السبت, نوفمبر 23, 2024
السبت, نوفمبر 23, 2024
Home » نحو فهم المعاني الفلسفية للطبيعة بين الفطرة والإصطناع التشويهي

نحو فهم المعاني الفلسفية للطبيعة بين الفطرة والإصطناع التشويهي

by admin

دلالة على المبدأ الناظم الذي يحكم الكائنات ويضبط إيقاع نموها

اندندنت عربية \ مشير باسيل عون مفكر لبناني

يحتمل مفهوم الطبيعة فلسفياً معانيَ شتّى. تدل الطبيعة أولاً على المبدأ الناظم الذي يحكم الكائنات، ويضبط إيقاع نموها. في أصل الاصطلاح اليوناني (phusis) دلالة على انبساط الكائنات بحسب قوامها الخاص وناموس تكوينها الذاتي. تناول الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر (1889-1976)  إصطلاح الفيسيس الإغريقي هذا، فاستكشف فيه معاني التفتح الذاتي والانبساط العفوي المنعتق من سطوة التقنيات التشويهية. ومن ثم، فإن الطبيعة التي نستدل عليها بواسطة اصطلاح الفيسيس إنما تنطوي على علة نشوئها ونموها، وتخالف بذلك الصناعة الفنية أو التقنية التي تفرض عليها تبديلاً قاهراً متعمداً.

تدل الطبيعة ثانياً على ماهية الكائنات، أي على مجموع السمات أو الصفات التي تحدد قوام كل كائن، وتجعله ينتمي انتماء انسجامياً إلى صنفه الأوسع. يتناول بعضهم الطبيعة الإنسانية على هذا المعنى، فيعاينون فيها ضمةً من الخصائص الثابتة التي تهبها هويتها الذاتية وفرادتها المتميزة، غير أن مذاهب شتّى في علم النفس والإثنولوجيا والفلسفة تعارض هذا التعريف، وتصر على تجريد الطبيعة الإنسانية من كل عناصر الثبات والانتظام والرسم النهائي. من أشد معارضي مفهوم الطبيعة الإنسانية الثابتة الماركسية التي تنادي بالجدلية المادية التاريخية سبيلاً إلى التكون التدرجي في الكائن الإنساني، والوجودية الإلحادية أو اللاأدرية التي تعتقد أن هوية الإنسان مسرى معقد من التفاعلات الحية مع البيئة الإنسانية المحيطة والإطار الثقافي الأوسع الذي تنسلك فيه.

الطبيعة بالنور والظلال كما رسمها البريطاني تورنر (متحف تورنر)

تدل الطبيعة ثالثاً على العنصر التلقائي الكامن اللصيق بالكائنات المنتمية إلى صنف من الأصناف، قبل أن تصيبه عوامل التغيير التي يستحدثها العقل الناظر أو الفعل الناجز، لذلك تبدو الطبيعة منحةً أصليةً متشحةً بردائها التكويني الأول، قبل أن تجري عليها مراسيم الأحكام الاصطناعية التقنية أو الفنية الجمالية. في حال الطبيعة الإنسانية، يجدر التمييز بين المعطى العفوي الثابت في عمق الكائن الإنساني، والمكتسب الثقافي الطارئ المستجد.

مجموع الكائنات

تشير الطبيعة رابعاً إلى مجموع الكائنات الحيوانية والمعدنية والنباتية التي يحتضنها منفسح الكون ويخضعها لنواميسه العامة. بحسب هذا المعنى، يمكننا إما أن نضع الطبيعة هذه تحت وصاية إلهية ونعتمد مبدأ الخلق من العدم (creatio ex nihilo)، وإما أن نتصور لها قواماً ذاتياً مستقلاً، وإما أن نضم الرؤيتين معاً، على غرار الفيلسوف الهولندي سبينوزا (1632-1677) الذي اعتبر الله والطبيعة حقيقةً واحدةً. في جميع الأحوال، تنتظم الطبيعة، وقد أخذت على هذا المعنى، وفقاً لسببية ذاتية تعارضها معارضةً صريحةً حرية الإنسان العاقل. تجدر الإشارة هنا إلى أن مفهوم الطبيعة هذا يقابله مفهوم ما وراء الطبيعة أو ما فوقها أو ما تحتها أو ما بعدها. إنها عبارات تنطوي على تصور فلسفي يروم أن يخترق جدار الطبيعة السميك ليبلغ جوهرها المنحجب. إلا أن هذه الطبيعة لا يمكنها أن تقوم إلا على قاعدة الانتظام والخضوع لقوانين ذاتية مستلّة من صميم قوامها الخاص، لا يجوز للإنسان أن ينقضها نقضاً مطلقاً من غير أن يهددها بالاضطراب والفساد والانحلال.

