لقطة من فيلم "فلسطين في العين" (مواقع التواصل) X FILEثقافة و فنون من الستينيات إلى اليوم.. كيف جسدت السينما الفلسطينية شخصياتها المتعددة؟ by admin 13 ديسمبر، 2024 written by admin 13 ديسمبر، 2024 32 الجزيرة نت رهف شولي “العالم الاستعماري لا يصنع التاريخ فحسب، بل يرويه كأوديسا” عبارة فرانز فانون من شأنها أن تجعل كل مستعمَر مهووسا في تقديم نفسه وهويته، حتى أصبحت معضلته الكبرى أن يُلقى في الردم ويُدفن كل ما يتعلق به لينتهي بانقراض فصيلته، وهو آخر ما يتمناه. “من الفلسطيني؟” سؤال تتخلله آلاف الإجابات في الزمكان الفلسطيني، الذي يحمل كل شيء في فضائه بأبعاده الأربعة، فلا وجود للأشياء والأحداث خارج نطاق الزمان والمكان، الأمر الذي يحاول إثباته الإنسان الفلسطيني في حياته اليومية المفندة لكل أوديسا وأسطورة استعمارية للأحداث التاريخية المروية التي لا وجود لها في الزمكان. إن اختلاف التعريف يأتي باختلاف الزمان والمكان وأيديولوجية المجتمع، إضافة إلى التفرد بكل تفصيلة يشعر بها الفرد الفلسطيني، فكل شيء نسبي إلا حقيقة واحدة مطلقة يتفق عليها الجمع وهي الاستعمار، وهذا ما نراه في السينما الفلسطينية. تعود بدايات التصوير السينمائي المتحرك للأفلام الصامتة في فلسطين في نهايات القرن الـ19، حيث تقدمت فلسطين في الصفوف الأولى في السينما حول العالم من الأخوين الفرنسيين لوميير، اللذين كانا يهتمان في بناء أول المدارس السينمائية. الأخوان الفرنسيان لوميير كانا يهتمان ببناء أول المدارس السينمائية (شترستوك) ولا بد القول إن تاريخ السينما الفلسطينية مجهول قبل نكبة عام 1948، حيث يرى معظم النقاد أن الانطلاقة الفعلية للسينما كانت بعد ظهور الثورة الفلسطينية في النصف الثاني من ستينيات القرن الـ20، رغم أن المرحلة التي سبقت النكبة شهدت قيام بعض المخرجين اليهود بإنتاج أفلام شبه وثائقية تُعرف بفلسطين، ضمنها فيلم “أول فيلم عن فلسطين، 1911″، (زبيدي، الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية). لم يكن المخرج اليهودي مهتما فعليا بفلسطين لكونها فلسطينية، بل كان يوثق حياتها اليومية ويستكشف أيديولوجيتها تمهيدا لابتلاعها ونهشها، لتتحول من حنطية عربية إلى شقراء استعمارية، ومن مواطن فلسطيني إلى لاجئ مغترب، ومن مفكر طموح إلى ثائر مقاوم. ومن هنا، نرى أن شخصية الفلسطيني في السينما الفلسطينية ترتبط بشكل وثيق بكل حدث وتاريخ وزمن، حيث يمكن رصد حوالي أكثر من ألف صورة للفلسطيني من سنة 1916 إلى يومنا (وزارة الثقافة الفلسطينية). نستعرض في هذا المقال رحلة صورة الإنسان الفلسطيني وأيديولوجيته من خلال تحليل بعض الأفلام الفلسطينية التي تم إنتاجها في أزمنة مختلفة من بداية الثورة الفلسطينية إلى يومنا، ونطرح عدة أسئلة رئيسية: كيف رصدت السينما الفلسطينية تحولات صورة الفلسطيني على مدار السنوات؟ نبذة عن رحلة هوية الإنسان الفلسطيني عبر السينما الفلسطينية: أفلام الثورة الفلسطينية-الفلسطيني المناضل “ثورة حتى النصر”، هي رسالة العديد من أفلام الثورة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت تتخذ النضال الشعبي سبيلا في تحقيق نصرها. تأثر الثائر الفلسطيني بتجربة كوبا وأميركا اللاتينية في إنتاج السينما الثورية، وكان يرى أنها أداة من أدوات النضال وآلة حربية موجهة صوب السلطة وأي نظام استعماري، فالكاميرا مثل البندقية وعرض الفيلم الثوري مثل الكفاح المسلح ضد الواقع الاضطهادي، لتكون ميلاد السينما الفلسطينية منذ البدايات مرتبطة بأيديولوجية المجتمع، والفكر الثوري الذي يعتمد عبارة فرانز فانون “أنا أصنع الثورة.. إذن أنا موجود”. وأنتجت الحركات الشعبية ومنظمة التحرير الفلسطينية حوالي 70 فيلما ما بين 1968 حتى 1979، تحمل في طياتها السرديات الثورية ونضالات الشعب الفلسطيني ضد القوى الاستعمارية (وزارة الثقافة، 2001). حيث كانت أوائل الأفلام الثورية (لا للحل السلمي، مصطفى أبو علي، 1968) (فيلم فلسطين في العين، مصطفى أبو علي، 1976)، وعرضت في قبو حركة فتح في الأردن. مثلت هذه الأفلام نموذجا لشعب يناضل لاستعادة أرضه من خلال الصورة، وتعكس تحولا في هوية الشعب الفلسطيني من شعب لاجئ إلى شعب يقاتل من أجل الحرية، فقد أتى الزمن الذي يروي فيه المضطَهد نفسه بعيدا أساطير المستعمِر. ولكن، لا بد من ذكر أن هذه الأرشيفات تلاشت واندثرت مع الكثير من التاريخ الفلسطيني المدفون. إلا أن المخرج الفلسطيني مهند اليعقوبي في فيلمه “خارج الإطار” عرض لنا عدة مقاطع وتسجيلات تصف لنا تاريخ الحياة الثورية آنذاك وتجعلنا نضع أعيننا على عقلية الإنسان الفلسطيني بسردية مذهلة. “حكاية شعب خلال بحثه عن صورته” جملة كتبها اليعقوبي كمادة تعريفية للفيلم، وهذا ما نلاحظه في معظم أفلام السينما الفلسطينية، التي تروي لنا عن بحث الفلسطيني دوما عن نفسه من خلال ذاكرته وصوره، من خلال عرض مادة أرشيفية من النكبة والنكسة، مع التركيز على قضية تهجير آلاف الفلسطينيين. يأخذنا خارج الإطار في رحلة ثورية مثيرة، فقد تشاهد معسكرات تدريب الفدائيين الفلسطينيين ومقابلات مع عدد منهم، فتسمع صرخات فكرهم الثوري، الذي يلازمهم طوال الفترة، ليؤكد لك المستعمَر بأن إدراكه بحدسه أن تحرر بلاده يجب أن يتم بالقوة، ولا يمكن أن يتم إلا بالقوة، وينطبق هذا الشق على تلاميذ المدارس، إذ يسأل فيها المعلم طلابه عن غاية حمل الفلسطيني للسلاح، وإن كان بإمكان استرجاع الوطن بالمفاوضات، ليرد أحد تلاميذه بعدم موافقتهم رأيه، ويقول أحدهم: بقوة السلاح. تجعلنا هذه المشاهد نستذكر الفلسفة الثورية للسينما الثالثة، التي ترتبط في حاجات المجتمع وتغيير النظام القائم، مما يعني بلا شك الارتباط الوثيق بين السينما الفلسطينية وأيديولوجية المجتمع الفلسطيني، وتؤكد رفضها