ثقافة و فنونعربي مهى سلطان : معرض ريما أميوني… الغوص في لجج اللّون حتى القدمين by admin 14 يناير، 2023 written by admin 14 يناير، 2023 47 إن جولة تأملية على لوحات ريما أميوني تشير إلى مدى احتدام الألوان، وسطوعها النابع من تجربة حسية أكثر مما هي بصرية، وانتصار الشعور الطفولي على عالم النِسب الذكية في تكوين عالم الصورة وأشكالها. بيروت- النهار العربي \ مهى سلطان كيف للمتنزّه في فردوس الفنانة ريما أميوني أن يظل صامتاً من دون أن يغني؟ فالمعرض الذي تقيمه لنتاجها الأخير في غاليري عايدة شرفان والمستشارة الفنية كريستيان الأشقر (مبنى الستاركو – بلوك ب، يستمر حتى 11 فبراير)، بعنوان “الحديقة الكبيرة التي تحمل سماءها في فروعها”، يثير نوعاً من الغبطة أو النوستجاليا للطبيعة المتوسطية الحارة، في هذه الآونة التي انقلبت فيها الذوقية المعاصرة على جماليات لوحة المنظر حتى أمست مستبعدة، إن لم نقل خارجة عن الزمن على اعتبار أنها بعيدة من هموم الراهن. ريما أميوني التي لطالما عُرفت بأسلوبها الذي يفوق الوحشية اللونية. منذ أن حازت الجائزة الأولى لصالون الخريف عام 1995، في متحف نقولا إبراهيم سرسق، لا تزال تحافظ على جرأتها اللونية التي تميزت بها منذ أوائل التسعينات، في طرح كيفية إعادة إنتاج عناصر المنظر الطبيعي بناءً على مسائل الرؤية وعلاقتها بالفراغ واللون والضوء، وصولاً إلى لوحة جذابة وشرسة إلى أقصى الحدود، إن لم نقل فاجرة وبريئة وفطرية في آن واحد. الحقائق اللونية التي تطرحها بلا تردد تجعل مناظرها شبيهة بقصائد شعرية ترنو إلى فردوس لوني غريب وخيالي وممتع، على قدر كبير من النغمية والتحرر والتوافق والتعارض، حتى ليبدو متأتياً من تكرار ذكريات طفولية ملتبسة منذورة للشمس وفرح الربيع. لوحة ريما أميوني لروح منى الكراسي الفارغة تتأثر أعمال ريما أميوني في مقر إقامتها في “اليرزة”، وهي هضبة جميلة ببيوتها وحدائقها وجنائنها ومشرفة على البحر، لطالما شكّلت متنفسها الفني والمكان المنعزل المليء بالوحي والإلهام، حيث لا يفصل محترفها عن حديقة بيتها سوى نوافذ من زجاج شفاف. هكذا تظل الحديقة تتردد أمام ناظريها وفي متناول يدها، تقطف منها أزهار التوليب أو الزنبق البري وتضعها في إناء كي ترسمها. تتجول في أركان محترفها بين شمس وظلال، تداعب قطتها حينها أو تغرق في لوحتها، أو ترسم وجهها على مربعات قماشية ذات أحجام صغيرة أو تنقل أزهارها على بعض أواني السيراميك التي تحبها، كي تزين بها نافذتها. كأنها لم تغادر حديقتها يوماً ولم تفارق أشجارها ونباتها وزهورها، فكثيراً ما نشعر بأن مزاجها في تصوير كائنات الطبيعة ونباتها وموجوداتها قريب من مزاج ماتيس وعالمه الداخلي المشبع بالأزرق النيليّ والألوان الصيفية الحارة. فالطبيعة لم تعد تيمة فنية تزاولها منذ عقود بلا ملل، بل أصبحت جزءاً لا يتجزأ من كيانها الداخلي المعتمد على الأوقات التي تقضيها برفقتها، بل كأنها سجل يومياتها الفنية، وملجأ مشاعرها وبوحها وحزنها وفرحها. لكنّ شيئاً ما تغير بعد رحيل والدتها، التي