ثقافة و فنونعربي مهى سلطان: ذاكرة بيروت تجمع نجمتي المسرح في “لعلّ وعسى” by admin 31 مايو، 2021 written by admin 31 مايو، 2021 71 بيروت- النهار العربي / مهى سلطان “لعل وعسى” ليست تكهناً وارتياباً وارتقاباً لمستقبل غامض فحسب، إنما بارقة أمل هلّت علينا بعد طول غياب مع نجمتين أضاءتا ظلمة بيروت ولياليها المعتمة، بذكرياتها الحلوة المقطوفة من الزمن الجميل. رندا أسمر وحنان الحاج علي عملاقتان تلتقيان للمرّة الأولى، معًا، على خشبة مسرح دوّار الشمس (في عرض استمر لمدة ثلاثة أيام فقط 28 و29 و30 مايو). وعلى مدار ساعة ونصف، يأخذنا هذا الأداء الآسر، بصدقه وعفويته، من وطأة الراهن ومآسيه المتوالية ليضعنا إزاء جمالٍ “صادم” بروعته ورُقيّه. في هذه المسرحية، تفتح الكاتبة والمخرجة كريسيتل خضر ملف المسرح الحداثي في لبنان، من خلال شهادة فنانتين بدأتا مسارهما المسرحي في ثمانينات القرن العشرين، وسط أحداث الحرب الأهلية، وما تلاها من أزمات أدت الى أقفال معظم المسارح، تزامنًا مع رحيل جيلٍ من المبدعين وهجرة بعضهم الآخر الى عالم الاغتراب، ثم الى النسيان. المسرح والحرب الحرب لم تعق تطور الحياة الثقافية عموماً والمسرحية خصوصاً، بل ظلّ المسرح فاعلاً وديناميكياً رغم جولات الحروب والقصف والمتاريس وخطوط التماس. لكنّه انقسم، كما بيروت، الى شرقية وغربية. فكأنّ المسرج جزء من ذاك الانقسام الطائفي والمؤسساتي، الذي أدى الى تفريع الجامعة اللبنانية وانشقاق قسم المسرح في معهد الفنون الجميلة الى فرعين: الفرع الأول الذي تخرّجت منه حنان الحاج علي، لتنطلق مع فرقة الحكواتي تحت اشراف روجيه عساف، والفرع الثاني الذي تخرجت منه رندا أسمر بعد عملها مع ريمون جبارة وبزوغ نجمها في مسرحية صانع الاحلام. هكذا نجد أنفسنا أمام مدرستين، المسرح النخبوي الاختباري الأكثر قرباً من المسرح العالمي، ومسرح الحكواتي بنزعته الشعبية المنبثقة من حكايات الناس وقضاياهم وأوجاعهم وطرائفهم وذكرياتهم. ثمة أنواع اخرى عرفتها بيروت في ذلك الوقت، وإن كان الانعطاف القوي على طريقة “الكوميديا ديلارتي” نحو النص الجماعي وقدرة الممثل على الارتجال والمشاركة في إحياء الذاكرة الجمعية، وهي سمة طغت على توجهات روجيه عساف الذي انحاز الى طبقةٍ اجتماعيةٍ محرومة ومتألمة، عانت من تداعيات الاجتياح الاسرائيلي للبنان (صيف العام 1982)، وخصوصاً حالات النزوح من الجنوب الى بيروت وروايات الناجين من المجازر الاسرائيلية وعدم التأقلم المديني والاختناق والضيق، ومواضيع أخرى شكلت الينابيع الملهمة لتجربة الحكواتي. ولكن “مع وصول تلك الطبقة الى السلطة وإمساكها بزمام الأمور، وهي ما زالت حتى الآن، أوقفنا مسرح الحكواتي”، تقول حنان الحاج علي. من “التابو” الى الحرية “لو لم أكن ممثلة مسرح لكنت متّ جوعاً إليه”، عبارة قالتها رندا أسمر لتعبّر عن لهيب حب لا ينطفئ نحو خشبة المسرح. توقفت حنان الحاج عند هذه الفكرة لتروي كي فازت في مباراة الدخول الى قسم المسرح في الجامعة من خلال استرجاع حيّ ونابض، باللهجة الجنوبية المميزة، لقصة حب جدّيها التي ولدت مع موسم قطاف التبغ. وتناولت إشكالية الطرح هنا معضلة مهنة الممثل “المشخصاتي” في نظر