لسفاهة السينما الأولى وغرور السينما الثانية، اللتين تمثلان الوجه الاستعماري المنمق، وتتبنى الواقع الاستعماري في العالم الثالث. ولم يقتصر الفيلم على التدريبات العسكرية، بل ركز على أرشيفات من أفلام ثورية أخرى في الشتات، فقد ترى جانب التثقيف النسائي بالثورة وتعليمهن أهم كتب الفلاسفة الثورية، إضافة إلى أهمية دور المرأة الفلسطينية في الثورة ضد العالم الاستعماري، حيث يعرض الفيلم عدة مشاهد لحمل المرأة السلاح وتعليم الفتيات كيفية استخدامه، مع أهمية القراءة الثقافية. من تلميذ ثوري إلى تلميذ مفاوض يعرض الفيلم تحولات الفكر الفلسطيني من الثائر المقاوم لنيل الحرية إلى السلام دون الحلم بالحرية، من خلال مشاهدة تغير الظروف السياسية بعد توقيع اتفاقية أوسلو، فقد تم تصوير مدرسة فلسطينية تسأل فيه المعلمة طلابها عن الحرية، فيقول أحدهم: العيش بسلام. يؤكد اليعقوبي أن الفيلم ابتدأ بصرخات نضالية من منظمة التحرير الفلسطينية إلى صرخات سلام، لتخرج عن إطار ثورة الكفاح المسلح. يهدف فيلم خارج الإطار إلى سد ثغرة في الذاكرة الجماعية، وهذا يجعل الماضي عنصرا هاما لتحليل حاضر السينما الفلسطينية، وهو ما يمثل غاية المخرج الذي يرى في الفيلم مرحلة من عملية جمع وتوثيق ونشر ما تبعثر من أرشيف الثورة الفلسطينية. الفلسطيني الراوي نستكشف تحولات الفكر الفلسطيني مع المخرج عبد السلام شحادة بطريقة سردية مثيرة في فيلمه “إلى أبي” (2008، 52 دقيقة)، الذي يرويه بنفسه كمصور من إحدى مخيمات اللاجئين في غزة. يبدأ الفيلم بعرض أرشيف الصور الفوتوغرافية الشاهدة على تاريخ فلسطين، من إستوديو “الحاج سلامة” القديم، بل أظهر تغير عقلية ونفسية الإنسان الفلسطيني المختلفة عن عدة حقبات، وعن أفضل ما قدمه شحادة هو سرديته البسيطة والقريبة من الناس. يظهر لنا شحادة كيف اختلف تعامل الناس مع صاحب الكاميرا، الذي كان يحظى بشعبية واسعة قبل تدنيس الفكر الفلسطيني وقبل استخدامها كسلاح يوثق فيه المستعمِر وجه المستعمَر الفلسطيني. يبين لنا الفيلم كيف رصدت الصورة التغيرات السياسية، إذ وصف شحادة حرب حزيران عام 1967، بأنها زلزال يضرب في كل مكان، وأن المعالم قد اختلفت وأصبح المخيم مخيفا، وظهر الغول والرجل المسلوخة، لذا بات الناس يلازمون بيوتهم خوفا من تهجير قسري آخر، فقد كانوا الجنود يداهمون المنازل ويصادرون الصور والألبومات، ثم استخدموها فيما بعد في اعتقال الناس الموجودة في الصور، حتى أصبحت الصورة مصدر خوف بعد أن كانت مصدر فرح ودفء. اختزال الهوية يتحدث الراوي عن المدرسة ومكتب التموين، وعن سكة الحديد التي رفعها الإسرائيليون بعد الاحتلال، وبدؤوا محاولة طمس المعالم ومحو الذاكرة، فغيروا هوياتهم أكثر من مرة، فتارة يمنحونهم هوية خضراء، وتارة أخرى هوية حمراء، وتارة ثالثة هوية صفراء، وكانوا يطلبون من سكان مخيم رفح أن يذهبوا إلى غزة، ويضعونهم