الشاعر المصري الراحل محمد عفيفي مطر (هيئة الكتاب) ثقافة و فنون محمد عفيفي مطر شاعر المجهول الذي غنى عزلة ما بعد الرحيل by admin 15 مارس، 2024 written by admin 15 مارس، 2024 193 شريف قنديل يضيء جوانب خفية من مسيرة المبدع المصري وتجربته الأدبية والفلسفية اندبندنت عربية / شريف الشافعي كاتب وصحافي لا تنثني تجربة الشاعر المصري محمد عفيفي مطر (1935-2010) عن فتح نوافذ الأسئلة، وإطلاق الشغف المعرفي، وإثارة الإشكالات، حتى لحظتنا الراهنة، التي يطرح فيها سؤال أيضاً عن أثره في كتابة الأجيال الشعرية الحالية، التي راحت تبتعد كثيراً عن مداراته. وهذه الأمور كلها قد اقترنت طويلاً بالشاعر المصري في حياته المشحونة بالقصائد والفلسفة والمعارضة السياسية والاغتراب والسجن والإحساس بالظلم النقدي والتجاهل من الوسط الثقافي: “أنا طفل/ وأعلم أنني طفل/ وعشتُ بقريتى خمساً وعشريناً/ أسامر كوكباً في الغيم مسجوناً/ وأعلم أنني سأعيش أصغر شاعر/ وأموت مجهولاً ومغبوناً”. وتنبع الجدلية المحورية في كتابات عفيفي مطر المراوغة العميقة من كون هذه الكتابات قد لا تصل إلى متلقيها بسهولة، فهي مكابدات قروية معجونة بخميرة البيئة المحلية الملموسة، وتفاعلاتها النشطة، من جهة. وفي الوقت نفسه، هي توجّعات صوفية روحانية، وإشارات ذهنية محمّلة بالتراثي والمعرفي من الثقافة العربية، الرسمية والهامشية، والأساطير اليونانية، وسائر الحضارات والديانات التي عرفتها البشرية. وفي هذه التوليفة المركّبة الثرية، تتوالد المجازات والالتواءات، وتتعدد التأويلات، وتتأجل المعاني النهائية، وتتدفق الصور والإيقاعات الموسيقية المتنوعة في غابة كثيفة متشابكة: “أنا الخطى، وفي دمي الطريق/ أنا الذي تزرعه الكتابة/ في الريح أو تطرحه في القشر/ منطفئاً وساقطاً في نفسه/ وضارباً جبهته في الصخر/ كي يفتح المجهول فى مملكة الأشياء/ الحائط المقام دون وجهه والقبر”. الكتاب الذي يتناول تجربته (دار الحكمة) ومن هنا، فقد يصير “الغموض” تهمة جاهزة، يلصقها بالشاعر باستمرار أولئك الذين لا يقوون على فك شفرات النص الاستثنائي، الأقرب من أصابع اليد في أحد تمثلاته، والأبعد من قارّة مجهولة، لم تُكتشف بعد، في تجسّداته الأخرى. وتلك هي المعادلة الصعبة التي يراهن عليها محمد عفيفي مطر، والتي يمكن تبسيطها بالقول إنه شاعر الوجوه الصريحة الواضحة، وشاعر الأقنعة التي لا يمكن نزعها، في الآن ذاته. إن صاحب “والنهر يلبس الأقنعة” و”ملامح الوجه الأنبادوقليسي” و”من دفتر الصمت” و”الجوع والقمر” و”كتاب الأرض والدم” و”شهادة البكاء في زمن الضحك” وأنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت” و”رباعية الفرح” و”احتفاليات المومياء المتوحشة” وغيرها من الدواوين، يوازن بين فضح الذات الحقيقية على نحو مباشر، والتخفي خلف الرموز والأيقونات والأماثيل، لا سيما المستقاة من الخلفيات التاريخية والشعبية في أزمنة يتعذر الارتداد إليها “يا زمناً قد مر علينا، لو كنت تعود/ وتذيب ثلوجاً، وتعيد حكاية أهداب سود/ كنا نهواها، ننظر فيها سحر الإنسان/ وحلاوة عشق سكران/ ونداوة غيطان القرية/ لكنك، يا زمناً قد