الشاعرة والرسامة إيتل عدنان (مؤسسة الشاعرة) ثقافة و فنون مهى سلطان تكتب عن: إتيل عدنان تسترجع ذاكرتها المتعددة وجوديا وجغرافيا by admin 1 سبتمبر، 2024 written by admin 1 سبتمبر، 2024 67 فواز طرابلسي ترجم لها عن الإنجليزية والفرنسية مختارات من نثر وشعر “ اندبندنت عربية / مهى سلطان “أيها الشعراء غيّروا العالم أو اذهبوا إلى بيوتكم” نداء جريء يستنهض الهمم هتفت به الشاعرة والفنانة إتيل عدنان (1925- 2021) يطالعنا في الكتاب الجديد الذي صدر حديثاً بعنوان “إتيل عدنان في الحب واللغة” عن دار رياض الريس، من تعريب الكاتب فواز طرابلسي وتقديمه، وهو من أقرب الأصدقاء إلى الراحلة وأكثرهم استنطاقاً لها أدباً وفكراً وحواراً، وهي شخصية كوزموبوليتية نادرة ومناضلة إنسانوية (أومانيست) شغلت بشخصها وقصائدها وفنها، أوساط الشعر والفن في حياتها وستشغله كذلك بعد رحيلها. في الكتاب جمع طرابلسي النصوص التي اختارتها عدنان بنفسها للنشر في “بدايات” المجلة الفصلية التي أسهم طرابلسي في تأسيسها وتولى رئاسة تحريرها خلال حياتها القصيرة (2012-2022)، وتتحدث فيها عن قصة الأب وأيام الطفولة في بيروت، وتتأمل في الكتابة بلغة أجنبية وتتحدث عن قصورنا أمام كلفة الحب. وفي قصائدها المترجمة يحضر بيروت وبعلبك واثنان من شعراء إتيل المفضلين فلاديمير ماياكوفسكي وبابلو نيروا. الكتاب الجديد (دار رياض الريس) إتيل عدنان صاحبة القول الشهير “كل ما أفعله هو ذاكرة”، وهي في فصل “أن تكتب بلغة أجنبية” تسرد ذاكرتها التي اختزنت بمعنى ما سيرتها الذاتية. هذه السيرة التي قرأناها في عديد من المراجع وفي كثير من المناسبات والمعارض الدولية، ولكنها حين تصدر عن قلمها فهي تجول عميقاً في منعطفات وتفاصيل لا يعرفها أحد سواها، لا سيما المتعلقة منها بسنوات الطفولة “على اعتبار أن اللغات تبدأ في البيت”. أب بعمر الجد تسلط إتيل الضوء حول شخصية والدها العربي المسلم المولود في دمشق بسوريا، وتعود بالزمن إلى أواخر القرن الـ19، حين كانت تركيا حليفة لألمانيا القيصرية، وكان وقتئذٍ ضابطاً عثمانياً في جيش السلطنة تلقى تدريبه بالتركية والألمانية والفرنسية إضافة إلى دراسته السابقة بالعربية وكان زميله على مقاعد الدراسة ورفيق السلاح مصطفى كمال أتاتورك. عندما انقسمت جماعة “تركيا الفتاة” واندلعت معركة الدفاع عن المضائق انتقل إلى إسطنبول وهناك التقى والدة إتيل اليونانية (من مواليد سميرنا، ما يعرف اليوم بأزمير)، التي كانت تصغره بنحو 18 سنة فتزوجها، وبما أنها تجهل العربية لذا كانا يتكلمان في البيت بالتركية والفرنسية. بعد نهاية الحرب الأولى غادرا تركيا واستقرا في بيروت، حيث ولدت إتيل في حقبة الانتداب الفرنسي على لبنان وسوريا. كانت بطبيعة الحال تتقن التركية واليونانية قبل أن ترتاد مدرسة راهبات فرنسية: “كان الأسلوب المستخدم لتعليم الفرنسية للأطفال بذاته نوعاً من التطبيع النفساني. كان التكلم بالعربية يعادل اقتراف الخطيئة”. كان والدها هرماً، قياساً إليها كطفلة يبدو كجدّ، سعى إلى تعليمها العربية ولكن دون جدوى، علمها أحرف الأبجدية، وكانت ترسم الحروف باجتهاد، تنقل الكلمات من دون أن تفقه معناها، لذا اقتصر لديها التعلم على التدوين. كثيراً ما تلوم نفسها أنها حين كبرت لم تتعلمها بمفردها: هكذا ظلت العربية جنتها المحرمة. الشاعرة والرسامة في عمر الشباب (مؤسسة الشاعرة) تتحدث إتيل عدنان عن بيروت كمدينة كوزموبوليتية، منذ اندلاع الحرب العالمية الثانية، مع اختلاط القادمين إليها من جنسيات مختلفة لا سيما جنود الحلفاء، حتى تحولت إلى صورة مصغرة عن العالم. ثم أخذت