في مدرسة، ويظلوا فيها ينتظرون من الصباح إلى المساء حتى ينالوا الهويات الجديدة التي أصدروها لهم (أحمد، 2024). الجنسيات الفلسطينية التي بدلها الاحتلال الإسرائيلي 5 مرات (لقطة من الفيلم) الصورة ناقلة الرواية يعمد شحادة على ذكر وكالة الغوث، التي تصور في أوضاع رفاهية لا تتناسب مع الأوضاع السياسية في الانتفاضة الأولى، لذا اختار أن يكون هو ناقل الرواية من خلال توثيقه للأحداث السياسية. إن الحرية كما يراها الراوي، هو عندما بدأ يركض وراء المنتفضين وتصويرهم دون تردد وارتباك، حيث طالما يمد الكاميرا قوة خفية سحرية تجعل حاملها شجاعا يريد نقل الرواية والواقع لأعين العالم، حتى لا يقع فريسة رواية المستعمِر الدعائية. المعرفة الحقيقية لمعنى الاحتلال لدى الراوي عندما بدأ الاحتكاك بين ثوار الحجارة وقوات الجيش الإسرائيلي، عرف حينها معنى الاحتلال وما يفعله المحتلون الطارئون على هذه البلاد، فلم يجدوا حرجا في أن يُطلقوا النار على المنتفضين، وكأنهم في حفلة صيد برية (أحمد، 2024). من المنتفض إلى حامل غصن الزيتون يروي لنا شحادة كيفية اختلاف العقل المنتفض الذي كان بالأمس يحمل الحجارة، والآن هو المسالم الذي يحمل غصن الزيتون، التي لطالما اعتبرها الفلسطينيين خدعة ماكرة من احتلال غاصب. ويجعلنا هنا نتساءل، هل الظروف السياسية هي أكثر ما يؤثر على العقل الفلسطيني وبالتالي سلوكه؟ هل أصبح سهلا في الإقناع؟ بل كيف تحول إلى المسالم بعدما كان يرى أن القوة هي الوسيلة الوحيدة للتحرير؟ يجيب الفيلم عن هذه التساؤلات من خلال توثيق فترة الانتفاضة الثانية، التي أكدت زيف الوعود الإسرائيلية عام 2000. ملامح باهتة والحنين للماضي رغم من تطور التكنولوجي وتحسين جودة ملامح الصورة الملونة، فإن الراوي يعتقد أن الأبيض والأسود تعطي ملامح أجمل وأقوى، بل إن الناس الآن يعانون ملامح باهتة رغم حدة الصورة. ولا يخلو الفيلم من الحنين للماضي، والتغني بجماله وببساطته من خلال إظهار الحاج سلامة صاحب الإستوديو القديم، حيث تختصر الكاميرا حياة الحاج سلامة كلها، فقد انهمك في التصوير منذ سنة 1956 وحتى سنة 2002، الذي يتمنى أن التقاط صورة بالأسود والأبيض، ويضع فيها معالم البلاد، ويرسم فيها مطارا وميناء، وحدودا مفتوحة، وينورها في الليل. المصور الحاج سلامة (لقطة من الفيلم) بالنهاية، فيلم “إلى أبي” يلخص مراحل الظروف السياسية على الفلسطيني، ويشرح الوضع السياسي الذي أتى به، فلا بد من ذكر حصار قطاع غزة، وعن المشاكل السياسية بين الحركات الداخلية، التي جعلت من هذا كله تغير في ملامح الفلسطيني غزة، والذي أصبح يعيش في سجن كبير يأكله عند كل مرة يتكلم فيها ويصوره دوما، حتى باتت الصورة كابوسا له. الفلسطيني المكتئب رصدت السينما الفلسطينية تحولات شخصية الفلسطيني في العقد الأول للقرن الـ21 من خلال رؤيتنا لفيلم “ميناء في الذاكرة”، فلم يعد ذلك المقاوم الثائر، بل الإنسان الحزين والمكتئب من الوضع السياسي، الذي يشاهد السرقة بصمت خارجي ويخفي فوضى بائسة داخله، هل يشاهد نفسه يتلاشى ويُمحى من التاريخ؟ فالعالم الاستعماري لا يريده أن يحافظ على وجوده وكينونته، بل يريد أن يقدمه كمخرب للتاريخ الوهمي الذي يصنعه المستعمِر. إعلان ولا يوجد أفضل من المخرج كمال الجعفري في فيلمه “ميناء في الذاكرة” في عرض فلسطيني الداخل، الذي يسكن يافا ويرى كيف يسلب المستعمر مكانه وبيته وينهش مدينته، بل الأسوأ من ذلك هو تغيير معالم المدينة للأبد من خلال توسيع العمران ومحاولة بيع بيوت الفلسطينيين للمستعمرين. أخرج الجعفري الفيلم الروائي ميناء في الذاكرة عام 2010، الذي يهدف بشكل أساس محاربة الإنسان الفلسطيني في الحفاظ على بيته رغم إحباطه من الوحش العظيم في ابتلاع المدينة. يظهر الفلسطيني كمواطن لديه الحق في العيش بكرامة، لكن يستلزم شراء الأمان في أرضه، مع بحثه عن الأوراق الضائعة عن بيته التي تثبت أحقيته في البقاء، وكأن الجعفري لخص لنا القضية الفلسطينية في هذا البيت، الذي يتصارع عليه العالم ويحاول تقسيمه وتصغيره، ثم تقطيعه وطرد أهله منه، ووضع أغراب مكانه. يبين لنا الفلسطيني ارتباطه ببيته القديم، وأرضه العتيقة، وفي الوقت ذاته يظهر لنا بؤسه وطموحاته المدفونة، مع الرتابة والروتين الممل، وتكرار الحياة اليومية، من خلال إعادة مشاهد وتكرار الحديث والعمل اليومي، ليخرج لنا الجعفري في مدرسة سينمائية نوعية في عرضه للإنسان الفلسطيني. برع فيلم ميناء في الذاكرة في عرض شخصيات الفيلم البائسة، التي لا تضحك في ظل هذه الأوضاع، فقد يلعن الفلسطيني نفسه بأنه وُلد في مثل هذا المكان، إلا أنه لا يستطيع أن يتركه لمن كان السبب في ذلك. دفن التاريخ الفلسطيني يذكرنا الفيلم بمبدأ فرانز فانون في معضلة تاريخ البيت الضائع، أو الذي أضاعه المستعمِر، ليبدأ في مقولاته المشهورة “هذه الأرض نحن صنعناها.. فإذا ذهبنا زال كل شيء، وارتدت هذه الأرض إلى القرون الوسطى”، وكأنه يقول أقتلكم لأحيا أنا، فالسكان الأصليين أناس محتجزون، وليس التمييز العنصري إلا شكلا من أشكال الحجز في العالم الاستعماري، وهذا ما أظهره الفيلم. إذ لا يتجاوزون الحدود في تشكيل حياتهم، وعليهم أن يلزموا أماكنهم وإياهم أن يحلموا. أكثر المشاهد الصارخة لتزوير التاريخ هو الإسرائيلي الذي يقول “من صنعي وابتكاري”، وكأن المخرج يريد إيصال رسالة مهمة للعالم، وهو أن المستعمِر يغلف تاريخه الإجرامي بسرقة جمال المستعمَر. المدرك المجنون لطالما يواجه المدرك خطر الاكتئاب ثم خطر الجنون، وهو ما يظهره لنا الفيلم من شخص يضحك بشكل هستيري في أنحاء المدينة، بل يشهد كل تلك التغييرات ومحاولة إخفاء السكان الأصليين، حتى وقف يسخر بشدة من إقامة الحدائق والبنيان الشاهق على حساب قتل ودفن وتهجير شعب آخر.. فلم يكن يضحك هذا الشخص