مر، زجاج مكسور/ ثلج، وشراع أعمته الريح الصفراء”. ومن هنا، فلعلها جرأة تصل إلى المغامرة أن يُصدر الكاتب والباحث المصري شريف قنديل كتابه الجديد تحت عنوان “نزع الأقنعة عن محمد عفيفي مطر… الرجل الذي خاف أن يخاف” (القاهرة، مجموعة بيت الحكمة للثقافة). والتحدي في هذه القراءة التي أنجزها شريف قنديل، شقيق زوجة عفيفي مطر، الناقدة الراحلة نفيسة قنديل، مبعثه فكرة نزع الأقنعة نفسها، عن شاعر أراد للكثير من قصائده وآرائه ومعتقداته الفلسفية وصوره وتخييلاته وتعبيراته اللغوية أن تتحرك على مسرح الدهشة الإبداعي وهي ترتدي الأقنعة، فكيف يتأتى للباحث نزعها بعد رحيل الشاعر بأربعة عشر عاماً؟ لعبة الاحتمالات من أعماله الشعرية (الهيئة المصرية) إن شريف قنديل لا يهدف إلى تعرية نقدية تضع كتابات عفيفي مطر تحت مجهر التفسير، خصوصاً أنه أثبت على غلاف الكتاب الخلفي كلمة موجزة للناقدة نفيسة قنديل، زوجة مطر، تؤكد خلالها ذلك الارتباط الوثيق بين نصوص مطر والاحتمالات المفتوحة في الكون اللانهائي، حيث تقول “عايشتُ قصائد محمد عفيفي مطر وعايشتني، تنطفئ وتتوهج، تحضر وتغيب، تصلني بما لم أستطع أن أسمّيه من غموض العالم واستراره، في غابات الروح التي لم أمتلك كشفها”. إن قنديل، وهو القريب من مطر، يدرك جيداً لعبة الاحتمالات في تجربته الإبداعية، وهي لعبة لا تكتمل في أحوال كثيرة سوى بارتداء الأقنعة. ولقد نقل قنديل في كتابه عن عفيفي مطر نفسه مقولته عن شعره “أنا أكتب الشعر كما أعرفه، وكما أحب أن أكتبه، وغيري يكتبه كما يعرفه ويحبه، والناس ينتقلون بين هذا وذاك. ولست مولعاً بأن تهيمن مدرستي على الشعر، وقصيدتي يقبل عليها من يغويه التناول الصعب… والخلاصة أن شعري صعب، وأن قرّاءه أقل، وغيري يكتب شعراً سهلاً، وقراؤه أكثر”. كما يرد على لسان مطر في موضع آخر من الكتاب “إن جلال الغموض هو الضوء الوحيد الباقي للكشف وسبر الأغوار وتقدم الروح وقداسة الفن”. أما الذي يقصده قنديل بنزع الأقنعة، فهو ببساطة ذلك السعي البريء، غير الممنهج، إلى إضاءة جوانب خفية ومشاهد ومواقف دالة من حياة عفيفي مطر وتجربته الأدبية والفلسفية والإنسانية. فبحكم المصاهرة، أتيحت لقنديل فرصة الاقتراب من مطر لسنوات طويلة، منذ كان شريف قنديل طفلاً صغيراً، وصولاً إلى الأيام الأخيرة في حياة الشاعر الفيلسوف. ولقد لمس قنديل عن قُرب شخصية عفيفي مطر، وعاصر الأحداث المهمة في مسيرته، ومنها الفترة التي قضاها مُدرّساً في محافظة كفر الشيخ، حيث أصدر مجلة “سنابل” الأدبية التي احتضنت الأصوات الجديدة آنذاك في ختام الستينيات وبداية السبعينيات. وأيضاً الفترة التي رحل فيها مطر إلى العراق في نهاية السبعينيات، لاعتراضه على معاهدة كامب ديفيد والسياسات التي اتبعها الرئيس السادات وآثارها الاجتماعية والاقتصادية، وهي المرحلة التي أسفرت عن صدور ديوانه “أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت”. كما عاصر قنديل معارضة عفيفي مطر الموقف المصري في أثناء حرب الخليج الثانية عام 1991، حيث اشترك الشاعر في تظاهرة للاحتجاج على هجوم قوات التحالف على العراق، وتعرض بعدها للاعتقال والتعذيب الوحشي