والفرنسية، ومن قبلها ترجمات إلى لغات عدة، يطرح السؤال ذاته، أو فهي مجموعة أسئلة في حقيقة الأمر، منها: كيف يرى قصيدته في عيون قارئها غير العربي، الأوروبي بوجه خاص، سواء القارئ العادي أو الناقد المتخصص؟ وإلى أية درجة يعتبر أن قصيدته وصلت سليمة، ونجت من فخاخ الترجمة ومطباتها الوعرة؟ وما الذي تحتاج إليه القصيدة العربية الجديدة بشكل عام، لتصل إلى الآخر الغربي بشكل أكثر استفاضة وسلاسة وصدقية؟ يجيب نوري بقوله، “دعني بداية أوضح أن العرب لم يهتدوا بعد إلى جواب شاف عن سؤال الترجمة. وهو سؤال ينفتح بنا على أكثر من سؤال، وأولها: ما الغاية من الترجمة من وإلى لغة من اللغات؟ وعلى عاتق من تقع ترجمة أدب أمة إلى لغات أمم أخرى؟ الثقافات الأخرى حسمت هذين السؤالين، معتبرة أن من واجباتها ترجمة آدابها إلى اللغات الأخرى، فالثقافة أحد الأوجه المعبرة عن قوة أمة ومكانتها بين الأمم. وعلى هذا الأساس حددت واجباتها بإزاء أدبها وفكرها. العرب في عصرنا ما زالوا حائرين وسط عالم يشعرون بغربة كبيرة عنه، بل إن بعضهم يشعر أن هذا العصر ليس له! حيرتهم وعجزهم عن الانخراط الفاعل في صنع عالمهم، والمشاركة في صناعة العالم تجعلهم ينتظرون من الآخرين أن يقوموا بالمهمة نيابة عنهم! لكأنهم أمة قلقة من كونها غير قادرة على معرفة مواطن الإبداع لديها، ولا تملك الثقة بما تملك، وتريد من الآخرين اكتشاف ذلك عندها، ما يجعلها غير مهيأة لأن تكون فاعلة في ثقافة هذا العصر”. ومن هنا، يضيف نوري، “لا بد أن نبدأ لكي نفهم ما يبدو فوضى عربية اسمها الترجمة، حيث لا خطط، لا أولويات، لا برامج للترجمة تقف وراءها هيئات ثقافية عربية رسمية أو أهلية مدعومة من الدولة والمجتمع تعنى بنقل الأدب. وهو ما ترك الباب مفتوحاً على المبادرات الشخصية، والعلاقات الشخصية والمعايير الشخصية في صناعة فرصة الترجمة. فمن يصنع الفرصة ليس الخطة، وإنما مبادرة الكاتب نفسه. فهو من يختار وهو من يسعى ليوجد لأدبه حضوراً في ثقافة أبعد من ثقافته. بعد ذلك هناك الطلب الأجنبي على الأدب، وغالباً ما يتمثل في طلب يأتي من أكاديمية، أو مهرجان أدبي، أو صندوق ثقافي، أو برنامج للاجئين (الأخير بات الموضة الأشيع مع كل موجة من موجات اللجوء). وهنا تتداخل أولويات الأكاديمية والمهرجان والصندوق الثقافي مع برامج اللجوء وسياسات الدول، وتتحول القصيدة والقصة والرواية واليوميات إلى وثائق اجتماعية وتقارير تساعد في فهم أحوال جماعة ما أكثر منها عملاً إبداعياً. ولو استثنينا بعض دور النشر العريقة التي تركت الباب منفرجاً قليلاً لمرور بعض الإبداعات العربية، فإن ما يزيد الطين بلة هو تلك الدور الصغيرة المتناثرة في هذه المدينة الأوروبية أو تلك، وتعنى بنشر ترجمات أدبية عربية بطلب من أصحابها لقاء أثمان الطبع وأجور الشحن والتوزيع، وهي أقرب إلى المطابع التجارية منها إلى دور النشر”. انتزاع المكانة ويشير نوري الجراح إلى أن هذا جانب من الصورة المتعلقة بالترجمة إلى اللغات الأخرى. ويضيف أن المؤسف حقيقة هو “أن المؤسسات العربية التي تعنى بالترجمة اليوم تقتصر فكرة الترجمة لديها على الترجمة إلى العربية، وليس في خيال القائمين عليها أي معنى آخر، في ظل قدر عربي يجعل من الكاتب شخصاً أعزل. فهو شخص بلا سند من ثقافته، كائن غير معترف له بوجود يستحقه في ظل مجتمعات لا تزال لا تلحظ الأفراد المبدعين، وما برحت تتخبط ما بين أفكار الكهف من جهة، وشبكة الحداثة المستجلبة من جهة أخرى. وهي المعادلة الوحيدة الممكنة في عالم يحكمه الفوات الحضاري على وجوه شتى”. وحول ما