الطبيعة عندما تصبح مصطنعة (موقع أرتيفيشيل ناتشوريل – فري فوتو)

جماليات الحدائق

تتحرى فلسفة الجمال عن علاقة القيمة الفنية بالمشهد الطبيعي الذي تستقر عليه عناصر الكون. وكذلك تعنى باستجلاء مقام المشاعر التي تستثيرها في الوعي الإنساني جمالية الطبيعة. إذا تأمل المرء في فن الحدائق، على سبيل المثال، أدرك أن الناس يختبرون في هذا الميدان ارتباطاً فذاً يجمع الطبيعة والفن في وحدة الإلهام الفني. ذلك بأن الحدائق المزينة تفصح عن التواطؤ البهي بين عمل الطبيعة العفوي وعمل الإنسان الاصطناعي.

استثار فن الحدائق المزينة اعتناء الفكر الجمالي في القرن الثامن عشر حين أكبّ يصور مثال الحديقة النموذجي الذي أعقب حقبة ازدهار الحدائق الإنجليزية والصينية. نحا هذا الفن منحى التجريد، فأعرض عن الهندسات الخارجية والبناءات المرصوفة، واستبدل بها الرسم والشعر، مهملاً المشهدية الصارخة المهتاجة رقصاً ومسرحةً، ومؤثراً استيقاظ أحوال النفس الباطنة استيقاظاً خفراً.

الطبيعة كما رسمها الفرنسي إدوار مانيه (متحف الانطباعيين)

من التحولات الطارئة على هذا الفن الأشكال الالتوائية التي تلهمها تحركات الحيات حتى إن أشكال المياه أضحت أشبه بمستنقعات اكتئابية وبحيرات منزوعة الأطراف تحل محل القنوات المستقيمة المجرى، والأحواض المرصعة المتلألئة، والينابيع المتفجرة. وظهرت أيضاً في هذه الحدائق مشاهد صخرية برية مضطربة متبلبلة تنوب مناب التماثيل الفرسانية وتجسيمات الآلهة. وطغى العشب الأخضر على المساحات يغلفها بردائه، ويطوي في امتداداته الأشكال الهندسية كلها. وشقت دروب ضيقة حلزونية متعرجة تقوم مقام المسالك الواسعة المستقيمة المضيئة، مشيرةً إلى زمن الاجتهاد الإنجازي والفاعلية المنتجة.

من بعد أن انتظم المشهد الرمزي في الحديقة الجمالية، ارتبطت الفسحة الفنية هذه بمشاعر الحنين إلى الجنة المفقودة حتى إن البسيطة كلها يمكنها أن تتحول إلى حديقة رحبة تمتد إلى اللانهاية. ومن ثم، ينبثق السؤال الفلسفي الخطير عن مكانة الإنسان في الطبيعة وفي المجتمع. ذلك بأن المتنزهات الأنيقة، إذ تعزز الوحدة وتغذي المخيلة الحالمة، تحث الإنسان على الاعتناء بجوانيته وتساعده في اختبار الانسجام بالكون انسجاماً اتحاديا، غير أن الحديقة تتهددها مخاطر العولمة والهيمنة التقنية والغزو الآلي المحض، لذلك استشعر الكثيرون موت فن الحدائق وانطفاء جماليته الكلاسيكية. لا غرابة، من ثم، أن تصاحب ظاهرة الأفول هذه انقضاء حقبة معرفية من حقبات التطور الإنساني.

الجمالية الطبيعية والجمالية الاصطناعية

يجدر السؤال هنا عن الفرق الحقيقي بين اختبارات الجمالية الطبيعية واختبارات الجمالية الاصطناعية. من الاختلافات الواضحة أن الجمالية الطبيعية تنشأ في ذاتها، ومن أجل ذاتها، في حين أن الجمالية الاصطناعية تولد أولاً في فكر الفنان العبقري قبل أن تستوي صنيعاً بهياً في أحضان الطبيعة، لذلك يجب اعتبار هذه الجمالية عرضةً للتغير والاضطراب والتحول، على غرار الفن عينه الذي تتبدّل مبادؤه وأحكامه وقواعده بتبدّل القرائن الثقافية والأزمنة المعرفية.

