مجدلونا في الثلاثينات، رسم أبو سليمان ثقافة و فنون محمد أبي سمرا يكتب عن: المقبرة اللبنانية في سيرة رسام لبناني-هولندي by admin 2 سبتمبر، 2024 written by admin 2 سبتمبر، 2024 118 عن جهاد أبو سليمان الذي صار اسمه جاد سليمان مجلة المجلة / محمد أبي سمرا “أنا إنسان مجروح. لكنني أنفرُ من التفجع والندب. يستهويني تحويل الجراح ملاحمَ مأسوية أو تراجيدية، كما في المسرح الإغريقي الذي تطربني فيه مشاهد النائحات وأدوارهن. وفي التوراة تستهويني مناجاة الله الخانقة، وكذلك مأساة أيوب. نعم هذا ما يسرُّني ويشدني ويبلسم جراحي، أكثر بكثير من ترانيم البهجة والفرح. لكنني متمرد على الموت. وأحسب أن كل إنسان يخلق أعمالا فنية، في الأدب والموسيقى والرسم، متمردٌ على الموت الذي يسري في نسيج الحياة. ولولا الموت لا معنى للفن. أما الخلود فيجعل الحياة ثقيلة لا تُحتمل. لا، لا أرغب العيش في جنّة، رغم أنني عشتُ طفولتي كأنني كنت في جنة. وحياتي الأسرية هي مصدر تلك السعادة في طفولتي. أنا من ولدتُ في لبنان سنة 1953. وتحديدا في الشياح، في نهاية شارع أسعد الأسعد، المتصل بشارع آخر في عين الرمانة التي وقعتْ فيها تلك المجزرة التي سُميت باسمها. وبها افتُتِحت حروب لبنان سنة 1975، والتي لا أزال أجرُّ ويجرُّ اللبنانيون جميعا أثقالها حتى اليوم”. جهاد أبو سليمان ووديع سعادة بهذه العبارات افتتح الفنان التشكيلي اللبناني- الهولندي جهاد أبو سليمان تعريفه بنفسه، في مستهل لقائنا في “كافيه أميركان” بأمستردام. والمأساة التي يجرّ أثقالها هي قتل والده في أواسط الثمانينات، واختفاء جثته، في واحدة من مقاتل تلك الحروب بعد فراره من قريته الشوفيّة بجبل لبنان، شرق مدينة صيدا: مجدلونا التي هَجَرَها أهلُها المسيحيون خائفين من الثارات والانتقام والقتل على الهوية الطائفية. وكانت قد مضت آنذاك 9 سنوات على إقامة ابن القتيل في باريس، ثم في أمستردام، محترفا فن الرسم، ودارسا تاريخ الفن وفلسفته، عندما تحول والده خبرا قرأه في جريدة لبنانية بأمستردام: “شخصان قتلا على الهوية بين جون ودير المخلص”. فإذا بتلك الحادثة تنعطف بحياة وبمصير ابن القتيل المختفية جثته، انعطافا تراجيديا ملحميا يلازمه حتى اليوم. وإذا بلبنان كله يتحول عنده إلى مقبرة. وهو عشق التردد إلى مقابر باريس وأمستردام متمشيا في هدأتها الباعثة على العزاء. قد تشبه هذه المأساة تلك التي عاشها الشاعر اللبناني وديع سعادة (1948)، وانعطفت بحياته ومصيره إلى الشعر، قبل أن تهجّره الحروب و”المقبرة اللبنانية” إلى أستراليا. لكن مأساة الشاعر حدثت في زمن آخر سابق على مأساة الرسام. ففي قريته شبطين على سفح جرود البترون، قُتل والد سعادة سنة 1962 احتراقا. فكتب ابنه في إحدى قصائده: “عشرات الآلاف هاجروا مذ بدأت (…) المذيعة تنقل أسماء الجثث (…) وكنت طفلا حين كان أبي يحدثني عن الحروب (…) عن ضحايا رصاص وضحايا جوع وضحايا مرض، وعن موتى لم يجدوا أحياء لدفنهم (…) وقال لي إنه كان واحدا منهم، ووجد نفسه في عمر الخامسة متسولا خائبا من بيت إلى بيت، وباحثا في الغابات عن عظمة يطحنها بالحجر ليستطيع التهامها”. تشبه مأساة جهاد أبو سليمان تلك التي عاشها للشاعر اللبناني وديع سعادة وانعطفت بحياته ومصيره إلى الشعر وفي قصيدة أخرى كتب وديع سعادة عن والده: “حين ودّعته آخر مرة، كان ذلك على الشاطئ. ثم تصاعد بيننا دخان كثيف (…) وصار أبي هيكلا عظميا أسود… صعدت وألقيت نظرة أخيرة على فحمةٍ، ومضيت حاملا حطب الحياة/ حطب الحياة؟ لا، أعتقد أنني كنت أحمل براعم أيضا (…) كان لنا أهلٌ آخرون: الأحلام . وفي حين كنا نمشي إلى أحلامنا، كان هناك، في مكانٍ خفيٍّ، من يصطادونها، وكانت هي تسقط مثل أهلنا جميعا”. وروى الشاعر وديع سعادة أنه أدمن التمشي في هدأة جمال المقابر، مُكثِرا استعادة مأساته بوالده شعرا: “شبطين 1962: أبي هيكل عظمي محروق ويسند ركبتيه بيديه، وكنبة يخرج منها الدخان/شعاع قمر يدخل من الكوّة/وعلى المائدة سمكة غير ملموسة، قنينة عرق فارغة، ورقة لوز أمام الباب.كنت أزن 40 كيلو مع الورقة التي أكتب عليها الشعر/ 40 كيلو مع ابتسامتكَ، مع نظرتك، مع يدك على كتفي/ مع سمكتك على الطاولة، مع لحمك المحروق/ 40 كيلو مع دخانك”. جهاد أبو سليمان مع والده في هولندا 1980 لم يكتفِ جهاد أبو سليمان باحترافه الرسم في باريس منذ أواسط السبعينات، قبل أمستردام. بل استهوته الكتابة أيضا. وفي كتاب له عنوانه “مأدبة العمر”، روى سيرته، فكتب: “مسكني في الشمال وروحي يسكنها الشرق”، الذي غادره سنة 1976، فيما “كانت بيروت وكان لبنان يحترقان والجسور” بين الناس تتداعى، فيعودون من تجاورهم وتعارفهم وتخالطهم في المدن إلى القرى والديار الأولى التي سرعان ما وصلت إليها الحرب فجعلتها خرائب مهجورة. ووصف سعادة شعرا حال اللبنانيين آنذاك، فكتب: “إنهم يحصدون بعضهم في الشمال، ويحصدون بعضهم في الجنوب، ويحصدون بعضهم في الجبال، ويحصدون بعضهم في المدن”. لكنه ينتبه فجأة ويكتب: “قبل أيام كانوا رفاقا. زاروا بعضهم بعضا وشربوا القهوة وتواعدوا للقاء الأحد المقبل، وفجأة تلاقوا مدججين بالسلاح. وتقابلوا أعداء وجثثا”. أما أبو سليمان، فلأنه رسامٌ أكثر منه كاتبا، فقد وصف قريته مجدلونا على النحو التالي: “منذ عزمت على السفر من لبنان وحرائقه، تحولت تلال مجدلونا ومنازلها وما في سمائها من غيوم بيضاء رشيقة، إلى انطباعات لونية صارت في عينيّ رذاذا لرحلتي. أما منزلنا على خط التماس الحربي في الشياح، فاقتحمه مسلحون واحتلوه”. لبنان الملاحم ومنذ ذلك الحين يعيش الرسام اللبناني – الهولندي محنته والمحنة اللبنانية مأساة ملحمية راعفة في كيانه وعينيه، كلما تكلم عنها هنا في امستردام بعد نحو 50 سنة. لكن لبنان بين محنة وديع سعادة في مطلع الستينات ومحنة أبو سليمان البادئة مع الحروب سنة 1975، عرف ما سمّاه اللبنانيون “الزمن الجميل” الذي أطربتهم فيه ملحمة صاخبة، فرحة ومسرورة ومتفائلة بالتحديث والارتقاء الاجتماعي بواسطة التعليم والهجرة من الأرياف إلى المدينة (بيروت)، فرحها وسرورها بتفتح جديد في الذائقة الثقافية والفنية. غير أن هذه الملحمة