في السجن، وهي التجربة الدامية التي أسفرت عن ديوانه “احتفاليات المومياء المتوحشة”. نقاط هشة لرسم بورتريه هي مجموعة نقاط كثيرة مبعثرة يسعى الكاتب شريف قنديل في كتابه إلى لملمتها من دفتر معايشته الشخصية لعفيفي مطر، شاعر الأرض والطمي، وذكرياته معه في البيت والحقل والمنفى خارج مصر، من أجل محاولة رسم بورتريه للأديب والفيلسوف والإنسان، الذي يشكّل مثلاً أعلى للكاتب في كل شيء “شيئاً فشيئاً بدأتُ في تقليد مطر، فأطلقتُ شَعري منكوشاً، ورجوت أختي أن تسمح لي بخياطة بنطلون شارلستون، طالما نحن في كفر الشيخ، بعيداً عن عيون أبي في المنوفية!”. كما يتضمن الكتاب مجموعة من آراء مطر وأفكاره، وبعض حوارات معه وكتابات عنه غير منشورة من قبل، ومقتبسات بارزة من مقولاته وتصريحاته، إلى جانب عدة نصوص مكثفة له في الفلسفة والحكمة، وإهداءاته كتبه إلى المقرّبين منه، وأسطر من أوراقه الخاصة، وغيرها من الومضات التي تضفي بريقاً على البورتريه المرسوم بعفوية وطفولية وهشاشة، للشاعر الجادّ المحبّ للأقنعة والمجازات وتدوير الكلمات “تحجرتُ وارتعدت مفاصلي، من خوف أن أخاف!”. وهذا السطر “تحجرتُ وارتعدتْ مفاصلي، من خوف أن أخاف”، المقترن بتجربة الاعتقال، يكشف النقاب عنه شريف قنديل في البورتريه الذي يرسمه لعفيفي مطر، حيث يستدعي من أوراق مطر مقولته “هو سطر قديم لي، وقد تعدد هذا التعبير بطرق مختلفة على مدار العمر، وبالأخص في تجربة التعرض للتعذيب. وكنتُ في حال من الهلع المميت من أن يغلبني الخوف فأسقط أمام نفسي. وقد لجأتُ إلى ميكانيزمات الإفلات بالتذكر وبالخيال من ظلمات الزنزانة وظلمات العصابة المعقودة على عيني وظلمات النفوس المريضة التي تستمرئ تعذيب البشر، إلى عوالم الضوء ووهج الألوان في لوحات الفنانين الذين أحبهم”. ومن النقاط التي تضيء بورتريه مطر أيضاً، الذي يرسمه صهره المقرّب، ما يتعلق بإحساس الشاعر بالغبن والظلم وعدم التقدير، حيث نقل قنديل على لسانه “لم أشتغل عند شعري نافخ أبواق أو مدير دعاية وإعلان أو خبير تسويق. ولأنني لم أكن على علاقة خضوع أو مسايرة أو تواطؤ مع أي جماعة من جماعات توظيف الشعر وتدجين الشاعر، ظللتُ بعيداً، أحتمي بقدرتي على الاستغناء، وتكثيف وتركيز الكدح في خدمة السيد الوحيد الذي يلزمني، ويملي عليَّ طاعته، الشعر”. ويُذكر أن محمد عفيفي مطر قد حصل من وزارة الثقافة المصرية على جائزتي الدولة “التشجيعية” و”التقديرية”، كما فاز بجائزة “سلطان العويس” الإماراتية، وجائزة “كفافيس” اليونانية، وصدرت أعماله الكاملة عن دار الشروق في القاهرة عام 2000. الخطاب المخلخل وأثره لقد أتى محمد عفيفي مطر، في مجمل دواوينه الحداثية الطليعية، بالخطاب المخلخل، المختلف عن السائد في مرحلة الستينيات من القرن الماضي. وعلى رغم أنه نشر دواوينه الأولى خارج مصر، في بيروت وبغداد وطرابلس الغرب، وعلى رغم أنها قد تأخر وصولها إلى مصر نسبيّاً، فإن جيل السبعينيات من الشعراء المصريين من أمثال رفعت سلام وحلمي سالم وعبدالمنعم رمضان وحسن طلب وأمجد ريان ومحمود نسيم ووليد منير ومحمد سليمان وأحمد طه وعبدالمقصود عبدالكريم ومحمد عيد إبراهيم