تعي أهمية اللغة الإنجليزية مع ازدياد نسبة اللبنانيين في الجامعة الأميركية وقدوم اللاجئين الفلسطينيين الذين يتقنون الإنجليزية. نشأت في بيروت بيئات ثقافية كانت تدور مدار ثلاث لغات، وكان ذلك شأن الكتاب والصحف والمجلات الأدبية، مما أضفى نوعاً من الثراء والتنوع، لكنه في بلد أصغر من أن يستوعب رياح التغيير العاتية والاستقطاب الثقافي، خلق تيارات جوفية من التوتر ستنفجر بعد جيل وتدمر البلد عملياً. شيئاً فشيئاً طور لبنان في الخمسينيات حياة ثقافية غنية لكنها مبعثرة إلى فئات لغوية: جورج شحادة كان يكتب بالفرنسية، فيما معظم الكتاب يكتبون بالعربية. بدأت إتيل كتابة الشعر في الـ20 من عمرها، وكان أول ديوان لها هو “كتاب البحر” وهو قصيدة طويلة كتبتها بالفرنسية، ثم سافرت إلى باريس لدراسة الفلسفة في جامعة السوربون، انتقلت بعدها إلى نيويورك عام 1955 إذ انتسبت إلى جامعة كاليفورنيا في بيركلي- فرع الفلسفة. هناك أخذت تواجه مشكلة اللغة الأميركية، وشيئاً فشيئاً وقعت في غرامها تقول: “طربتُ للطريقة الكاليفورنية في تكلم الإنجليزية: الأسلوب والترخيم والعامية والمطبوعات الأميركية… كنت في حالة اكتشاف دائم، كان ذلك يتضمن اكتشاف الطبيعة بما هي قوة وجمالها المراوِد، وقد باتت هوساً عندي. فالسير في سيارة على الطرقات العامة الأميركية أشبه بكتابة الشعر بواسطة جسدي كله”. بين الرسم والشعر من لوحات إيتيل عدنان (مؤسسة الشاعرة) كانت وما زالت تعتبر نفسها ناطقة بالفرنسية، حتى زمن حرب الاستقلال الجزائرية، التي دفعتها إلى استنكار أعمال العنف والقتل في حق الجزائريين، مما انعكس على موقفها من اللغة نفسها. ثم وجدت حلاً لتلك المشكلة، من خلال الانصراف إلى الرسم في أوقات الفراغ في دائرة الفن التابعة لجامعة بيركلي. تقول: “لم أعد بحاجة إلى أن أكتب الفرنسية بعد الآن، سأرسم بالعربية”. منذ عام 1960 أصبح الفن شغفها كلغة جديدة. لم تعد بحاجة إلى استخدام الكلمات، بل الألوان والخطوط، بأسلوب التجريد الذي يعادل التعبير الشعري. ثم دخلت لاحقاً في مغامرة الكتابة مع التلوين المائي والحبر معاً على الدفاتر اليابانية بخطها غير السوي الذي دونت به قصائد لكبار الشعراء العرب، مما أثار عديداً من النقاشات لا سيما بعد عرضها في غاليريات الولايات المتحدة الأميركية وبعض العواصم العربية. مع الثورة الثقافية التي اندلعت إثر حرب فيتنام، أخذت إتيل تكتب الشعر من وحي تلك الأحداث وتنشر قصائدها وتتلقى رسائل التأييد، فشعرت أنها تنتمي إلى شعراء أميركا في زمن كان الشعر ينمو في ذلك البلد مثل الموسيقى والعشب. في أوائل السبعينيات عادت إتيل عدنان إلى بيروت التي كانت تعيش أجمل سنواتها، تقول: “رميت نفسي في بركان نشط كان الأمر بديعاً”. عملت في الصفحات الثقافية لجريدة فرنسية أسست حديثاً، غير أنها بعد سنتين من اندلاع الحرب المأسوية عام 1975، غادرت بيروت الى كاليفورنيا لمتابعة عملها في الكتابة والرسم. بعدما أنجزت من وحي الحرب إحدى أشهر رواياتها وهي “الست ماري روز”. الوردة العطرة من باب نقد التاريخ، كتبت إتيل عدنان عن قضية المجازر الأرمينية التي خلقتها الأحداث السياسية منذ بدايات القرن الـ20، من دون أن تغيب الصورة البطولية لوالدها عن هذا القصص بما يحمله من الشغف والحب. تستعرض روايات أصدقائها عن فرار العائلات الأرمينية هرباً من المجازر إلى سوريا ولبنان مشياً على الأقدام في مسيرة مضنية يقضي منهم حتفه على الطرقات. وفي هذا السياق تتحدث عن الأثر الروحاني القوي في لوحات الفنان بول غيراغوسيان الذي أمضى حياته يرسم مشاهد ذلك الخروج من تركيا، تقول: “في كل