لطالما تعلقت بها ورعت موهبتها منذ الطفولة وشجعتها على المضي في الفن، يتراءى في الكراسي الفارغة. في أكثر من لوحة يظهر كرسيان شاغرين، واحد لها والثاني لوالدتها التي ترك غيابها فراغاً كبيراً في حياتها، لم تجاهر به علناً إلا في لوحة مهداة إلى روح والدتها منى (تقي الدين) التي تبدو جالسة على كرسي في محيط لونيّ كثيف ومبهر في تعبيريته الصارخة، شبيهة برسم دوكوننغ لأمه في استنباط ينابيع الألم والفراق. فقد أخذ الشغور فجأة يلفت انتباهها، يدفعها لرؤية أشياء عادية لطالما كانت موجودة ولكنها تكتشفها كأنها لم ترها من قبل. هكذا أخذت الأشياء تتقابل وتتواجه في ثنائية توحي بذلك الحوار الصامت بين الحضور والغياب، والحياة والموت: صورتان، نافذتان، إناءان، بابان، شجرتان وحيدتان في حقل تترابطان من بعيد بخط أفق وهميّ. وبعيداً من الحزن تعوم الزنابق nymphéas على وجه البحيرة بين رقرقة المياه الزرقاء وأوراق الأشجار. تلك الأشجار التي ترينا زرقة السماء من خلال فروعها. أزهار التوليب تغني في الحقل مناظر لا تغيب عنها الشمس إن جولة تأملية على لوحات ريما أميوني تشير إلى مدى احتدام الألوان، وسطوعها النابع من تجربة حسية أكثر مما هي بصرية، وانتصار الشعور الطفولي على عالم النِسب الذكية في تكوين عالم الصورة وأشكالها. فهي تخرج لتمشي في الطبيعة كي ترسم وتلتقط بعض الأفكار والموتيفات كي تعود إلى المحترف، وتسعى إلى تكبير الجزء ليكون مشهداً فنياً بأقلام الفحم على القماش، قبل أن تباشر باستخدام الألوان الزيتية التي تفضلها على سواها بسبب تأثيراتها البصرية والجمالية، بما يتيح لها مزيداً من التأمل، ومزيداً من الخيارات في وضع طبقة لون فوق طبقة أخرى. هكذا تعمل على إزاحة الصورة كما هي الواقع لمصلحة التعبير الغريزي، حيث الجمع المبهر لمناطق اللون في لحظة الخلق ليكون الزخم الذي يولّده الفن واعداً. “أكثر ما يلفتني في الطبيعة هو الأصفر والأخضر” – تقول ريما – وكأنها تتحدث عن اللونين المفضلين لدى فان غوغ، وفي واقع الأمر لا تخلو منهما لوحة من لوحاتها المفروشة بضربات الفرشاة الحادة الشبيهة بالقضبان اللونية الموقّعة بريشة فان غوغ. أزهار التوليب تغني في الحقل ليس نافراً أن تمزج تحت ضربات فرشاتها المتوقدة بعضاً من التوجهات المتقدمة للتعبيرية الألمانية في رسم الطبيعة، مع المنحى التشخيصي للواقعية في التصوير الأميركي. هذا المنحى الذي جاء في خمسينات القرن العشرين، كي يتصدى لمدرسة التعبيرية التجريدية، بتيمات حميمة تشبه الواقع اليومي بلا تصنّع، من خلال تصوير العالم الداخلي الأليف بأشيائه الهامشية أحياناً، أو الانصراف إلى تصوير المناظر الخارجية، ولا سيما الطبيعة (كاستمرار لمرحلة الانطباعية الفرنسية بالنكهة الأميركية). مدعاة ذلك أن أميوني التي درست الفن في جامعة كولومبيا في نيويورك، قد تأثرت بمشهدية أعمال أستاذها غراهام نيكسون على وجه الخصوص، وهي تدنو في طريقة مخاطبتها للطبيعة عن عَمدٍ أو من حيث لا تدري، من مناظر الغرب الأميركي الخلابة، مع فوارق أساسية تأتي في