وغيرهم، يسمّون بالإجماع محمد عفيفي مطر “أباً روحيّاً” لتجاربهم المغايرة، التي تبلورت في جماعتي “أصوات” و”إضاءة 77″ على وجه الخصوص. وقدّم السبعينيون تحت مظلة عفيفي مطر انزياحات لغوية وبيانية وجمالية للقصيدة الجديدة، التي أفلتت من قبضة القضايا الكبرى المركزية والمقولات العليا والنبرة الحماسية التي هيمنت على حقبة الستينيات قبل هزيمة يونيو (حزيران) 1967. واستغرقت قصيدة السبعينيين في أزمات الذات وعذاباتها الداخلية والفلسفية، واتسمت بتعدد الأصوات وتنوع الإيقاعات الموسيقية وتشابكها وزخم الصور وهيمنة المجازات والإسقاطات التراثية والتاريخية وتعدد المعاني والتأويلات وإهدار فكرة التلقي الجماعي، إلى جانب الحرص على التشكيل البصري للأسطر الشعرية في فضاء الصفحات، ما أوصلها إلى قدر من الإلغاز وفقدان التواصل مع الذائقة الشعرية الدارجة. واستمرت هذه الصيحة الداعية إلى نخبوية الشعر وانغلاق المعاني في حقبة الثمانينيات أيضاً، التي شهدت استنساخات أقل قيمة وأقل جدية في التعاطي الموهوب مع جوهر الشعر وجمرته الأصيلة. إلى أن بدأت القصيدة الجديدة في الانسلاخ الكلي من هذه المفاهيم، والتبدل الجذري شكلاً ومضموناً وإيقاعاً، وذلك بظهور حركة قصيدة النثر في التسعينيات، وما بعدها من أجيال وموجات لهذه القصيدة خلال القرن الحالي، حتى اللحظة الراهنة. وتنطلق قصيدة النثر، التي تحقق لها الحضور الأوسع في المشهد الشعري، من مفاهيم تبدو مناقضة لجماليات السبعينيين الفخمة وأبوّتهم المطرية العارمة. فهي قصيدة الحساسية الشفيفة الهامسة، واللقطات الحياتية القريبة، والاشتباك الفردي البسيط رؤية ولغة وإيقاعاً مع المواقف العابرة والأحداث الهامشية. وهي تصنع قاموسها المرهف من مادة الكلام الاعتيادي، وتؤسس فلسفتها من خلال المفارقة والتناقضات والقطيعة مع النظريات الجاهزة والمقولات الموروثة. وهي قصيدة التقاء وتفاعل حميم مع الآخر/ الصديق في كل مكان، عبر المشترك الإنساني الذي يتجاوز الاختلافات ويتخطى الظروف النسبية والوقائع الزائلة. المزيد عن: شاعر مصريالبعد الفلسفيالقصيدة الحديثةالتفعيلةقصيدة النثرالجيل الجديداللغةالتعبيرية 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post 11 باحثا وضعوا تاريخا شاملا للقاهرة مدينة وعمرانا next post COVID-19 : six recours collectifs contre des foyers pour aînés iront de l’avant You may also like بول شاوول يكتب عن: أمير القصة العربية يوسف... 25 ديسمبر، 2024 محمد أبي سمرا يكتب عن.. جولان حاجي: الكتابة... 25 ديسمبر، 2024 (20 رواية) تصدّرت المشهد الأدبي العربي في 2024 25 ديسمبر، 2024 “الحياة الفاوستية” رحلة في عوالم غوته السرية 25 ديسمبر، 2024 “أن تملك أو لا تملك” تلك هي قضية... 25 ديسمبر، 2024 أضواء جديدة على مسار فيكتور هوغو السياسي المتقلب 24 ديسمبر، 2024 صبحي حديدي يقارب شعر محمود درويش بشموليته 24 ديسمبر، 2024 الثنائي هتلر – ستالين في ما هو أبعد... 24 ديسمبر، 2024 رحيل محمد الخلفي الممثل الرائد الذي لم ينل... 24 ديسمبر، 2024 كاتب مسلسل “يلوستون” أبدع قصة ويسترن معاصرة وصنع... 24 ديسمبر، 2024