الورود الإصطناعية لا تحمل فطرة الطبيعة (أرتيفيشل ناتشور – فري فوتو)

أما الجمالية الطبيعية، فتظل على حالها من عصر إلى آخر، تعتصم بشمولية كونية وجدارة ذاتية وصلاحية إلهامية راسخة. لا ريب في أن منظر القمر يلهب مشاعر الرقة في فؤاد الآسيوي والأفريقي والأميركي والأوروبي، في حين أن الهندسة المعمارية في بيئة ثقافية معينة ربما لا تستقطب إعجاب الناس في بيئة أخرى. ومن ثم، فإن الجمالية الطبيعية لا تتأثر بأذواق الناس وإحساساتهم ومشاعرهم وميولهم، في حين أن الجمالية الاصطناعية غالباً ما ترتبط بالخلفيات التذوقية السائدة في مجتمع من المجتمعات، وبالاستنسابات الإعجابية الناشطة، وبالاستعدادت الاختبارية التي تترقب انبثاق هذا النمط أو ذاك من الفن في هذه الثقافة أو تلك. وعلاوةً على ذلك، فإن الفنان العبقري يحمل صنيعه ضمّةً من المعاني التي يأمل أن يستخرجها الإنسان المتأمل المسحور بجمال الإنجاز المعروض.

غير أن السؤال الأخطر يتناول قيمة الجماليتين الطبيعية والاصطناعية. فهل يجوز لنا أن نفاضل بينهما، وحجتنا في ذلك أن الروح الإنساني قادر على تجاوز بهاءات الطبيعة المرتسمة في الكون الفسيح؟ إذا ثبت أن الفكر أرفع من الطبيعة، فإن الجواب محسوم قبل المناقشة. أما إذا تبين لنا أن الطبيعة الرحبة التي لم يستطع الإنسان أن يستكشف أبعادها السحيقة، سواء في اللامتناهي صغراً أو في اللامتناهي كبراً، تزخر بجمالات فائقة الوصف يعجز الروح عن استيعاب جميع دلالاتها، فإن المفاضلة تضحى عمليةً محفوفة بمخاطر الاستنساب الاعتباطي. زد على ذلك أن العقل الإنساني صفحة بيضاء ما برحت تنطبع فيها الصور البهية المستلة من صميم البهاء الذي يسطع في أنحاء الكون. فهل يكون التطور الذهني الإنساني قادراً على تخطي المستندات الفنية الأصلية التي ارتسمت في مخيّلته منذ تفتح وعيه الأول على الكون؟ ليس لهذا الجدل من خاتمة حاسمة إلا على قدر ما يوازي المرء بين كنوز الجمالية الطبيعية المنغلة في ثنايا الكون، وقابليات الإبداع الفني المنطوية في تضاعيف الجوانية العاقلة المتفكرة المبدعة.

المزيد عن: فلسفة\الطبيعة\الفطرية\الجمالية الإصطناعية\الحدائق\الإغريق\مارتن هايدغر\سبينوزا

 

 

You may also like

20 comments

poker slot indonesia 25 أغسطس، 2021 - 1:38 ص

Your mode of describing everything in this post is actually fastidious, all be
able to simply be aware of it, Thanks a lot.

Reply
bovada app 25 أغسطس، 2021 - 1:52 ص

I got this website from my friend who told me on the topic of this website and at the moment this time I am visiting this
website and reading very informative articles or reviews at this time.

Reply
ผลิตครีม 25 أغسطس، 2021 - 1:57 ص

At the Top Burj Khalifa has specifically earned itself a particular place in Center
East as the most visited attraction. You’ll be able to simply schedule recording on a particular
duration and put it aside on any inside or external gadget.
Hiring such a service provider may even save extra time and effort for you.
Not only is it shaping the day-to-day interactions but at the same time is
definitely altering the way during which the businesses do the business
with the purchasers. That is one strategy to deal with what many
persons are diagnosed when they’ve ADD or ADHD.
Nonetheless, in this fashion though we get the news and foremost idea briefly however we are likely to lose on their necessary parameters.

As an alternative of limiting ourselves to at least
one or two headlines, we need to go through all the types of reports briefly.
We discovered two major differences between the common salesperson and the top producer.
The second fundamental difference between top performers and the average is the each day routines.
We are a product of our routines and if we wish a big shift in the numbers
long run, it may be accomplished with a small shift in our each
day routines.

Reply
강남룸영업시간 25 أغسطس، 2021 - 2:08 ص

This paragraph will help the internet viewers for building up new weblog
or even a blog from start to end.

Reply
daftar poker online 25 أغسطس، 2021 - 2:13 ص

Hey There. I discovered your weblog the use of msn. That is an extremely smartly
written article. I will be sure to bookmark it and come back to
learn extra of your useful information. Thank you
for the post. I’ll certainly comeback.

