الخميس, يناير 2, 2025
الخميس, يناير 2, 2025
Home » نحو فهم العلاقة الملتبسة بين الفلسفة والأدب

نحو فهم العلاقة الملتبسة بين الفلسفة والأدب

by admin

 

مسار تاريخي وثقافي تلاقى فيه الفلاسفة والأدباء واختلفوا

اندبندنت عربية / أنطوان أبو زيد

من قال إن الفلسفة شأن خاص جداً، وإن الأدب أكثر عمومية منه؟ بالتالي فإن ثمة انفصالاً كلياً بين المجالين، على ما يشيع الاعتقاد لدى الغالبية العظمى من الناس، ومن غير المتخصصين.

لو نظرنا إلى سجل التراث العربي الثقافي غير المادي، وفقاً لتعريف “اليونيسكو”، لوجدنا الأدب أعظم حضوراً وشمولاً من الفلسفة، وأرسخ تداولاً من الفلسفة ذات الأصل اليوناني. فمن حيث تعريف الأدب، بحسب “لسان العرب”، هو “أدب النفس والدرس”، ومن ثم أمسى هذا المصطلح (الأدب) شاملاً الشعر باعتباره ديوان العرب، والنثر، أعني القصة والأمثال والخطب والرسائل، وغيرها، بعدما أقبل العرب على تدوين تراثهم المتنامي اطراداً، إثر نهضتهم الحضارية الأولى، وانتشار اللغة العربية وبلوغها أطراف الصين شرقاً، وأقصى بلاد الأندلس غرباً.

أما الفلسفة المستفادة من اليونان، كما بات معروفاً، فصار يقصد بها “كل الأفكار المستنبطة من العقل وأعمال الفكر حول الموجودات ومبادئها وعللها”، وفقاً لما ورد في “لسان العرب” نفسه. ولم يكن مستغرباً أن يتقاطع عمل الفلسفة مع عديد من مجالات التعبير الأدبي، شعراً، وتأملاً في الحياة والموت وما وراءهما، وفي التصوف، والنسك، والإلهيات، وفي لزوم سائر العلوم، والرياضيات، وعلم الفلك، وغيرها. ولكن السؤال الذي توجب طرحه في هذا الشأن هو: هل كان ينظر إلى الفلاسفة العرب (والأعاجم المنتمون إلى الحضارة الإسلامية ذات اللسان العربي) على أنهم ممثلو التراث الفكري العربي، أم كان للأدب، ممثلاً بالشعر المكانة الأولى؟ ولكن ما الحدود التي رسمها العرب ما بين الأدب والفلسفة قديماً وحديثاً؟ وهل الأمر نفسه حاصل عند الغربيين، ولنا دلائل على تغيرات في هذا الشأن لمصلحة كليهما؟

المفاضلة بين الأدب والفلسفة

أبو العلاء المعري بين الشعر والفلسفة (سوشيل ميديا)

 

ولكن قبل الإجابة عن الأسئلة أعلاه لا بد من الإشارة إلى حقبة في الزمن، متزامنة مع نشوء الفلسفة، أعني في القرن الخامس قبل الميلاد، كان فيها الخلاف بين الفلسفة والإبداع (الشعري) شديداً، بسبب من طبيعة كليهما، فإن كانت الفلسفة تعنى بالبحث عن الحقيقة، وفي هذا يكمن امتيازها في نظر دعاتها، فإن الإبداع يعنى بالكائن المتلاعب بالوقائع والمتأثر بها، فيما شاعت مفاضلة أخرى تميز الفلسفة باعتبارها بحثاً عن الحقيقة المطلقة، بينما يصور الشعراء على أنهم أشبه ما يكونون بمحركي الألعاب، وصانعي الأحابيل والأعاجيب. وعند النظر بمقام الأدب، قديماً، شعراً، ومسرحاً، وقصة، عد خارجاً عن النطاق المعياري الفلسفي المعتمد في حينه، بالتالي حسب خارج حيز المدينة.

وفي المقابل انتفضت الفلسفات الحديثة على هذا اللاتوازن بين الفلسفة والإبداع، إذ أعاد جيل دولوز للشاعر اعتباره، حين قال “إن الفكر ليس بشيء من دون ما يجبره على التفكير، أو يعنف الفكر. فالأهم من الفكر هو ما يدعو إلى التفكير، بالتالي فإن الأهم من الفيلسوف هو الشاعر”.

وبناءً عليه، فإن كثافة الكلام في الأدب تفضل دوماً وضوح الفلسفة المطمئن، وهاجسها المستدام بإقرار الحقائق المعرفية. ومن هذا المنطلق يمضي مارسيل بروست إلى استنتاج حاسم، يقول فيه، “إن الحياة الحقة، الحياة المكتشفة أخيراً، والجلية، هي الحياة المعيشة بملء العيش، وهذه هي الأدب”.

