ثقافة و فنونعربي “نهم” للبولندي ويتكيفيتش… استفزاز حتى الجنون by admin 9 أبريل، 2020 written by admin 9 أبريل، 2020 62 الغزو من طريق عقاقير مهدّئة… والجنس للسيطرة المطلقة اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب لم يكونوا قلة الكتّاب الذين في عز ازدهار التوتاليتاريتين، النازية والبولشفية على حد سواء، تخيلوا هيمنة كل منهما على صورة نهاية ما للعالم، أو على الأقل للعالم الذي عرفوه. ومعظم هؤلاء الكتاب والمبدعين لم يكونوا في حاجة إلى أي كناية أو تورية للاستفاضة في الحديث عن “ذلك القلق العظيم”. ولعل، البولندي ستانيسلاس ويتكيفيتش، كان من أكثرهم تعبيراً وبكل وضوح، في مسرحياته كما في لوحاته، في نظرياته النقدية أو أشعاره أو رواياته، هو الذي خاض في عدد كبير من الفنون، ووصل إلى حد التدخّل في فن السينما الذي عاصر عقوده الأولى، واستفاد منه “إنما من دون أن يفيده كثيراً” على حدّ تعبير ناقد فرنسي ساخر. والحقيقة أن الذين سخروا من ويتكيفيتش كانوا كثراً، لكن دائماً لأسباب سياسية. فهو أبداً لم يخفِ “رجعيته” بنظر التقدميين، ولا “فوضاه” بنظر المحافظين، ولا “أرستقراطيته” في نظر الفوضويين. أمّا العمل الذي كان من بين نتاجاته، الأكثر تعبيراً عن ذلك “الاستفزاز الجماعي” الذي عرف كيف يمارسه. وغالباً بتلذّذ سادي فهو روايته الثالثة التي أصدرها في العام 1930، واعتُبرت لاحقاً من أقوى نصوصه: “النهم”. عودة الغزوات المغولية تدور أحداث “النهم” في مستقبل بعيد، يحدّده الكاتب بعام 2000، ويصوّر فيه بلده بولندا، وقد وقعت بعد معركة فاصلة غير متكافئة تحت احتلال عصابات مغولية، تفيدنا الرواية بأنها جعلت من ذلك البلد آخر غزواتها التاريخية، علما بأن كل التفاصيل التي تتحدث عن الغزو والحكم الجديد الذي ينتج عنه إنما تدل على أنه غزو شيوعي، وأن الغزاة بولشفيون، وإن تحت أقنعة مغولية. مهما يكن فإنّ بولندا تصبح تبعاً لذلك تحت ربقة عبودية يتسلط عليها فيها قائد صينيّ هو مورتي بنغ. أما أسلوب الاستعباد فعلمي، كما ينبغي للأمور أن تكون، حيث يبعث القائد مندوبيه ورجاله يوزعون على كل الأفراد حبوبا تدعى “دافامسك بي 2” يكمن مفعولها الأساس في أنها تسحب من الناس قدرتهم على التفكير، ويعجزون بالتالي عن التصدي للمحتلين، بل عن التفكير في مثل تلك المقاومة، مكتفين باتباع غرائز جنسية حيوية، يحييها العقار فيهم، صارفاً إياهم عن أي تفكير آخر. إنها نهاية الإنسان كما تصوّرها هذا الكاتب البولندي، النهاية التي لا بدّ لنا من أن نلاحظ قدراً من التماثل بينها وما سيصوّره الإنجليزي جورج أورويل، بعد ذلك بأكثر من عقد ونصف العقد من السنين، وإلى حدّ ما لنفس الغايات السياسية، على الرغم من الاختلاف الجذري في المنبع الفكري وحتى السياسي الذي يتحرك كل من الكاتبين انطلاقاً منه. ناهيك بأن ديكتاتورية النظام المدروسة بعناية لدى أورويل في روايته “1984” التي نشير إليها هنا، يقابلها فوضى عارمة مستشرية في “نهم” ويتكيفيتش. بل لا بدّ لنا من أن نلاحظ أن هذا العالم الفوضوي