Reply
KUMBULLBE 25 أغسطس، 2021 - 2:16 ص

Its like you read my mind! You seem to know so much about this, like
you wrote the book in it or something. I think that you could
do with some pics to drive the message home a bit,
but other than that, this is fantastic blog. A fantastic
read. I’ll definitely be back.

Reply
순천오피 25 أغسطس، 2021 - 2:28 ص

When someone writes an article he/she maintains the idea of a user in his/her mind that how a user can know it.
So that’s why this paragraph is outstdanding. Thanks!

Reply
io games list 25 أغسطس، 2021 - 2:46 ص

Good day! I could have sworn I’ve been to this
website before but after checking through some
of the post I realized it’s new to me. Anyhow,
I’m definitely delighted I found it and I’ll be bookmarking and checking back frequently!

Reply
diamond jewelry piece 25 أغسطس، 2021 - 3:02 ص

Wow, amazing weblog layout! How lengthy have you been blogging for?
you make blogging glance easy. The entire look of your website is
magnificent, let alone the content material![X-N-E-W-L-I-N-S-P-I-N-X]I just couldn’t leave your web site prior to suggesting
that I really loved the usual information an individual supply to your
guests? Is gonna be again regularly in order
to check out new posts.

Reply
Mnwiki.Org 25 أغسطس، 2021 - 3:07 ص

Every weekend i used to pay a quick visit this website,
because i want enjoyment, as this this web page conations really good funny information too.

Reply
Hyatt Hồ Tràm Phạm Ngọc Hạnh 25 أغسطس، 2021 - 3:10 ص

Hello there! Quick question that’s totally off topic.
Do you know how to make your site mobile friendly?

My website looks weird when viewing from my iphone4. I’m trying to find a template or
plugin that might be able to resolve this issue. If you have any suggestions, please
share. With thanks!

Reply
spheresofa.Net 25 أغسطس، 2021 - 3:20 ص

obviously like your web site but you need to check the spelling on quite a few of your posts.
Many of them are rife with spelling issues and I
find it very troublesome to inform the truth then again I’ll surely
come back again.

Reply
drug misuse definition 25 أغسطس، 2021 - 3:38 ص

It’s in fact very complicated in this busy life to listen news on TV, therefore I simply use the web for that
reason, and obtain the latest news.

Reply
RichardEtect 25 أغسطس، 2021 - 3:41 ص Reply
AccstoresInges 25 أغسطس، 2021 - 3:44 ص

My point of interest in accounts is usually Instagram, Facebook and VKontakte. This service provides well-qualified ones with wide geography, with all the info attached. All the problems get solved within a day. Highly recommend!
Click
https://accstores.com

Reply
Baidilypolype 25 أغسطس، 2021 - 3:49 ص

Reply
Harrywig 25 أغسطس، 2021 - 3:49 ص

“I’m very pleased to find this great site. I want to to thank you for your time just for this fantastic read!! I definitely really liked every part of it and I have you book marked to look at new things on your website.”
http://45.79.45.121/index.php/Body_Massage_At_A_Glance

Reply
CarlosTus 25 أغسطس، 2021 - 3:56 ص

modafinil dosage buy modalert online modafinil and alcohol

Reply
web hosting in 28 أغسطس، 2021 - 6:18 م

Great information. Lucky me I found your blog by chance (stumbleupon).
I’ve book marked it for later!

Reply
bit.ly 30 أغسطس، 2021 - 6:37 ص

I am sure this article has touched all the internet
users, its really really nice piece of writing on building up new
webpage.

Reply

Leave a Comment

Editor-in-Chief: Nabil El-bkaili

CANADAVOICE is a free website  officially registered in NS / Canada.

 We are talking about CANADA’S international relations and their repercussions on

peace in the world.

 We care about matters related to asylum ,  refugees , immigration and their role in the development of CANADA.

We care about the economic and Culture movement and living in CANADA and the economic activity and its development in NOVA  SCOTIA and all Canadian provinces.

 CANADA VOICE is THE VOICE OF CANADA to the world

Published By : 4381689 CANADA VOICE \ EPUBLISHING \ NEWS – MEDIA WEBSITE

Tegistry id 438173 NS-HALIFAX

1013-5565 Nora Bernard str B3K 5K9  NS – Halifax  Canada

1 902 2217137 –

Email: nelbkaili@yahoo.com 

 

Editor-in-Chief : Nabil El-bkaili
-
00:00
00:00
Update Required Flash plugin
-
00:00
00:00