السعيدة أزاحت جانبا أو طمست مآسي كثيرة في الأرياف وضواحي بيروت، ومنها مأساة وديع سعادة بوالده وأشباهها وسواها. وهي التي ساهمت في تكوين ذائقته الشعرية. منذ ذلك الحين يعيش الرسام اللبناني – الهولندي محنته والمحنة اللبنانية مأساة ملحمية راعفة في كيانه وعينيه أما جهاد أبو سليمان فكان، على خلاف سعادة، الابن العصامي لزمن لبنان الجميل الصاعد. فعندما كان جدّ سعادة ووالده الطفل يبحثان عن عظمة في الغابات لطحنها بحجرٍ لسدّ جوعهما بطحينها – وهذه صورة شعرية ملحمية لبنانية من زمن الحرب العالمية الأولى (1914- 1918) – كان جدّا أبو سليمان لوالده وأمه مهاجرين من جبل لبنان. والهجرة بدورها، شأن الجوع، إحدى الملاحم التأسيسية في تاريخ لبنان الاجتماعي الحديث، والآخر الأسطوري القديم الذي يعود إلى الزمن الفينيقي. جهاد أبو سليمان، في مرسمه بأمستردام جد أبو سليمان وجدته لوالده كانا مهاجرين في أميركا، وعادا إلى قريتهما مجدلونا، فوسّعا فيها أملاكهما بما حصّلاه في المهجر. أما جدّاه لأمه فكانا مهاجرين في أفريقيا. وشأن معظم مهاجري لبنان في بلدان القارة السوداء الذين يخافون على بناتهم من أن يتطبعن بـ”أخلاق العبيد” السود، أرسلا ابنتهما إلى بلدهما كي تتعلم وتدرس في مدرسة داخلية بدير للراهبات، كان سابقا خان الإفرنج في وسط بيروت. لوحة “خيّال الحلم “ وفي ذاك الدير طلب من سيصير والد الرسام أبو سليمان يد صبية المدرسة الداخلية التي ستصير أمه. طلب يدها من الراهبة المسؤولة (الريسة) التي تنوب في الدير عن أهلها، ثم تزوجا. وكان العريس – الزوج قد غادر قريته مجدلونا، ودخل آخر أيام الانتداب الفرنسي في سلك الجيش اللبناني، ثم انتقل إلى سلك الأمن الداخلي. ومن ثم استقل الزوجان الجديدان بسكنهما عن أهلهما، وأقاما في شقة استأجراها في الشياح مطلع الخمسينات، لأسرتهما النواتيّة الصغيرة في ما سيصير سريعا حيّا من أحياء ضاحية بيروت الجنوبية التي هجّرتِ الحربُ منها سكانها وأهلها المسيحيين، ففروا إلى بلاد الصفاء الطائفي المسيحي. وهكذا عاد جهاد أبو سليمان وأسرته إلى أهلهم في قريتهم مجدلونا سنة 1975. العصامية والتعليم في لبنان الزمن الجميل، الصاعد والملتبس، قبل الحرب، نشأ جهاد أبو سليمان وتفتح وعيه الأول في مدرسة “الفرير” فرن الشباك القريبة من الشياح. “لقد غرس رهبان تلك المدرسة وراهباتها في وعيي الطفلي أنني – قال – إنسانٌ خاطئ بالولادة. ولا خلاص لي إلا بواسطة الكنيسة والاعتراف بخطاياي. لكن ما هي الخطايا التي يرتكبها طفل مثلي، كي يعترف بها؟! – يتساءل. وهذا رغم أن الأطفال في الدين المسيحي يُعتبرون ملائكة”، أضاف. نحن في لبنان لا نزال نعيش في عهد متصرفية جبل لبنان أي في بلاد يقوم نظامها السياسي على الزعامة والزعماء وعصبياتهم جهاد أبو سليمان من مدرسة “فرير” فرن الشباك، إلى ثانوية الجديدة الرسمية شرق بيروت، انتقل أبو سليمان لمتابعة تعلمه في المرحلتين المتوسطة والثانوية. أثَّر في بناء شخصيته مدرّسان في تلك الثانوية: مدرّس الرسم منير نجم، وهو من رعيل