بشكل فعلي، وإنما موجات صراخ لسلب المكان ونهشه والحسرة على كل ماض. ولأن السينما والفن عالم متكامل، فقد ترى التشابه الكبير بين فيلم ميناء في الذاكرة وأغنية (شارع يافا- كلمات مجد كيال، غناء سليمان فرج) الذي برع في وصف مدينة يافا بشكل كامل وما يعانيه فلسطينيو الداخل في مواجهة الاستعمار لمحو الذاكرة والثقافة الفلسطينية. الفلسطيني الغارق هل يفسد الإنسان بفساد المجتمع؟ هل يحمل الإنسان في جعبته الخير والشر دوما؟ فيلم “عودة رجل، مهدي فليفل، 2016” 30 دقيقة وثائقية تخيفك عن حال الفلسطيني في مخيمات الشتات، ويجعلك تتساءل، إلى أين سيصل هذا الحال؟ يروي لنا فليفل قصة الشاب رضا، الذي حاول أن ينسلخ من مخيم عين الحلوة في لبنان إلى اليونان، ليكتسب الخبرة الحياتية والعيش بكرامة، إلا أنه لم يفلح في ذلك ورجع بشيء واحد مكتسب، وهو الإدمان على المخدرات. نرى وجها جديدا للفلسطيني اللاجئ الذي لا يعرف موطنه الأم، والذي ولد في مستنقع مخيمات اللاجئين في لبنان، المحاصر من جميع الجهات، إلا جهة واحدة يقف عندها الجيش اللبناني، فهو بؤرة إرهابية بالنسبة إلى الدولة. لا شيء إيجابيا في هذا الفلسطيني الغارق في أكثر الأعمال خطورة، والذي يقدم على الزواج أيضا، فإن الأكثر صعوبة هو أن ينتج مثل هذا النوع أطفالا في بيئة مثل بيئته، الذي يرى أن العيش في هذا المكان يستوجب حمل السلاح دوما، وأن يكون جزءا من تفريغ الغضب بغض النظر عن خطورته. هذا اللاجئ هو نفسه الذي تهجر أجداده من موطنهم، وهو نفسه الذي كان يجب أن يكون مكان المحتل الذي سلبه أكسجينه، وهو نفسه الذي أصبح الآن يعيش قسوة وعشوائية بيئية، سياسية أمنية وفكرية أيضا. انتهاء الفيلم بزواج رضا هو أكثر الأمور المقلقة عن الرؤية للأجيال القادمة، خاصة أنه يستخدم السلاح عند الغضب، بل والأكثر غرابة هو أن العيش هناك يجعلك تعتقد أن كل شيء “عادي”، لذا لم نر ردة فعل قوية من أهل رضا عن ابنهم. لم يخلُ الفيلم من مشاهد تناقضية بين رضا الذي يتعاطى في مطبخ العائلة، ووالده الذي يقيم الصلاة في الغرفة الثانية، الأمر الذي يجعلنا نفكر، هل نضع كل اللوم دوما على المحيط الذي نعيش به؟ أم أن هناك جزءا منا يقبل التماشي معه؟ Screenshot الفلسطيني الأسير في حالة أخرى للفلسطيني، من ذلك اللاجئ إلى الأسير المحرر، كيف يفكر هذا الفلسطيني في هويته بل في ظروف اعتقاله؟ يعرض لنا فيلم “اصطياد الأشباح، رائد أنضوني، 2016” واحدا من أكثر الفن إبداعا ليس في وصف الفلسطيني ونفسيته فحسب، بل بطريقة إخراجية وفنية تأخذك في عالم السجن المخيف، لتبدأ في فهم حال الفلسطيني المعتقل لدى الاحتلال. يجمع فيلم “اصطياد أشباح” مجموعة من الأسرى المحررين ويضعهم أمام مشروع يُتيح لهم فرصة خلق تجربة الأسر من جديد، إذ يهيئ لهم مساحة فيزيقية ونفسية تتسع السجن الذي كانوا داخله والسجن الذي في داخلهم (محاجنة، 