يخص ترجمات شعره إلى اللغات الأخرى، يجيب نوري قائلاً، “لا بد أن أفصح عن امتناني لكل من تعامل مع شعري من باب ترجمته وإتاحته لقارئ في لغات أخرى. أقدر للمترجمين اهتمامهم المتزايد بشعري، وأشعر بأنني محظوظ جداً أن بعض كتبي لقي أكثر من ترجمة إلى اللغة نفسها. إنما من الطبيعي أن لا أستطيع تقييم ترجمة لي إلى لغات لا أجيدها، وأحياناً لا أفقه منها شيئاً، لكن الكتابات التي استقبلت شعري في لغات ترجم إليها، أعطتني مؤشرات على مستوى الترجمة ودرجة جودتها. ولا آتي بجديد عندما أقول إن ترجمة الشعر مسألة عويصة. وأحياناً ما يميل أكثر مترجمي الشعر (العربي في الأقل) إلى اختيار الأبسط والأقل إشكالية في شعر الشاعر لترجمته، وفي هذا إخلال. ومن حسن الحظ أن هذا لم يقع لي مع مترجمي شعري، فقد اختاروا من شعري غالباً الأصعب والأكثر تركيزاً وكثافة وجمالية”. من ناحية أخرى، وبشأن أبجديات ترجمة الشعر العربي إلى اللغات الأجنبية. يقول نوري، “لا يمكنني العثور على صيغة مثلي لترجمة الشعر العربي إلى اللغات الأخرى. هذه مسألة ترتبط بجملة من العوامل والأسباب المتعلقة بنا كعرب، وبالعالم ودرجة اهتمامه بالعرب وطبيعة هذا الاهتمام في عصرنا. على الأرجح، العالم لا يلحظ وجودنا الثقافي. نحن أمة غائبة في العالم. وجودنا الشعري والثقافي محجوب وراء غيوم سود كثيرة، عنوانها الرئيس: الإرهاب والتطرف الديني والتخلف والاستبداد، إلى جانب رواج صور نمطية لنا لا يمكن تبديدها من الأذهان في العالم من دون سلوك عربي مختلف بإزاء الذات أولاً، عنوانه العريض: احترام حقوق الأفراد والجماعات وإصلاح المجتمعات بحيث تتاح المشاركة للجميع، وتكفل الكرامة الإنسانية للمواطنين والمساواة الحقيقية بين المرأة والرجل، وتضمن الحريات وعلى رأسها حرية التعبير. بعد ذلك يمكن كعرب الحديث عن صورة لنا في العالم، ويمكننا عندها أن نشعر بثقة أكبر ونحن نحتج على الصور النمطية التي تشوه صورتنا الجماعية في العالم”. ويختتم نوري الجراح حواره المستفيض بقوله، “لذلك، أقول إن اهتمامي أولاً وأخيراً هو انتزاع مكانة راسخة لشعري داخل الشعرية العربية، ما دامت وظيفتي أن أكتب قصيدتي بلغتي العربية الجميلة. أما الترجمة فهي تبقى بالنسبة إليَّ وربما لكل شاعر فرصة إضافية لاختبار قيمة الشعر وقابليته على العبور إلى ضفة أخرى، ونافذة تتيح للشاعر فرصة للتأكد من أنه صاحب نشيد كوني، أياً كانت لغته، وأنى كان مكان إقامته في العالم”. المزيد عن: شاعر سوري\المنفى\القصيدة\اللغة الشعرية\قصيدة النثر\دمشق\الحنين\الموت 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post “بلاد من المفقودين”… عن إخفاء روسيا آلاف الأوكرانيين قسرا next post الموت يغيب خافيير مارياس أحد أبرز وجوه الأدب الإسباني You may also like سامر أبوهواش يكتب عن: “المادة” لكورالي فارغيت… صرخة... 25 نوفمبر، 2024 محامي الكاتب صنصال يؤكد الحرص على “احترام حقه... 25 نوفمبر، 2024 مرسيدس تريد أن تكون روائية بيدين ملطختين بدم... 25 نوفمبر، 2024 تشرشل ونزاعه بين ثلاثة أنشطة خلال مساره 25 نوفمبر، 2024 فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم... 24 نوفمبر، 2024 قصة الباحثين عن الحرية على طريق جون ميلتون 24 نوفمبر، 2024 عندما يصبح دونالد ترمب عنوانا لعملية تجسس 24 نوفمبر، 2024 الجزائري بوعلام صنصال يقبع في السجن وكتاب جديد... 24 نوفمبر، 2024 متى تترجل الفلسفة من برجها العاجي؟ 24 نوفمبر، 2024 أليخاندرا بيثارنيك… محو الحدود بين الحياة والقصيدة 24 نوفمبر، 2024