هل نظم الأفكار شعر أم فلسفة؟   

ابن سنيا (سوشيل ميديا)

 

ولو ألقينا نظرة فاحصة، إلى ما تركه الفلاسفة العرب الكبار من آثار أدبية، بغالبيتها شعر، كما لابن سينا ولأبي نصر الفارابي وغيرهما، فهل نلقى أدباً خالصاً، وشعراً جليلاً على ما تستسيغه الأذن ويروق للذائقة العربية الأصيلة؟ وهؤلاء أوتوا من الشاعرية والبلاغة وسمو العبارة ما أوتي للنبهاء من الأدباء المجايلين لهم، من أمثال الجاحظ، وابن الرومي، والمتنبي، والسهروردي، وغيرهم. يقول ابن سينا:

“خير النفوس العارفات ذواتها    وحقيق كميات ماهياتها

وبما الذي كانت ومم تكونت    أعضاء بنيتها على هيئاتها

نفس النبات ونفس حس ركبا   هذا كذاك سماته كسماتها

ما العلة السبب الذي من أجله   صارت مسلطة على أخواتها؟”.

أو قول أبي نصر الفارابي في إيثار الفضيلة:

“أخي خل حيز ذي باطل    وكن بالحقائق في حيز

فما الدار دار مقام لنا      ولا المرء في الأرض بالمعجز

ينافس هذا لهذا على      نقطة وقع مستوفز

محيط العوالم أولى بنا     فماذا التزاحم في المركز؟”.

فهل يعد ذلك أدباً؟ وهل يمكن إدراج هذه الأبيات في خانة الشعر ذي الطابع التخييلي والوجداني؟ بالطبع لا تندرج هذه الأبيات لكلا الفيلسوفين (ابن سينا، وأبي نصر الفارابي)، وإنما هي كلام منظوم، وزناً وقافية، لغاية تسويغ الفكرة المتضمنة وتبيين صواب المسلمة التي انطلق منها كلا الفيلسوفين، وليس لأي غاية تعبيرية أو بلاغية أخرى، مما يمكن أن يتشح به الشعر المعتبر كذلك. وبهذا المعنى، يكون الشعر المنظوم هنا خادماً طيعاً للفكرة الفلسفية، أو الأخلاقية، بل وسيلة للإقناع والمحاجة. وفي مطلق الأحوال، أحسب أن الفارابي، وابن سينا، وسائر الفلاسفة قد وضعوا حدوداً صارمة بين الفلسفة والأدب، لا يخرجون عنها حتى في تخيرهم النظم أي كتابة الشعر للغاية المنطقية المشار إليها.

الفلسفة مادة ورافد

ولكن، في المقابل كنا نرى عديداً من الشعراء العباسيين أمثال أبي تمام، صاحب الحماسة، وابن الرومي، والمتنبي، وأبي نواس، وبشار بن برد، والبحتري، وغيرهم ينهلون من معين الفلسفة، وعلم الكلام، كثيراً من الأفكار، والمقابلات، والموازنات، والأضداد، وزوايا النظر إلى الظلال والألوان، وغيرها مما أسهم في إثراء الصور البلاغية الشعرية ونقل الذائقة الأدبية العربية إلى مراتب أعلى وأكثر تطلباً. والواقع أن الناظر في أمر نفاذ الفلسفة إلى الأدب، يجد أن اعتماد الأدباء مادة الفلسفة، أو بعضاً منها في صوغهم نصوصهم الأدبية شعراً ونثراً، قصة ومسرحاً وأمثالاً وقصصاً متسلسلة وغيرها، إنما كان قد تضاعف منذ ما يزيد على ألف و200 عام، بفضل اتساع آفاق الكتاب والأدباء وتحول الفلسفة إلى رافد ثقافي مهم، بل حاسم في بنيان فكر الأديب والفنان المبدع، في سبيل فهم ذاته، وفهم الآخرين والمجتمع الذي يزمع التأمل في أحداثه وناسه، وفي انتخاب شخصياته النموذجية منه، وبناء عالم يشبه العالم الحقيقي والمرسومة خطوطه العريضة بخيوطها وخيوط العلوم الاجتماعية الرديفة.