المجتمع اللبناني المحافظ، سواء أكان مسلماً أم مسيحياً، والذي يربط غالبًا بين مهنة التمثيل والانحراف الاخلاقي. هكذا، تبدأ الذكريات مع قصة تمرد البطلتين (رندا وحنان) على سلطة الأب. والد رندا الذي نذر للعذراء لكي تسقط ابنته في امتحان الدخول الى قسم المسرح، وحنان بقيت طوال سنتين تدرس في قسم المسرح من دون علم والدها المعروف بالحزم والصرامة، غير أنّ حبه للشاعر الجواهري، كان حجةً تعرّف من خلالها، للمرّة الأولى، على ابنته كممثلة مسرحية، ليرضخ أخيراً الى مشيئتها. حنان ورندا سماتهما التمرّد والتحدي الناعم، عرفتا كيف تروّضان فضاء العيش بحثاً عن الحرية وصبوة الفن. حنان مثلّت رغمًا عن أهلها، وتزوجت من روجيه عساف رغماً عنهم أيضًا، ووضعت الحجاب رغماً عن رغبة الناس ورأيهم. أمّا رندا فلعبت دور العاهرة روزا خفية عن والدها قبل أن تلاحقها وشاية أصدقائه بها، وقد فتحت نوافذ الماضي لتتحدث عن جلوس المخرجين في صالون بيتهم لكي تلعب أدواراً في مسرحياتهم بعد أن تنال رضا والدها وموافقته، ثم لتكشف عن خيباتها المتتالية في الحب. بوح حميم الذكريات تذهب الى أبعد من مجرد السرد الحيّ، لأنها تأتي بمثابة اعترافات وبوح حميم يحفر عميقاً في مكنونات الذات المليئة بالانكسارات والآلام والحب والخيبات والانتصارات والنجاحات التي قطفتها رندا وحنان في المهرجانات العربية، وخصوصاً مهرجان قرطاج. ثم تنعطف الحوارات من مواجهة التابوات وحكايات التمرّد الى دور المخرج كوسيط أساسي في حياة الممثل لتسأل رندا حنان عن خيارها بين روجيه عساف الممثل والمخرج والزوج، فتجيبها بالفرنسية “روجيه الأيقونة”. بين ضحك وسخرية من سلطوية شخصية المخرج، الى شعور “الممثل المسرحي” بالدونية لأنه لا يتراءى مهماً في حياة الناس إلا إذا عمل في السينما أو التلفزيون كي يصبح Star، لذا تقول حنان بأن بدايتهما إذاً كانت خطأً، لأنه كان ينبغي عليهما ان تبدآها كنجمتين (ستارز) ثم تنصرفان الى التمثيل. من القسوة ان يشعر الممثل المسرحي أنه ليس مهماً وأنه بلا جدوى ومن هذا الشعور بالإنكفاء يتأتى كل العبث والسخرية اللاذعة التي تبدأ بحكايات مآسي الممثلين الكبار. تتحدث رندا عن دورها في مسرحيةٍ لشكيب خوري أعدها للأطفال، وعن المتاريس التي قطعتها جورجيت جبارة مشياً على الأقدام حاملة معها الملابس التي أعدتها للمسرحية ومواجهتها تهكّم المسلحين خلف المتاريس. تتوقف الذكريات عند الصوت الآسر لنضال الأشقر وحضوره الطاغي كحضور شخصية رضا خوري التي عرفتها رندا عن قرب وسألتها عن سبب إعراضها عن الزواج لتجيبها بخيار العيش وحيدة ووصفت الزوج بـ”الثقل” الذي كان يمكن ان “تواجهه” لو تزوجت. عانت رضا في سني حياتها الأخيرة من الألزهايمر وظلت تمثّل على الخشبة الى أن صمتت فجأة أمام الجمهور مدة طويلة ثم صمتت الى الأبد. تجربة الحرب وما بعدها على خشبة فارغة خالية من الإكسسوار والكواليس والسينوغرافيا، يتراءى أمامنا الخلوّ المتقشف إلا من كرسيين وبابين خلفيين لهما رمزيتهما في المسرحية. النور الوحيد الذي يضيء المكان، هو نور القلب كي نهتدي الى الماضي ونبصر أعمارنا تتقلب وتنحني بين لمعة البدايات والنهايات. رندا وحنان تجلسان في قلب الضوء