جوزيف دي ميتر (الموسوعة البريطانية) ثقافة و فنون مفكر فرنسي يقود معركة إسقاط ثورة بلاده انطلاقا من موسكو by admin 18 أكتوبر، 2024 written by admin 18 أكتوبر، 2024 30 جوزيف دي ميتر يتخيل اجتماعات عاصفة في سانت بطرسبرغ غايتها إسقاط الفكر التنويري اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب هو بالتأكيد واحد من غلاة المفكرين الفرنسيين المعتبرين حتى اليوم، وبعد أكثر من قرنين مرّا على وفاته فهو النموذج الأكثر ضراوة في التصدي لكل فكر تقدمي وتنويري في تاريخ الأزمنة الأقرب الينا. اسمه جوزيف دي ميتر، وهو قاد معركته الكبرى التي شجعت كثراً من أمثاله على السير على خطاه، منطلقاً من العاصمة الروسية موسكو التي كان منفيا فيها خلال المرحلة المفصلية بين القرنين الـ 18 والـ 19، المرحلة التي رسمت خلالها الحدود الفاصلة بين التقدم والتخلف في التاريخ الإنساني، وكان هو في مقدم دعاة التخلف ولو على الورق، وكان لسان حاله يقول بكل وضوح ما لم يجرؤ كثر من الكتاب على قوله، “إن لمن الضرورة بمكان خنق فكر القرن الـ 18 بأكمله”. فلسفة رجعية كان واضحاً أن ذلك الفيلسوف المؤيد لكل ما كان يعتبر رجعياً في العالم، ولا سيما في بلاده الفرنسية، عاملاً ضد ثورتها انطلاقاً من منفاه الروسي، كان يعني بالفكر الذي يدعو إلى وأده، الفكر الثوري والإصلاحي الذي هيمن على تلك الأزمنة، وكان اندلاع الثورة الفرنسية من نتائجه المباشرة، وهو في معرض تفسيره لهذا القول واستكماله كان لا يتوانى عن القول، وهو المعروف بكونه من أبرز وأجرأ الوجوه التي عارضت فلسفة التنوير، إن البديل عن ذلك كله لا يمكن أن يكون سوى الإيمان بوجود نظام فوق طبيعي، هو نظام “حكومة العناية الإلهية المطلقة”، مستطرداً أن الثورة “لا يمكنها إلا أن تكون مضرة ومدمرة فهي من فعل الشيطان”، ولذلك تتعين مجابهتها بكل قوة. غير أن هذا القول لم يمنع دي ميتر من التأكيد في مجال آخر على أن الثورة تخضع مع ذلك، وفي عمق الأمور، لخطة رسمتها تلك العناية الإلهية نفسها. “ليالي سانت بطرسبرغ” في طبعة صادرة عام 1821 (أمازون) يد إلهية وقدم ذلك المفكر كدليل على ذلك حقيقة أن من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تفسير الثورة تفسيراً بشرياً، إذ إن الرجال الذين بدوا وكأنهم يواجهونها كانوا في الواقع موجهين بدورهم من جانب من يجب اعتباره قائد أوركسترا خفياً وهو العناية الإلهية، وإذا كان هذا “الواقع يبدي لنا أن الخالق هو الذي يحكم كل شيء، فإن ما لا ينبغي أن يغيب عن بالنا هو أن الخالق نفسه هو الذي يسير ويبني على المدى البعيد، وبالتالي إذا كانت العناية الإلهية قد أوقعت بفرنسا ذلك العقاب الحتمي فإنها لم تفعل ذلك إلا كي تذكرنا بضرورة العودة للقيم المسيحية”. ولكن ما هي يا ترى الأخطاء التي وقعت فيها فرنسا لكي تستحق هذا الدمار وبالتالي هذا التذكير؟ يتساءل دي ميتر قبل أن يجيب أنها “الخفة وانحلال الأخلاق آخر العهد الملكي القديم بكل تأكيد، ولكن كذلك السعي المحموم إلى الحصول على دستور مكتوب، مما يفترض أن الدستور يمكن أن يكون صالحاً في كل الأزمنة والأمكنة وللناس جميعاً، بعض النظر عن وسطهم الاجتماعي أو عن تاريخهم”، فهل يا ترى يذكرنا هذا الكلام الذي دائماً ما هوجم في فرنسا وغيرها على اعتبار أنه في قمة الرجعية ولا علاقة له بالعصر، بشيء؟ أهوال الثورة المهم في الأمر أن دي ميتر إنما كتب هذا الكلام بصفته، ووفقاً لكاتبي سيرته الكثر، واحداً من أولئك المفكرين الذين عاشوا أهوال الثورة لا حمايتها، فتبدت لديهم حال انطفاء شعلتها الأولى مشاهد هدامة مرعبة من صنع حثالة بشرية فقدت تواصلها مع العناية الإلهية، وهذه الأفكار عبر عنها دي ميتر طوال النصف الثاني من حياته في كثير من نصوص جمعها أو جُمعت من بعد رحيله في كتب، كما أنه وضع هو بنفسه كتابات لخصها لاحقاً في صورة شديدة الوضوح، حتى وإن كان لا يخلو من تساؤلات حائرة. ويتجلى ذلك بخاصة في ذلك الكتاب المكثف والمفاجئ الذي أنجزه خلال الأعوام الأخيرة من حياته، لكنه لم ينشر الا بعد موته بشهور، وهو على أية حال كتابه الرئيس “ليالي سانت بطرسبرغ” الذي يسجل حوارات من المرجح أنها لم تدر قط، بل كانت حوارات وهمية قصد الكاتب من خلالها تعميم أفكاره على تلك الطريقة التي كانت