ولو رفعنا شعاراً هو بمقام المسلمة بأن لكل أديب من أدباء العرب فيلسوفاً أو مفكراً تأثر به أو قبس منه بعض الأفكار، أو ترسم سبيله في الحياة والكتابة لخرجنا بمحصلة وافية أو لتحصل لنا استخلاص بالغ الأهمية، على ما يتبين لاحقاً. ألم ينهج جبران خليل جبران نهج نيتشه، في مبدأ القوة عند الأخير، أو لم يتأثر بنهج ويليام بلايك في ما ابتدعه من رسوم ونصوص شعرية نثرية وغيرها؟ ثم ألم يتبع أمين الريحاني نهج ديكارت في بناء فلسفة النشوء الاجتماعي لديه، من دون أن يهمل تأثره بهيغل وكانط وكيركيغارد وغيرهم، في تبنيه ميلاً إنسانوياً ومثالياً تصاعدياً تجلى في كتاب “عبدالله”؟ ثم ألا يسعنا أن نذكر العشرات، بل المئات من الكتاب، بدءاً بالأديب المصري نجيب محفوظ، ممن تأثروا وتفكروا في مصائر الشخصيات التي أحيوها، على نهج فرويد ويونغ وآدلر، وفلسفة سبنسر، والواقعية الاشتراكية وغيرها، حتى وإن تجاوزها محفوظ في خطاب تسلمه جائزة نوبل للآداب عام 1988، حين اعتبر ذاته سليلاً لحضارتين عظيمتين هما الفرعونية والإسلامية؟ ثم ألم نر تأثر جيل من الكتاب اللبنانيين والعرب، من أمثال يوسف حبشي الأشقر، بأعمال الفلاسفة الوجوديين من مثل سارتر، وألبير كامو، وهيدغر وغيره، لدى تصويره مصير شخصيته الدرامية المتعالية والماضية إلى مصيرها القاتم قتلاً على يد الأقربين، أعني إسكندر الحماني، والأمثلة لا تعد ولا تحصى؟

ولئن بات مستحيلاً، اليوم، النظر في الأدب الحديث والمعاصر، أياً يكن موطنه وطبيعته واللغة المصوغ بها، من دون العودة إلى منابعه الفكرية والروحية والفلسفية لدى تحليل مضامينه وتبيان المقاصد العميقة التي ذهب إليها صاحب العمل المنظور فيه، فإنه صار لزاماً على ناقد الأدب أن يكون ملماً بالروافد الفلسفية التي يراها ماثلة بقوة في النص الأدبي المقروء، إضافة إلى تمكنه من شبكته النقدية الملائمة لنوع العمل الأدبي. ولكن ماذا نقول عن قارئ الأدب، ألا يحسن به أن يكون ثقافة تتيح له تذوق العمل المقروء، ولا سيما إذا كان متأثراً بفلاسفة، أو متصوفين، أو غيرهم؟ ولكن مهلاً! ينبغي للقارئ العادي ألا يخشى مقاربة الأدب الجيد، وإن متأثراً بروافد كثيرة، ذلك أن جودة الأدب وعمقه يقاسان بمدى تبسيطه ووضوح دلالاته وانفتاح أبعاده إلى المنتهى.

يمكن القول، في ختام الجدل حول مكانة كل من الفلسفة والأدب، إن مسار المجالين الطويل، يظهر المزيد من التقارب بينهما، إلى حد الامتزاج والإفادة من طبيعة كل من المنهجين وما يحملان من الأبعاد، وإن يكن الأدب متقدماً بالنقاط، عبر حاصل الأعمال الأدبية الهائل في العالم، في مقابل ضمور نسبي للفلسفة، ومحاولات لإقحامها في مجالات جديدة. غير أن المنظور اليوم، لا يقول باختفاء الفلسفة نهائياً، ولا بانتصار الأدب المحتاج دوماً إلى نسغ فكري يأتيه من الخارج.

المزيد عن: الفيلسوفالأديبالفكرالإبداعالعلاقةالمعريالايديولوجياالاختلافاللقاء

 

 

You may also like

Editor-in-Chief: Nabil El-bkaili

CANADAVOICE is a free website  officially registered in NS / Canada.

 We are talking about CANADA’S international relations and their repercussions on

peace in the world.

 We care about matters related to asylum ,  refugees , immigration and their role in the development of CANADA.

We care about the economic and Culture movement and living in CANADA and the economic activity and its development in NOVA  SCOTIA and all Canadian provinces.

 CANADA VOICE is THE VOICE OF CANADA to the world

Published By : 4381689 CANADA VOICE \ EPUBLISHING \ NEWS – MEDIA WEBSITE

Tegistry id 438173 NS-HALIFAX

1013-5565 Nora Bernard str B3K 5K9  NS – Halifax  Canada

1 902 2217137 –

Email: nelbkaili@yahoo.com 

 

Editor-in-Chief : Nabil El-bkaili
-
00:00
00:00
Update Required Flash plugin
-
00:00
00:00