الحداثة التشكيلية اللبنانية الذي درس في أوروبا وعاد إلى بيروت، ثم درس في معهد الفنون – الجامعة اللبنانية. وكان أبو سليمان الفتى شغوفا بالكتابة والرسم، فقال له نجم: أنت فنان، ومستقبلك في معهد الفنون الجميلة. لوحة “في حديقتي” المدرِّسة الأخرى التي أثرت بأبو سليمان هي إلهام كلّاب التي كانت تدرِّس الترجمة في الثانوية. كانت أيضا عائدة حديثا من باريس، حيث عايشت ثورة الطلاب الفرنسيين في مايو/ أيار 1968، وعادت إلى بيروت متأثرة بأفكارها الثورية والتقدمية. “وساعدتني كلّاب – قال أبو سليمان- في الخروج من قيم وسطي الأسري والعائلي الذي كان يمنع علينا الحديث في السياسة والدين. لقد أُعجبتُ بشخصيتها وحفّزتني على الدخول إلى معهد الفنون”. والد الطالب العصامي هو من شجّعه أيضا على الدخول إلى معهد الفنون بالجامعة اللبنانية سنة 1963. هذا على الرغم من أن والده كان جنديا في الجيش اللبناني، وطلب من ابنه أن يدرس الفلسفة إلى جانب فن الرسم. وحتى أبو سليمان نفسه استغرب في حديثنا الأمستردامي واستهجن أن يشجع أبٌ جنديٌ ابنه على دراسة الفلسفة إلى جانب الفن. جهاد أبو سليمان، امستردام 1993 ففي زمن لبنان الجميل ذاك للترقي والارتقاء الاجتماعيين بواسطة التعليم (بين 1950- 1975)، لم يكن الفن ولا الفلسفة مطلبَ أبناء الفئات الوسطى والعاميّة أو الشعبية. بل مطلب أبناء الفئات العليا الثرية والمترفة، كي تستكمل بهما ترفها وتباهيها، وخصوصا ببناتها اللواتي تكاثرن في معهد الفنون الجميلة بين الخمسينات والستينات اللبنانية. أما أبناء الفئات الوسطى والدنيا (وخصوصا في البيئة المسيحية) فكان جاذبهم الأساس إلى الترقي بواسطة التعليم ينصب على دراسة العلوم والهندسة والحقوق أو الدخول إلى المدرسة الحربية. وشهير هو القول اللبناني الشائع في تلك الحقبة عمن ترغب تلك الفئات تزويج بناتها بهم: “طبيب، مهندس، محامٍ، وضابط”. وهذا بغية الصعود الطبقي والترقي الاجتماعي. “حركة الوعي” الطالبية المسيحية وينطوي قول جهاد أبو سليمان في لقائنا – “نحن في لبنان لا نزال نعيش في عهد متصرفية جبل لبنان (1964- 1914)، أي في بلاد يقوم نظامها السياسي على الزعامة والزعماء وعصبياتهم الطائفية والمناطقية، وليست بلد دولة المواطن والمواطنة والقانون والدستور” – ينطوي قوله هذا على تذمر كان يفصح عنه على نحو خجول شبانٌ وطلابٌ مسيحيون من مجايليه في نهاية الستينات ومطلع السبعينات اللبنانية. وقد حملهم تذمّرهم ذاك على تأسيس ما سموه “حركة الوعي – جبهة الشباب اللبناني” التي نشأت وتأسست ونشطت في الجامعة اللبنانية بعد توسُّعها في العاصمة بيروت، ودخول أبناء فئات عاميّة وما دون متوسطة مسيحية إليها، بعد مغادرة عائلاتهم وأسرهم الأرياف المسيحية إلى المدينة، للعمل والوظيفة وتعليم أبنائهم. وهذه بالضبط حال أسرة جهاد أبو سليمان. كأنني مصاب بمسّ صوفي حيال الفن والطبيعة والألوان، وفي مواجهة اللوحة البيضاء والوجود والفراغ والفناء والموت في صحراء اللاأحد جهاد أبو سليمان وكان أبناء هذه الفئة المتعلمون تعليما