ثقافة و فنون ندى حطيط تكتب عن: نحو تاريخ ثقافي لـ«أوراق التارو» by admin 10 ديسمبر، 2024 written by admin 10 ديسمبر، 2024 30 جذورها تعود للعالم العربي خلال العصور الوسطى الشرق الاوسط / لندن: ندى حطيط تحمل «حزمة البطاقات الشريرة» – كما أسماها تي إس إليوت في قصيدته الأشهر «الأرض اليباب» – المزينة بالشخصيات المروعة والرّموز الغامضة، أوراق لعب التارو (بالفرنسية)، والتاروت (بالإنجليزية)، تاريخاً أبعد بكثير من الدّور الذي انتهت إليه في وقتنا المعاصر كمجرد حلية ثقافية لقراءة الحظ، والتنجيم، والتنبؤ الهزليّ بالمستقبل، إذ تقلبت غايات استعمالها مع التّحولات الاجتماعيّة وتقلبات الأزمنة وتبدل الحضارات. تبدو أوراق التارو، كما نعرفها اليوم، وكأنها ابنة ثقافات وسط وجنوب أوروبا، وخاصة فرنسا وإيطاليا، وبدرجة ثانية ألمانيا والنمسا، حيث تكرَّس وجودها هناك مع عصر النهضة لأغراض الترفيه وإزجاء الوقت في نطاق المجتمعات الأرستقراطيّة ومنتديات النبلاء، لكن ما قد يغيب عن أذهان كثيرين أن الفضل في نقل فكرة أوراق التارو من جذورها القديمة في شرق آسيا وتطويرها يعود إلى العالم العربي الإسلامي خلال العصور الوسطى، وهناك من الدلائل الموثقة ما يشير إلى أن أول حزمة منها وصلت إلى القارة الأوروبيّة جاءت من مصر المملوكيّة عبر ميناء البندقيّة، بحدود عام 1370 ميلادية. ولذلك أطلق عليها لعشرات السنوات اسم ورق الساراسين، وهو مصطلح روماني قديم كان يستخدم للإشارة إلى عرب البتراء في نواحي الشام، وما لبث أن أصبح في أوروبا بالعصور الوسطى علماً على كل ما يأتي من جهة الشرق. التارو المملوكي تكوّن فيما يبدو من 4 مجموعات، أقله وفق النسخة التي يحتفظ بها متحف التوبكابي سراي في إسطنبول، لكن الأوروبيين الذين أولعوا به شرعوا يضيفون للعبة أقساماً وثيمات جديدة لتأخذ تدريجياً شكلها الذي انتشر بين الطبقات الشعبية عبر الغرب، ولا سيّما إثر اختراع الطباعة الحديثة منتصف القرن الخامس عشر، التي سمحت بتوفير مجموعات اللعب بأسعار زهيدة. ولعل التغيير الرئيس الذي استحدثه الأوروبيّون كان في إضافة رسومات شخصيات على شكل البشر: رجال دين، وصيادين، وملوك، وملكات وشياطين، فيما تجنبت أوراق المماليك ذلك، وبقيت في الإطار التجريديّ بحكم الثقافة الإسلامية السائدة. وبحسب مؤرخين متخصصين بالتاريخ الثقافي لأوروبا في العصور الوسطى، فإن الاستعمالات الأولى لأوراق التارو مثّلت نوعاً من التحدي لتعاليم الكنيسة الكاثوليكيّة، إذ تضمنت أوراقاً يمكن أن يلعبها الشخص بحذق فيحقق انتصاراً على الآخرين، ما فهم من قبل الأكليروس كتفلت من الإرادة الإلهية، ناهيك عن أن بعضهم اعتبرها عوناً للمقامرين، ومدعاة للهو والعبث. وتظهر وثائق السجلات المدنية لمدن أوروبية عدة مثل باريس وفلورنسا وبرشلونة وفالنسيا محاولات مبكرة في أجواء 1370 – 1380 لحظر أوراق التارو ومنع اللعب بها، لكن الجلي أن تلك الجهود كانت بلا طائل، إذ استمرت اللعبة بالانتشار، بداية في دوائر الأثرياء، الذين استثمروا في نسخ خاصة منها رسمت باليد، واحتفظوا بها في صناديق فاخرة، قبل أن تنتقل إلى مختلف الطبقات، بعد توفر النسخ المطبوعة بكثرة في النصف الثاني من القرن الخامس عشر. ويعود أول ذِكْرٍ موثق لأوراق التارو في أوروبا إلى عام 1449، وذلك في خطاب بعث به ضابط في جيش مدينة البندقية إلى إيزابيلا ملكة نابولي، يعرض فيه أن يرسل إليها مجموعة مميزة من أوراق التارو رسمها فنان كان معروفاً بموهبته في تلك المرحلة، واصفاً اللعبة بأنها مثيرة للاهتمام، ويمكن من خلالها، وبطرائق معقدة، تحقيق الغلبة على الآخرين. ومع