الكابوسي لدى هذا الأخير يشكّل خلفية بارعة النسج لحوارات ومواقف فلسفية ونقاشات سياسية تبدو هنا وكأنها “وصية سياسية فكرية” من كاتب كان يعرف أنه يخوض هنا معركة سياسية، وإن بصورة مواربة هو الذي لن يفوت دارسي أعماله لاحقاً ملاحظة أن في روايته نوعاً من التنبّؤ بكثير من الأحداث السياسية التي ستحصل لاحقاً، وإن كانت لن تنتظر عام 2000 لتتحقق، لا سيما منها تلك الرقابة على العقل التي ستكون هانا آرندت من أفضل دارسيها لدى التوتاليتاريات جميعها خلال العقود التالية للحرب العالمية الثانية. المشاكسة نظام حياة ومبرر وجود مهما يكن بالنسبة إلى ويتكيفتش، كانت المشاكسة والاستفزاز لديه نظام حياة ووجود، بقدر ما كانت فعلاً سياسياً. ومن المؤكد أن نزعته الاستفزازية تكوّنت لديه منذ صباه، هو المولود في كراكوفيا في 1885، لأب كان رساماً وناقداً للفن، مدافعاً عن قيم الفن الشعبي، في وقت كانت فيه الحداثات (الرومانطيقية والواقعية والرمزية) تغزو عالم الفن. ومن هنا تفتّحت عينا الفتى ويتكيفيتش على أبيه وهو يخوض معاركه الفنية بشراسة، ولمّا كان الفتى مولعاً بأبيه عازماً على أن يجعل منه مثالاً في حياته، تفتح وعيه على حالة دفاعية صلبة أوصلته إلى المشاكسة والاستفزاز. والطريف أن هذا بدوره دفعه حين تجنّد لخوض الحرب العالمية الأولى، إلى أن يخوضها ضابطاً في الحرس الإمبراطوري الروسي. ومنذ تلك اللحظة ارتبط وجود ويتكيفيتش بالعداء لكل ما هو تقدمي في السياسة، وباحتقار كل ما هو سائد ورائج في الفن والأدب، وهو بدلاً من أن يصبح رجعياً في هذين المجالين، أصبح طليعياً، وذا نزعة “شكلانية” خالصة، وذلك حين عاد من الحرب ليؤسس مع زميلين له تلك الحركة “الشكلانية” التي رمت إلى تحرير الفن من الواقعية، والأدب من المنطق، من أي منطق كان. وهكذا، أصبح زعيماً طليعياً لا يخشى أن يخوض غمار الفضائح كي يروّج لفنه وأدبه. وهو وصل بالفضيحة إلى ذروتها حين أسس ذات يوم ما سمّاه “مؤسسة لوحات س. إ. ويتكيفتش”، وراح خلال عمله الفني يستخدم العقاقير المخدرة، لكي ينفصل عن الواقع الذي كان يكن له كل احتقار. السرّ في العناوين لقد رسم ستانيسلاس ويتكيفتش كثيراً من اللوحات، لكنه رسم نفسه على وجه الخصوص، وفي مجال الكتابة كتب أكثر من ثلاثين مسرحية، حارب النقاد والرسميون معظمها، لذلك لم يمثل سوى قسم ضئيل جداً منها خلال حياة الكاتب الذي اعتبر ملعوناً على الدوام، ومع ذلك فإنّ مؤرخي المسرح يعتبرونه اليوم الرائد الذي أسس لما سوف يسمى لاحقاً بـ “مسرح العبث”. اقرأ المزيد “الحجر الصحي” للوكليزيو… تمييز في جزر اللجوء “صراع الأبطال” لتوفيق صالح… تحية سينمائية إلى منقذي البشرية صحيح أن مواضيع مسرحياته كانت تمت بصلة نسب إلى المسرح التعبيري الألماني، وستبدو لاحقاً قريبة بعض الشيء من المسرح السوريالي، لكنها في نهاية الأمر كانت مواضيع عابثة لا تحاول أن تقول أي شيء آخر سوى شكلها المسرحي الخالص. وهو على أي حال كان يسهم، منذ العناوين الفرعية لمسرحياته، في زرع تلك الروح العبثية، إذ نراه مثلاً يعرف