جامعيا – وهم انخرطوا في دورة حياة مدينية بيروتية انخراطا شبه فردي وجمعي رابطتُه الجامعةُ والتعليم والتثاقف – يطمحون إلى الخروج على التقليد السياسي والاجتماعي اللبناني، العائلي والزعامي الموروث في البيئة المسيحية. وهذا هو الطموح الذي حمله شبان “حركة الوعي” حينما أسسوا حركتهم الطالبية المتأثرة على الأرجح بـ”الربيع الطالبي والشبابي” في مايو/أيار 1968 الباريسي والبراغي (نسبة إلى العاصمة التشيكوسلوفاكية براغ). لكن الحروب اللبنانية الأهلية والطائفية سرعان ما فاجأت شبان تلك الحركة سنة 1975، فتوقفت عن النشاط كأنها لم تكن. وتفرّق مؤسسوها أيدي سبأ، في لبنان وخارجه، وكثيرون منهم صاروا شعراء وكتّابا وصحافيين، أو أساتذة جامعيين: عصام خليفة، أنطوان سيف، بول شاوول، عقل العويط… وأنطوان الدويهي الذي أصدر عن الحركة كتابا في الذكرى الـ50 لتأسيسها في العام 1969، جعل دور البطولة الملحمية فيه يدور على شخصه. وحتى لو لم يكن جهاد أبو سليمان عضوا في “حركة الوعي”، فإن وعيه وسيرته الاجتماعية العصامية تشبهان تماما سيرة مؤسسي الحركة وأعضائها. فهو مثلهم ابن أسرة أو عائلة عاميّة غادرت الريف إلى المدينة. ومثلهم ثانيا تلقى تعليمه في الجامعة اللبنانية، وعزف عن الانخراط في أحزاب الاعتصاب الطائفي وحروبها في البيئة المسيحية. ومثلهم ثالثا رومنطيقي الوعي اللبناني الريفي المصدر، والملحمي الشكل، في مدينة موقوفة هي بيروت، ظلت ركيزة الانتماء إليها عائلية وأهلية. وربما ما يميز أبو سليمان في هذا السياق أن إقامته وعمله المديدين بأمستردام، وانقطاعه المديد عن لبنان، ربما أكسباه وعيا وتجربة أوروبيين، تحضر فيهما المأساة اللبنانية حضورا يعوزه شيء من الخفة والوعي السوسيولوجي، كي لا يظل وعيا ملحميا. أعلام للرحيل معظم الأسماء التي ذكرها جهاد أبو سليمان، وتعرف إلى أصحابها في معهد الفنون بالجامعة اللبنانية، وكانوا إما مثله طلابا من مجايليه، وإما من أساتذته، هربوا من “المقبرة اللبنانية”: المسرحي منير أبو دبس (1932- 2016): بعد عودته من باريس إلى بيروت، وتأسيسه “فرقة المسرح الحديث” البيروتية في الأكاديمية اللبنانية للفنون سنة 1960 – كان أبو سليمان عضوا فيها سنة 1973 – سرعان ما حملته الحرب على الانزواء والهجرة مجددا إلى باريس، بعدما كان “الأب المؤسس” للمسرح الحديث في لبنان الستينات، ومنشط مهرجانات بعلبك الفنية الدولية. الممثلة ميراي معلوف: من جيل ولادة المسرح اللبناني الحديث، بعد عودتها مطلع الستينات إلى بيروت من باريس، حيث عملت مع المخرج الفرنسي العالمي بيتر بروك، سرعان ما أعادتها الحربُ مع أهلها إلى باريس. حليم جرداق (1927- 2020): مدرّس أبو سليمان في معهد الفنون، وعنه حمل تلميذه فكرة أن “السوريالية أخفقت تشكيليا، لأنها اهتمت بالموضوع أكثر من اهتمامها بنوعية اللون ولغته”، سرعان ما أخرجته الحرب من لبنان، مع سواه من رواد الفن التشكيلي الحديث: منير نجم، شفيق عبود… وربما رشيد وهبي وحده مكث في بيروت الحروب، بعدما كان من مدرسي أبو سليمان في معهد