مألوفة. ومن المفترض أن الحوارات تدور خلال بعض الليالي البيض في مدينة الشمال الروسي بين دي ميتر نفسه الذي كان يشغل ذلك الحين منصب سفير ملك سردينيا الإيطالي عمانوئيل الأول لدى البلاط الروسي، وصديقين له أولهما عضو في مجلس الشيوخ التابع لذلك البلاط نفسه، والثاني فارس فرنسي مقيم بدوره في الديار الروسية. لقاءات لا تحصى يحدثنا الكتاب عن لقاءات تكاد لا تنتهي تعقد في دارة تقع غرب العاصمة الروسية موسكو على ضفة نهر النيفا، وتدور حول كثير من الأمور السياسية والفكرية والدينية، ومن البديهي هنا أن دي ميتر، باعتباره واضع الكتاب، يعطي على طول صفحاته الحق لنفسه دائماً في أن تبدو أفكاره الأكثر صواباً باعتراف محاوريه، ولا سيما حين يؤكد أن “حياة الشعوب ينبغي أن ترتكز بصورة متواصلة لا لبس فيها ولا غموض على سلطة الملك وعنايته، ومن ثم إلى سلطة الكنيسة”، وذلك بالتعارض التام مع كل ما أتت به أفكار عصر التنوير، مما يجعل من فكرانية هذا الكتاب متعارضة كلياً مع “كل ما يزعمه فولتير”. ومن ثم لم يكن غريباً أن يطلق دي ميتر ذات لحظة في ثنايا الكتاب عبارة باتت شهيرة تقول “رباه كم ألحقت أفكار العلوم الطبيعية من ضرر ببني الإنسان؟”. في نظر دي ميتر لا شك في أن تلك العلوم “المادية والماكرة” قد كلفت الإنسان نكران كل ما هو خارق في الطبيعة، وفي ركابه محمل الحياة الدينية التي ما هي إلا تواصل الإنسان مع الدائرة العليا، الما فوق إنسانية. موقف برهييه وفي هذا السياق يقرأ مؤرخ الفلسفة الفرنسي إميل برهييه الأمر قائلاً إن “دي ميتر يرى أن مبتدعي فكر القرن الـ 18 اللذين تسببا في أذية الإنسان إنما هما بيكون ولوك اللذين يوجه لهما بالتالي انتقاداته في ‘ليالي سانت بطرسبرغ’ بقدر ما يوجهها إلى فولتير أو حتى إلى ديدرو، ومن هنا نجده في معرض رده على نزعتهما التجريبية يعود للإشادة بالمذهب الفكري الديكارتي”. وفي هذا الإطار يرى دي ميتر، بحسب برهييه، أن كل موجود فاعل إنما يمارس فعله في الدائرة المرسومة له من دون أن يمكنه تجاوزها، أما النتيجة الحتمية التي تنتج من هذا الواقع فتنتمي إلى نوع من مذهب فطري يشترط المزج بين فطرة الفكر وفطرة الغريزة، ذلك أن دعوة ثبات الأنواع ترتبط بالغريزة التي لا يمكنها الخروج عن ثباتها، “فإذا كان مقدراً للنوع الإنساني أن تكون له هو الآخر رتبة ما تسمو به عن باقي المخلوقات والموجودات، فلا بد من أن يكون له عقل يكون هو خاصيته المميزة، موسوماً بضرب من الغريزة الخالق لأفكاره الفطرية”. خلاصة دي ميتر على هذا الأساس يخلص دي ميتر في الصفحات الأخيرة من كتابه إلى أنه “ليس ثمة علل في المادة، وأتقياء الناس هم وحدهم الذين يريدون ويستطيعون الخروج من أسرِّ المادة لهم”، ومن هنا يفتي دي ميتر بأن الصلاة قد لا تقل في فعاليتها عن واقية الصواعق، وبفضل تراكم العلل الثانية مع الفعل الأعلى فقد لا يكون حقل الممكن محدوداً، وهو باب يبدو دائماً مشرعاً على الخيال لكل ضروبه من الحلم التنبؤي إلى فعل الأضرار بالعدو عن بعد. ويرى برهييه هنا أن نوعاً من اللاأدرية المشتقة عن نيوتن هو الذي جعل رد فعل دي ميتر ضد الفلاسفة ممكناً، وبقي أن نذكر أن دي ميتر ولد عام 1753 ومات عام 1821 وأمضى حياته غائصاً في مجالات الفكر الرجعي، بل إنه حين عاد لفرنسا في نهاية الأمر كانت له إسهامات حادة إلى جانب أنصار عودة الملكية، وأصدر كتباً عدة في الدفاع عن الباباوية ومحاكم التفتيش الإسبانية، مما عزز سمعته كقمة في التفكير الغيبي الرجعي. المزيد عن: الثورة الفرنسيةجوزيف دي ميترفلسفة التنويرجزيرة سردينياعمانوئيل الأول 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post فيلم “كاري” دي بالما أعاد تعريف الرعب وأوصل مخرجه للعالمية next post بول أوستر يواجه معضلة الهوية ووحشة أميركا You may also like المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 عبده وازن يكتب عن: فيروز تطفئ شمعة التسعين... 21 نوفمبر، 2024 “موجز تاريخ الحرب” كما يسطره المؤرخ العسكري غوين... 21 نوفمبر، 2024 فيلم “مدنية” يوثق دور الفن السوداني في استعادة... 21 نوفمبر، 2024 البلغة الغدامسية حرفة مهددة بالاندثار في ليبيا 21 نوفمبر، 2024 من هي إيزابيلا بيتون أشهر مؤثرات العصر الفيكتوري؟ 21 نوفمبر، 2024