لوحة من لوحاته، تُحوِّل عبقريته قافلة اللاجئين الطويلة إلى حجيج مقدس”. وتتذكر أيضاً الحقيبة الحمراء التي فُقدت، وفيها صور ورسائل والدها التي كتبها بالفرنسية بخط جميل إلى أمها “روزا ليليا كورتي” الملقبة في لبنان بـ “مدام ليلي”. كانت تبدأ الرسائل كلها وبعضها مكتوب تحت القنابل بـ” يا وردتي العطرة”. في فصل “الثمن الذي لا نريد أن ندفعه للحب”، تبدأ بالكلام عن نيتشه الذي تصفه بأنه جزيل الكرم وهذا الكرم صورة من صور الحب. تقول إتيل عدنان “قد يدعو إلى الاستغراب أن يذكّرني نيتشه بالحلاج، ذلك أن صوفية الأخير الإسلامية قد تبدو على النقيض من أفكار نيتشه، لكن الفيلسوف الألماني، والصوفي الفارسي في القرن الـ10، كلاهما قد دفع بطاقته الإبداعية إلى أقصى مداها في بحثهما عن المطلق. تتأمل إتيل في الحب الذي يقلب الكيان كهزة أرضية، في معنى مرادف لتحرر الجسد، ويتخطى الحب مسألة الآخر، إلى حب البحر والجبل والليل، خصوصاً الليل الذي وصفته بأنه “تجربة مخملية”، ينسدل شموعاً وقناديل، أما النوم فهو ليس غياب اليقظة وإنما هو بداية لعالم جديد. الحياة نسيج في الحوار الأخير مع إتيل عدنان، كتب فواز طرابلسي عن آخر زيارة قام بها في بيتها في باريس في نهاية أكتوبر )تشرين الأول( 2022، للاطمئنان على صحتها التي تدهورت. كأنها كانت مدركة بأنها في الرمق الأخير، لذا أودعته آخر الكلام وآخر العِبَر، قبل أن يسألها بادرته بالقول: “ما أراد نيتشه أن يقوله ولم يقله، هو أن العودة الأبدية هي اكتشاف الألوهة في داخلنا. ثم اكتشفتُ شيئاً آخر: القولُ شِعرٌ، والتفسير والتحليل نثر”. كانت إتيل تمر بمرحلة الآلام المبرحة في ساقيها، هذا الألم الذي وصفته بالجحيم. تقول لطرابلسي بأنها طلبت من الطبيب أن يحقنها بحقنة لكي تختفي. وسألها فواز عن التفكير بالموت فأجابته بأنها بلغت مرحلة صار فيها الموت هو التحرر من الألم. يسألها عن أشياء لم تحققها في حياتها وتمنت تحقيقها؟ تقول: “لا… اشتغلت كثيراً كان بودي أن أبني جداراً من السيراميك وأن أصمم مزيداً من المنسوجات الجدارية. لقد حققت الكثير”. بعد صمت… قالت أخيراً بصوت خافت: “كنت أريد للشعر أن يتحرر”، وهي في الواقع كانت تُعرِب عن هذه الرغبة في إلغاء الفوارق بين الشعر والحياة اليومية بين الشعري واليومي، كان ذلك رداً على ما قاله عنها النقاد الأميركيون بأنها أدخلت الفلسفة إلى الشعر الأميركي. يقول طرابلسي: “في حضرة الموت كانت إتيل تساجل نيتشه عن العودة الأبدية وأشياء متعلقة بالمادة واللون وفي هذه الاكتشافات لفتة عرفان بالجميل من ابنة الـ96 ربيعاً إلى المعلم غاستون باشلار الذي درست عليه الفلسفة في باريس وهي في سنيها الـ20، وهو الذي كرس حياته وفكره، للمصالحة بين العلم والشعر وبين المادة والمخيلة”. ويستنتج في كتابه البديع عن إتيل عدنان قوله: “هذه المرأة التي تفضل الموج على البحر، كان سعيها المتواصل نسج علاقات بين الفلسفة والفن والشعر، قدر ما سعت إلى نسج العلاقات بين البشر، ولسان حالها أن ‘الحياة نسيج’. يبقى أن الحب كان لُحمةَ حياتها وسداها”. المزيد عن: إتيل عدنانشعرنثرسيرة ذاتيةفواز طرابلسيمختاراتترجمةرسامةمجلةبيروتفرنسا 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post كوندوليزا رايس تكتب عن: أخطار انعزال أميركا next post ماريا: أوبرا الحزن والجمال التي ستخلد أنجلينا جولي You may also like مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 عبده وازن يكتب عن: فيروز تطفئ شمعة التسعين... 21 نوفمبر، 2024 “موجز تاريخ الحرب” كما يسطره المؤرخ العسكري غوين... 21 نوفمبر، 2024