الفنون. لوحة بعنوان “العودة” باريس- أمستردام في معهد الفنون بباريس – بعدما أنهى دراسته في معهدها البيروتي سنة 1976 – بدأ أبو سليمان رحلة الفن والهجرة مجددا، من دون أن تصدمه باريس. نال منحة لـ4 سنوات كمتفوق في المعهد البيروتي، كسواه من المتفوقين في كليات الجامعة اللبنانية. لكن ظروفه المادية في باريس كانت سيئة، بسبب تأخر وصول تحويلات المنحة المالية من لبنان. سكن غرفة صغيرة للخادمات، وبدأ يرسم “لوحات خفيفة” ويبيعها لدفع إيجار الغرفة. وقال أيضا إن عشقه الفن والحب الذي منحه إياه أهله، حمياه من صدمة الغربة ومخاوفها. وسرعان “ما سحرتني شابة هولندية سائحة في باريس وتعمل في مجال الرسم”، أضاف. وأخذ يتنقل بين باريس وأمستردام، حتى زواجهما في العاصمة الهولندية سنة 1983، وحصوله على شهادة دكتوراه في تاريخ الفن من السوربون، ومن ثم انفصالهما “الودّي” بعد حياة مشتركة عابرة. لم تشأ الشابة الهولندية البروتستانتية، ابنة أحد الأطباء النفسيين، الإنجاب، على خلاف الرسام اللبناني العصامي الذي لا ينفصل عنده الزواج والارتباط العاطفي عن إنجاب ذرّية. وهو قال في ذلك: “أنا هكذا تربيتُ ونشأت”. لكن وحدته في الصقيع والتقشف البروتستانتي في أمستردام، حملته على العمل والانتاج الفني المضاعف: “كأنني مصاب بمسّ صوفي حيال الفن والطبيعة والألوان، وفي مواجهة اللوحة البيضاء والوجود والفراغ والفناء والموت في صحراء اللاأحد. وكان عليّ أن أملأ الفراغ بشحنات نارية، كأنني أمشي على الماء”، قال. وقد تكون هذه اللغة الرومنطيقية العالية النبرة وشبه الملحمية، وليدة رؤية فاجعة الرسام المهاجر بوالده، والتي قال إنه لم يُشفَ منها إلا سنة 1993. وذلك فيما هو يجلس مع والدته وأهله إلى جانب عروسه اللبنانية في سيارة متوجهة بهم إلى كنيسة دير المخلص القريب من قريته مجدلونا، وحيث قام بقرع جرس الكنيسة على إيقاعات الفرح في الأعراس، تعويضا عن عدم قرعه إياه حزنا في الجناز الذي لم يحصل لوالده القتيل المختفي سنة 1985. مجدلونا من شرفة محترفه لكن قبل ذاك الزواج الذي شفاه شفاء رمزيا ملحميا من مأساته – زواجه من لبنانية وفي لبنان وديار أهله في مجدلونا، بعد غيبته المديدة عنها، والشبيهة برحلة عوليس وعودته الملحميتين إلى زوجته ودياره وأهله – كان تعرّفه الى الشاعر اللبناني الفرنكوفوني وسفير لبنان في هولندا بلاهاي، صلاح ستيتية (1929- 2020)، قد عوضه تعويضا وضعيا أو عمليا عن فقدانه والده، وحفّزه على مواصلة عمله الفني. “كان ستيتية عليما بفلسفة الفن وبالفكر الإسلامي، وتبناني إلى حدّ أن كثيرين من معارفه اعتبروا أنني ابنه بالتنبي، تعويضا عن عدم إنجابه”، قال أبو سليمان. عبارة “نحن إخوة” التي يرددها اللبنانيون مرفقة بتلك الابتسامة التي يتبادلونها، غالبا ما تلمح خلفها صرير أسنان فتح له ذاك التبنّي آفاقا جديدة في علاقته بالأوساط الفنية في أمستردام، حيث كان يعمل مدير غاليري لمعارض الفن التشكيلي، وأقام لأعماله معارض عدة، توّجها ربيع 1985 بمعرض استعادي لتلك الأعمال في متحف أمستردام