أن تلك الحزمة من أوراق التارو ضاعت ربما للأبد، فإن الرسالة التي تذكرها حفظت وبقيت كمفتتح لتاريخ التارو الموثق، ويعتقد الآن أنها تتعلق بمجموعة أوراق تمثل مرحلة انتقالية بين الشكل الأولي الذي أخذته خلال عصر النهضة، وما انتهت إليه في نموذجها الغربيّ المألوف حالياً، الذي أطلق عليه في إيطاليا اسم تاروتشي، وفي فرنسا تارو، وهي تسميات مشتقة من كلمة تعني الغلبة والانتصار. تصاميم أوراق التارو لم تأتِ عبثاً، وإنما عكست دائماً مزاج المجتمعات في المراحل التاريخية المختلفة، إذ مالت رسومها في أزمات الكوارث والحروب إلى استدعاء شخصيات متسمة بالعنف، ووظفت رموزاً توحي بالموت الخاطف والعذاب. ومع ذلك، فهي بقيت لما يقرب من 200 عام محض أوراقٍ للعب، قبل أن يتحقق في فرنسا القرن الثامن عشر انقلاب نوعيّ في طبيعة استخدامها بعدما تسربت إليها المعاني الغنوصية الباطنية كهروب جمعي من صرامة عقلانية عصر التنوير. وهنا يبرز دور آخر مختلف لمصر في تطور التارو، إذ تسببت حملة نابليون بونابرت في افتتان ثقافيّ عام في فرنسا بكل ما يتعلق بمصر الفرعونية القديمة، وتنطع بعض الكتاب حينها للزعم بأن أوراق التارو كانت بمثابة مخزن لحكمة كهنة مصر القديمة الذين استخدموها لإخفاء تعاليمهم عن العامّة ومضطهديهم في أوقات الفتن. وما لبثت حمى المعاني الباطنية الكامنة في التارو أن انتقلت مع بداية القرن العشرين إلى بريطانيا، وتداخلت هناك مع الأساطير المتداولة حول الكأس المقدسة وفرسان الهيكل والكابالا اليهوديّة. فظائع الحرب العالمية الأولى التي سقط فيها ملايين القتلى أطلقت مساراً مختلفاً لورق التارو في العالم الأنجلوساكسوني، إذ لجأ إليه البسطاء كحيلة للتواصل مع الأحبة الذين سقطوا وحيدين في الخنادق، وللبحث عن حظ أفضل من حاضر «الأرض اليباب» ما بعد الحرب، وهي حالات تكررت على نحو مماثل خلال مرحلة الحرب العالمية الثانية، ولاحقاً خلال الفترات الصعبة من الحرب الباردة. أوراق التارو تلقت قبولاً عالمياً بعد تأسيس اتحاد التارو الفرنسي في السبعينات من القرن الماضي وتنظيم منافسات عالمية في عدد من المدن الأوروبيّة، وضاعف انتشار الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي من دائرة الاهتمام به، لكنه في أيامنا الحاضرة المأزومة أصبح أقرب إلى منتج ثقافي علاجيّ، ربما يستخدمه البعض بوعي لمقاربة مشاعرهم الذاتية والهروب من ضغوط الواقع، مع جيوب – يبدو أنّها لن تندثر أبداً – من أناس يتملكهم الفضول لمعرفة ما تخبئه لهم الأقدار، ويجدون في «البطاقات الشريرة» أداة قريبة للتطلع نحو الغيب. 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post إيران تعوّل على «آستانة» لحفظ نفوذها في سوريا next post Police investigating $300 worth of lobster stolen in Lunenburg You may also like “ستموت في القاهرة” رواية عن شاه إيران وصراعاته 11 ديسمبر، 2024 بول شاوول يكتب عن: التجديد المسرحي العربي في... 11 ديسمبر، 2024 محمود الزيباوي يكتب عن: طبق نحاسي من موقع... 11 ديسمبر، 2024 شوقي بزيع يكتب عن: قصة «أيمن» الحقيقي بطل... 11 ديسمبر، 2024 دي ميرابو… مع الثورة ولكن أليست الملكية أعدل؟ 10 ديسمبر، 2024 كيف تثبت الروايات القصيرة مكانتها في الأدب الإنجليزي؟ 10 ديسمبر، 2024 آخر كبار ثوريي ستينيات السينما الألمانية يفضل اعتباره... 9 ديسمبر، 2024 الرغبة الإنسانية في عدم المعرفة بين جهل ومراوغة 9 ديسمبر، 2024 جيف نيكولز: صانع الأفلام يقرر كيف وليس ماذا... 9 ديسمبر، 2024 الكتب رفيقة العزلة بمحتوياتها وملمسها ورائحة ورقها 9 ديسمبر، 2024