طليعتها مسألة اتساع الفضاء والأحجام العملاقة للفن الأميركي، إلا أن طريقة التحوير والعنف اللوني والفطرية والفوضى المنظّمة والتّدخل في سردية المنظر على أنه كيان خاص بالفنان، هي من الركائز الأساسية لوجود تلك الطبيعة الحلمية المقطوفة من خصائص المكان بما يتناسب مع قول الكاتب برنار دوكليرفو B. De clairveaux ما تجده في الغابة لا تقرأه في الكتب… “فالأشجار والصخور تعلّمك الأشياء التي لم يقلها أستاذٌ في يوم من الأيام”. ولئن كانت الغابة المسحورة هي أكثر ما يبقى من حكايات الطفولة، لكنها تتراءى مراراً في لوحات ريما كل مرة بإطلالة مختلفة، الأكثر فرحاً هي تلك الملونة بالوردي والأصفر والأرجواني الفاقع والأزرق. ترسم ريما أميوني الطبيعة خارج الزمن، لكأنها الطبيعة المستحيلة الآتية من أحلام الشعراء، لفرط ما هي طازجة وصافية ومتأججة وساكنة بغرابة، حيث لا ضوء ولا ظل، بل أحمر ينصاع إلى رعشات مزاج ساذج يبوح بعدم الارتياح، وأخضر يتسلل إلى صمت الحدائق وأزرق يترصد بستاناً من الزهر، وبرتقالي فوسفوري يتراقص على رمادي مخطط بالأسود، وألحان الأرض الملتهبة تتأرجح بين سيقان الزهور. فكل نور ينبع من اللون نفسه في امتلاء هو الأقصى بروح أشياء الطبيعة وجوهرها، حيث حرارة المشهد اللوني وسطوعه قائم على بساطة الموتيفات والقدرة على استنباط علاقات لونية غير متوقعة على مساحات مؤلفة من طبقات سميكة من الألوان تتجاور، أو تتعاقب في ارتجال انفعالي مبهر. ويخطئ من يعتقد أن الفنانة تُبصر العالم من بعيد ولو كان المشهد بانورامياً، ذلك لأنها تضع كل عناصرها في الحقل الأول من عتبة الرؤية، كي تُدخل ناظريها إلى قلب اللوحة وفق اتجاهات متفرقة بلا زوايا استقطابية. غالباً الحدس بالفطرة والشغف بالمكان وأركان البيت من الداخل ومنظر الجوار المحيط مع أسوار البيوت الحجرية المتوّجة بالقرميد في الجبل اللبناني، وحركة الهضاب المُسرعة والدروب الهابطة إلى أعماق النفس. لا بد للمتنزه في فردوس ريما أميوني أن يغوص في لجج الألوان حتى القدمين. 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post رضوان السيد : لن يعودَ العالم كما كان! next post Christian Bale’s latest and a magnificent 2SLGBTQIA+ drama: This week’s best and biggest on Netflix You may also like بيروت تستعيد بريقها السينمائي مع 50 مخرجا لبنانيا... 15 يناير، 2025 مرصد كتب “المجلة”… جولة على أحدث إصدارات دور... 15 يناير، 2025 محمود الزيباوي يكتب عن: 3 قطع برونزية من... 14 يناير، 2025 ندى حطيط تكتب عن: قصة كلب فيلسوف وحيد 14 يناير، 2025 جواب دركهايم المبكر: لهذه الأسباب ينتحر الإنسان 14 يناير، 2025 “متل قصص الحب”… ثلاث شخصيات يجمعها حلم واحد 14 يناير، 2025 “سنوات باريس”… رحلة آدم حنين بين الحجر والروح 13 يناير، 2025 البريطاني إدوارد بارينغ يتتبع رحلة دريدا نحو عصر... 13 يناير، 2025 يوم أثار فريق “البيتلز” الإنجليزي جنون شبيبة أميركا 13 يناير، 2025 كتاب جديد يجمع نصوصا “مجهولة” لبورخيس 13 يناير، 2025