الذي صار معروفا في أوساطها الفنية. وهذا إلى جانب تدريسه في معهد إعداد الديبلوماسيين الهولنديين في البلدان العربية. إلى جانب احتفاله الصوفي بألوان الطبيعة والزهور الهولندية في لوحاته، استمد من ألوان السجاد الشرقي الإيراني، وأبجدية خطوطه بعدا لونيا جديدا. هداه إلى ذلك جاره وصديقه الإيراني في أمستردام، شُهب طائفي مهاجري تاجر السجاد، الذي كان يدير مركزا لمعارض سجاد وتحف فنية، ولإحياء ندوات ثقافية. وصار شغف أبو سليمان بذاك البهاء والتدرجات اللونية في السجاد الإيراني عنصرا أساسيا في لوحاته وألوانها. وتكاثرت إقامته معارض في هولندا وباريس وإسبانيا وبروكسل، قبل أن يبدأ العرض في غاليرهات بيروت، بالتزامن مع إعادة إعمار وسطها، بعد انقطاعه عن لبنان طوال عقدين من السنوات. ابتسامة وصرير أسنان في زيارته الأولى بيروت سنة 1993، وإحيائه معرضه الأول فيها، أجرت معه مذيعة “صوت لبنان” جانيت نمور مقابلة بصفته فنانا مهاجرا من لبنان. بعد مضي شهر على المقابلة كانت نمور إلى جانبه في سيارة عرسهما إلى دير المخلص، والذي انطوى على ما يشبه جنازا رمزيا لوالده. ومنذ ذلك الحين أعاد أبو سليمان ترميم منزل عائلته وتوسيعه في مجدلونا، وخصص قسما منه محترفا فنيا لعمله، وصار يتردد على نحو منتظم إلى لبنان للرسم والإشراف على معارضه الفنية في بيروت. لكن مجدلونا وطبيعتها وإرثه العائلي ومحترفه فيها، هي موطن السرّ في شغفه المأسوي بلبنان. لبنان الذي سرعان ما هجّره منه – ومن جنته المستعادة مجدلونا ومن تنسُّكِه في محترفه فيها – اندلاعُ الحرب على الحدود الجنوبية في خريف 2023. فعاد خائبا إلى موطنه الجديد وأهله في أمستردام. التأثر بألوان السجاد ورسومه وهو كان عندما تقدّم بطلب حصوله على الجنسية الهولندية في أمستردام سنة 1984، قد طلب تغيير اسمه من جهاد إلى جاد. فكلمة جهاد صارت تعني الحرب – بحسبه – بعدما جعلها كذلك إكثارُ رائد الثورة الإيرانية آية الله الخميني تردادها على معنى الحرب والثأر. ثم حذف أبو سليمان من كنيته العائلية كلمة أبو، فصار اسمه الهولندي جاد سليمان. وختم جاد سليمان أحاديث لقائنا في “كافيه أميركان” بأمستردام بالقول إن العيش في لبنان وبيروت ليس سوى أزمة دائمة. فعبارة “نحن إخوة” التي يرددها اللبنانيون مرفقة بتلك الابتسامة التي يتبادلونها، غالبا ما تلمح خلفها صرير أسنان. المزيد عن: فن تشكيلي لبنان حرب أهلية أمستردام هولندا 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post الحمض النووي يكشف عن هوية مجرم متسلسل بعد 3 عقود next post هل يظل البقاع اللبناني ملاذا آمنا بعد تكرار القصف الإسرائيلي؟ You may also like اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 عبده وازن يكتب عن: فيروز تطفئ شمعة التسعين... 21 نوفمبر، 2024 “موجز تاريخ الحرب” كما يسطره المؤرخ العسكري غوين... 21 نوفمبر، 2024 فيلم “مدنية” يوثق دور الفن السوداني في استعادة... 21 نوفمبر، 2024 البلغة الغدامسية حرفة مهددة بالاندثار في ليبيا 21 نوفمبر، 2024