وتنقلانا من مكان الى مكان، ومن زمن إلى آخر، ومن الشخصي الى العام ومن خطوط التماس وخشبات المسارح، الى عزلة الوجود وصرخة الحياة التي تولد من ظلمة الملاجىء وعتمتها. “ما أصعب أن يشعر الناس انهم يسكنون ملجأ لا يدخله سوى الخائف”، بحسب تعبير الفنان عارف الريّس. لكنّ رندا كانت تحب أن تأوي الى الملجأ لأنه تحت الأرض حيث الأمان تماماً مثل المسرح فيه ننتصر على الخوف وفيه تُتلى الصلوات على مريم وفيه تتفجر موهبة التمثيل وتقليد الشخصيات واقتباس الأدوار، “فيه كل عناصر التسلية” أليس ذلك قاسياً وغريباً. ولئن كان زمن الحرب موصوفاً بالزمن الجميل، كيف يمكن لنا أن نعرّف هذا التقوقع الذي نعيشه في هذا الزمن الرديء زمن السقوط في جهنم؟ “لعل وعسى” تنبري لوحدها بذاتها. تقف بلا نص جاهز ولا ألاعيب اخراجية ولا أدوار ثانوية ولا تقنيات عرض صورية على شاشات افتراضية، بل تكتفي باللعب على أوتار القلوب. مسرحية أقرب ما تكون الى صوغ سرديات تتقاطع دروبها في قالب حكائي عفوي السياق والتصميم، شبيه بالاداء الارتجالي لذاكرة كلٍ من رندا أسمر وحنان الحاج علي. وبين السير الذاتية واستعادة الذاكرة البيروتية بأقطابها وخارطة مسارحها وأماكن العرض فيها، التي لم تعد موجودة اليوم، ثمة حلقات ستظل ضائعة ومستعصية، لاسيما في هذه المرحلة من العماء والغموض. ما الحل إذاً؟ هل الاستسلام والانصراف وترك الخشبة؟ رندا تقول بأنها لم تعد تحب أن تمثل تحت الأرض، بما انه ليس في الراهن من أمل أو رجاء، إذاً فلنمثل ونرقص تحت الضوء ونلهب خشبة المسرح حباً وفرحاً واحتفالاً وتفاعلاً مع الجمهور حتى لا يبقى شيء من غصة الفراق تؤرقنا وتعذبنا، حتى لا يبقى شيء من سرائرنا لم نكشفها ونعرّيها ونسخر منها. “لعل وعسى”، تزامن عرضها مع رحيل المسرحي حسام الصبّاح بصمت وبلا وداعٍ، نهضت من ركام أحزان بيروت على منصة خالية من كل شيء إلا من فن التمثيل الذي هو أصل الحكاية وأصل الحلم وأصل المسرح الذي كثيراً ما يقال أنه أكبر مكان لنعيش فيه حريتنا الحقيقة بلا أجنحة. المزبد عن : لعلّ وعسى /حنان الحاج علي/ رندا أسمر /مسرح 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post “الإخوان” وفلسطين: جهاد بالشّعارات أم متاجرة بالقضيّة؟ next post العلاج بلسع النحل ينتشر في مصراتة بليبيا You may also like يونس البستي لـ”المجلة”: شكري فتح السرد العربي على... 15 نوفمبر، 2024 مرصد كتب “المجلة”… جولة على أحدث إصدارات دور... 15 نوفمبر، 2024 بغداد: قصة مدينة عربية بُنيت لتكون عاصمة إمبراطورية... 15 نوفمبر، 2024 أهم إصدارات الكتب في بريطانيا لنوفمبر 2024 15 نوفمبر، 2024 “بناء العقل الثاني” يواجه أخطار التكنولوجيا وإدمان الإنترنت 15 نوفمبر، 2024 مهى سلطان تكتب عن: التشخيص والتجريد يتآلفان في... 15 نوفمبر، 2024 عندما لاعب التلفزيون الذكي كاسباروف على رقعة الشطرنج 15 نوفمبر، 2024 غريملينز يحول فوضى فيلم “درجة ثانية” إلى نجاح... 15 نوفمبر، 2024 فلسطين حاضرة في انطلاق مهرجان القاهرة السينمائي 14 نوفمبر، 2024 أنجلينا جولي تواجه شخصية ماريا كالاس في فيلم جديد 14 نوفمبر، 2024 Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.