مسرحيته الكبيرة الأولى “غيوبال واهازار” (1921) بأنها “دراما غير تقليدية تقع في أربعة فصول”، أو يقول عن مسرحية “دجاجة الماء” (1921 أيضاً) بأنها “مسرحية دائرية”، أمّا مسرحيته الثالثة فحملت عنوان “ميتافيزيقا الثور ذي الرأسين”، بينما عرّف مسرحية أخرى له عنوانها “جان ماتيو شارل لانراجيه” (1925) بأنها “دراما في ثلاثة فصول من دون جثث”. على أي حال، حتى من قبل وصول الشيوعيين إلى الحكم في بولندا، راح ويتكيفتش يعتبر نفسه، وفنه، مضطهدين، خصوصاً أنّ الفرق المسرحية، من رسمية وغير رسمية، كانت تستنكف عن تقديم المسرحيات التي كانت في الوقت نفسه تترجم إلى العديد من اللغات، وتمثل في العديد من مسارح العالم، من قِبل مخرجين كانوا يرون فيها، على أي حال، بعداً بصرياً وشكلياً جميلاً، من دون أن “يتنبهوا” حسب قول ويتكيفيتش نفسه، إلى ما فيها من “ميتافيزيقا متحركة”. مهما يكن فإن هذه الميتافيزيقا لم تكن هي ما يثير اهتمام المسرحيين، كما أنّ مؤرخي الحياة الثقافية البولندية كان أكثر ما يهمهم في أعمال ويتكيفيتش، لا سيما رواية “نهم” التي نتناولها هنا والتي حُوّلت مرات إلى عمل مسرحي، لكن بعد موت الكاتب، ما كانت تمثله من سلاح منتصب لمقارعة الشيوعية والأفكار الاشتراكية واليسارية كافة التي كان ويتكيفيتش يرى أنها تمثل أقصى درجات الخطر على الفكر الإنساني وعلى حياة الإنسان. وهذا الأمر صار نوعاً من الهلاس لدى ويتكيفيتش الذي أوقف سنوات عمره الأخيرة على محاربة كل ما هو شيوعي ويساري، في الفن كما في السياسة. ولقد انتهى به كل ذلك لأن يُقدِم على الانتحار يوم الثامن عشر من سبتمبر (أيلول) 1939، أي في اليوم الذي بدأ فيه الجيش البولندي بالتراجع، عند أولى أيام الحرب العالمية الثانية، يوم خُيّل لويتكيفيتش أن تراجع الجيش البولندي سيفتح الباب واسعاً أمام وصول الشيوعيين، أعدائه، إلى الحكم. المزيد عن: ستانيسلاس ويتكيفيتش/النازية/البولشفية/نهم/لوحات ويتكيفيتش 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post How to Choose The Best Site For Online Casino Games? next post “فتاة كازابلانكا”… رواية المهاجرين الأفارقة المشردين في المغرب You may also like عبده وازن يكتب عن: مشير عون يكشف ركائزه... 23 ديسمبر، 2024 سينما “متروبوليس”… صرح ثقافي يعيد الحياة لبيروت 23 ديسمبر، 2024 محمد علي اليوسفي: كل ثورة تأتي بوعود وخيبات 22 ديسمبر، 2024 سوريا والمثقفون الانتهازيون: المسامحة ولكن ليس النسيان 22 ديسمبر، 2024 حين انطلق “القانون في الطب” غازيا مستشفيات العالم... 22 ديسمبر، 2024 “انقلاب موسيقي” من إيغور سترافنسكي في أواخر حياته 21 ديسمبر، 2024 الإرهابيون أرسلوا رأس الصبي إلى أهله في “الذراري... 21 ديسمبر، 2024 “هند أو أجمل امرأة في العالم” لهدى بركات:... 21 ديسمبر، 2024 جواد الأسدي يسجن شخصياته المقهورة في “سيرك” 21 ديسمبر، 2024 عندما انبهر ترومان كابوتي بالمجرم في “بدم بارد” 21 ديسمبر، 2024 Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.