2021). يبدأ الفيلم بتصوير التحضيرات لفكرة بناء السجن، مع تجسيد صورته الشكلية، واستقطاب الحالة النفسية. ثم يأخذ كل ممثل مشارك دورا من الأدوار الثلاثة: الأسير، المحقق، السجان. وتبقى هذه الأدوار ثابتة داخل المشروع لحين أن يطلب المخرج الوقوف أمام الكاميرا، عندها يراقب المشاهد تحولات الأسير محرر الممثل بين ما كان يتقمصه في الفيلم وبينه كإنسان يعرف هذه التجربة جيدا. إعادة إحياء السجن، هو بمثابة العيش فيه لنتخلص مما يعيش فينا، ليتجلى لنا في تجربة تتخلص منها الصدمة النفسية، الذي يخلقه السجن، ويؤكد لنا أنه ليس تعذيب جسدي فحسب، بل تلاعب نفسي قوي في ذهن الإنسان الفلسطيني، فإذا كانت الصدمة النفسية ذكريات مبعثرة غير متسلسلة، فتجاوزها يكون في إعادة بنائها وإكمال أحداثها ومشاعرها، من خلال تفريغها ومشاركتها. يهدف الفيلم إلى إعادة صياغة تجربة الماضي بطريقة محدثة، فالإنسان يسعى دوما إلى إغلاق الثغرات الشعورية المتخبط والمتناقض، لينتهي بالاتساق والثبات. ولا بد من ذكر أنه يظهر ما يتعرض له الأسير الفلسطيني في سجون الاحتلال من ظروف تعذيبية جسدية ونفسية. لعل العمق في هذا الفيلم يأتي من تأثر المخرج كونه سُجن في المسكوبية، فلم يكن فقط يريد أن يخرج فيلما عاديا بل يعطي كل شيء في داخله، لا سيما تجربة بناء السجن والعيش فيها، لتصبح إنجازا للأسرى ونيلهم من هواجسهم في السجن. الفلسطيني الذي لا ينسى فيلم “عمواس، ديمة أبو غوش، 2016” هو خير مثال على جمع ذكريات الماضي، وتجسيد التاريخ الفلسطيني من خلال مجسم لقرية عمواس المهجرة في حرب 1967. “هل للذاكرة هذه القوة فعلا؟ كيف يمكن تحويل الذاكرة لسلاح؟ من المعلوم أن السلاح هو وسيلة تستخدمه أطراف متصارعة لتحقيق غاية، نقول إذا، يستخدم الطرف الفلسطيني الذاكرة في مواجهة الطرف الإسرائيلي. الذاكرة هي وسيلة للفوز بالصراع، تحقيقا لغاية “التحرر”. تتحدد الغايات والوسائل في بناء فكري فريد، لتشكل منظومة جدلية من الفكرة والموضوع. ما هذا الشكل الفكري؟ وكيف تتداخل الذاكرة فيه كونها من وسائله؟ إن هذا الشكل في حقيقته علاقة بين فكر الإنسان وكيفية عمل المجتمع، وحينما وُجدت مثل هكذا علاقة يستخدم مفهوم الأيديولوجيا بمعاني مختلفة” (Drucker 1972, 152). يحكي الفيلم عن علاقة ديمة مع قريتها عمواس، حيث تفتتح الفيلم بعبارة “سيرتي هي ذاكرتي”، وليس ذاكرتها فحسب، بل ذاكرة أهل القرية التي يتم استحضارها من خلال زياراتهم لأراضي قريتهم، التي تم فيها دفن المكان وذاكرته واسمه من الاحتلال الإسرائيلي، وأنشأ متنزه كندا البيئي على أنقاضها. عملية استعادة الذاكرة الذي يدور الفيلم حولها ليست ثابتة، بل تكون في أطر اجتماعية، فإن الماضي لا يحفظ بل يعاد تشكيله وإنتاجه على أسس الحاضر. وهذا ما يقوم عليه أهل القرية في فيلم عمواس، الذين يسترجعون ذاكرتهم لبناء المجسم للقرية. Screenshot مر الإنسان الفلسطيني بالعديد من الصدمات منها النكبة والنكسة والانتفاضات، والأحداث المتكررة من قتل وتعذيب واعتقالات، كلها تجعل الإحباط الشخصي والجمعي موجودا بقوة في المجتمع، لذلك يتطلب أن يعيد بناء تصوره عن نفسه وعلاقته بأرضه والآخرين. ورغم أن أهالي قرية عمواس يعلمون جيدا أن بيوتهم مدمرة ومهجرة وغير معترف بتاريخ قريتهم، فإنهم يحيون المجسم وينظمون المسيرات دوما ويزورون “المتنزه” وهي قريتهم. إن هذه الرغبة في العودة ليست حقيقية، بل هي قناع يخفي آلام اليومية، هي قناع أيديولوجي تستفيد منه إسرائيل، فالرغبة بالعودة (العودة إلى الحالة الأصيلة لما قبل الاستعمار) غير ممكنة. الميزة التي يعرضها الفيلم هي رواية الجانب الإسرائيلي عن قرية عمواس، الذين أكدوا أنها قرية كاملة تم تهجير وتنكيل أهلها لبناء حديقة بيئية، ليجعلنا نتساءل عن ازدواجية مفاهيم المستعمر. يعد هذا الفيلم أيديولوجيا بامتياز، فهو يتحدث بشكل صارخ عن حاجات المجتمع الفلسطيني وطريقة فكره، بل يصوره دوما بحنينه للماضي ويؤكد ارتباط الإنسان الفلسطيني بأرضه، وأنه لا ينسى مهما طال الزمن أن هذا الوطن له. الصفة المشتركة بين الأفلام الفلسطينية بعد الإجابة عن كيفية رصد السينما الفلسطينية للشخص الفلسطيني المتعدد الحالات، فإننا نرى الصفة المشتركة بين غالبية الأفلام. نستنتج أن لكل مخرج رؤيته وزاويته الخاصة في عرض كينونته الفلسطينية، ويختلف باختلاف الزمان والمكان وفلسفته الفكرية، فأفلام الثورة ليست كالأفلام المعاصرة، وفيلم عودة رجل ليس كفيلم اصطياد الأشباح. فرغم أننا رأينا المقاوم والمفاوض والمكتئب والغارق والمصدوم، فإننا نتفق جميعا على أن الأيديولوجيا الفلسطينية مرتكزة على الماضي بشكل كبير ومتزايد، لذلك نشاهد دوما الحنين للماضي والذكريات والارتباط بالأرض والهوية. المصدر : الجزيرة 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post مهى سلطان تكتب عن: تجارب حروفية بين النحت والفلسفة في معرض “تناص” next post مخاوف من نقل روسيا أسلحتها في سوريا إلى ليبيا You may also like سجالات بيرانديللو المسرحية الأخروية عند بوابة المقبرة 18 ديسمبر، 2024 في سبعين رحيله… ستيغ داغرمان طفل الأدب السويدي... 18 ديسمبر، 2024 محمود الزيباوي يكتب عن: حُلي من مدافن البحرين... 18 ديسمبر، 2024 الباليه الفرنسي الذي انتظر 60 عاما ليوقظه الحريق 18 ديسمبر، 2024 (23) ممثلا كرهوا أفلاما قاموا ببطولتها 18 ديسمبر، 2024 استعادة فرنسية لإرث ابن خلدون المغاربي في سياقه التاريخي... 17 ديسمبر، 2024 “المجلة” تنشر وثائق عن رسائل من إسرائيل إلى... 17 ديسمبر، 2024 فيصل دراج يكتب سيرة الذات والجماعة في “كأن... 17 ديسمبر، 2024 ما الذي بقي من إرث المسلمين الأفارقة في... 17 ديسمبر، 2024 “الطاولة السوداء”: حوار الألوان والتناقض في رؤية ماتيس 17 ديسمبر، 2024