بأقلامهمعربي محمد أبي سمرا : الشّقاء والإحباط الروسيان.. وثأر القوميات من الإمبراطورية by admin 18 مارس، 2022 written by admin 18 مارس، 2022 76 التاريخ الروسي القديم بدأ في ديار القوزاق، من كييف روس في الغرب الأوروبي، وراح يتجه شرقًا نحو موسكو روس، ثم إلى الداخل الشرقي الآسيوي الشاسع. وتعاظمت الإمبراطورية القيصرية في زمن إيفان الرهيب الذي بسط سلطانه على أمداء مترامية. المدن \ محمد أبي سمرا – كاتب وصحافي لبناني عماد الدين رائف باحث ومترجم لبناني عن اللغتين الروسية والأوكرانية، وأمضى سنوات خمس (1990- 1995) طالبَ صحافة اجتماعية في جامعة مدينة روستوف الروسية. وفي بيروت ترجم 12 كتابًا في الرواية والشعر والتاريخ عن الأوكرانية. وعن الروسية ترجم كتبًا خمسة في الأدب والتاريخ والرحلات والشهادات الأنثربولوجية. ووضع كتبًا خمسة في البحث الثقافي والتاريخي عن روسيا وأوكرانيا. وهو يستعيد هنا بعضًا من فصول حياته ومشاهداته ومعرفته وانطباعاته عن العالم الروسي الذي خبره. ويلي هذه الحلقة من روايته حلقة أخرى عن أوكرانيا وثقافتها. ومن غرائب أحوال الدنيا والبشر أن تكون الحروب باعثًا على التعرُّف على تواريخ البلدان المتحاربة، جغرافيتها وثقافاتها ولغاتها وأسمائها، للوقوف على أسباب الحروب وتعقّلها. لحظة انهيار الإمبراطورية في بدايات انهيار الاتحاد السوفياتي وتفككه وصلتُ إلى مدينة روستوف الروسية، على ضفاف نهر الدون في جنوب روسيا الغربي، والذي يصبّ في بحر آزوف المتفرّع من البحر الأسود. وكان الروائي الروسي ميخائيل شولوخوف (1905- 1984)، المولود من أبٍ مزارع قوزاقي وأم أوكرانية، والحائز على جائزة نوبل للآداب (1965)، قد خلّد ذاك النهر عندما وسم باسمه روايته الأشهر “الدون الهادئ” (تُرجمت من الروسية إلى العربية في الستينات، ثم سنة 1998 بأجزاء أربعة راجعها الروائي العراقي غائب طعمة فرمان). وسنة نيل شولوخوف نوبل، أقيم له احتفال ثقافي في بيروت، فألقى فيه الشاعر سعيد عقل قصيدته الشهيرة التي خاطب في بيتٍ من أبياتها صاحب “الدون الهادئ” قائلًا: “نهر الرجال المنتهي خلف أنجم؟/ وأنت تخطُّ النهرَ أيكما النهرُ؟ تقصّ؟ ارتفق بالشعر أنت بَدعته/ كلامكَ زهر الجمر لو يزهر الجمرُ”. وبدأتُ حياتي الجامعية في روستوف شولوخوف، فيما كانت روسيا تعيش مرحلة انتقالية صعبة: انهيار سعر صرف الروبل، غلاء السلع الأساسية غلاءً فاحشًا، انهيار الرواتب، اختفاء المواد الغذائية من الأسواق، وصعوبة الحصول عليها إلا بواسطة معارف وشبكات من المحسوبيات. لكن الأزمة كانت أعباؤها ووطأتها في المدن الروسية الصغيرة شأن روستوف، لا تقارن بشدّتها على الناس في المدن الكبرى مثل موسكو العاصمة، وليننغراد التي استعادت اسمها السابق بطرسبورغ. ففي المدن الكبرى بلغت الأزمة ذروتها، حتى على الصعيد الأمني، إذ عرفت ظاهرة الأمن الذاتي في أحيائها وشوارعها. وقد استمرت تلك الأزمة في عموم روسيا طوال عقد التسعينات، لا سيما في الحقبة اليلتسينية (نسبة إلى الرئيس الروسي يلتسين آنذاك). أما الجيش الروسي فلم يظهر في الشوارع إلا إبان الانقلابين اللذين وقعا سنة 1991 و1993. وإذا كانت الأزمات المعيشية قد أصابت على نحو متفاوت عموم روسيا، فإن الأزمة السياسية انحصرت في المدن الكبرى، وخصوصًا في العاصمة موسكو. وعندما أستعيد اليوم تلك الحقبة العاصفة في روسيا، أتذكر أن جامعتنا -نحن الطلاب الممنوحين من الحكومة الروسية وحزبها السابق، والمتنوعي الجنسيات، منها العربية- ظلت تُوزّعُ علينا المخصصات المالية التي انهارت قيمتها الشرائية، وظل مدرّسونا يواظبون على إلقاء محاضراتهم، رغم انهيار رواتبهم وأحوالهم المعيشية. القوزاق والأقنان وروستوف آخر مدينة في جنوب روسيا الغربية، وهي قريبة من أوكرانيا، وحدودها الشرقية في الدونباس القريبة من حوض نهر الدون الطويل والضخم. أما إلى الشمال الشرقي من روستوف فتمتد ديار “الستنات”، أي التي تنتهي أسماؤها بـ”ستان” وتعني المكان، مثل أوزباكستان، كازاخستان، درغستان، قرغيزستان، وسواها من جمهوريات الاتحاد السوفياتي وروسيا الآسيوية. وروستوف واحدة من المدن النهرية في الجنوب الروسي الغربي الأوروبي، مثل مدينة كرسندار على نهر الكوبان، وكان اسمها أيام القيصرية الروسية كاترينادار. وكلمة دار تعني العطاء أو الهِبَة. ومن تلك الأنهر أيضًا إلى الدون، نهر الدانيبر. ومدن الأنهر هذه تقع في الشريط الجنوبي الغربي الروسي الشاسع من القيصرية القديمة وعاصمتها بطرسبورغ. ويبدأ هذا الشريط من نهر الفولغا، ويضم حوضي الكوبان والدون وصولًا إلى الدونباس الأوكرانية وملدوفا التي كانت في رومانيا. والأمداء البلدانية هذه كانت تفصل روسيا القيصرية عن الإمبراطورية العثمانية في جنوبها، والتي كانت تضم شبه جزيرة القرم المتوغّلة في البحر الأسود، ويشكّل المضيق البحري الصغير بينها وبين البر الروسي الجنوبي الممرَّ المائي بين البحر الأسود وبحر آزوف الذي يبدو كبحيرة داخلية بين أوكرانيا وشبه جزيرة القرم وشواطى روسيا الغربية. ومدن الأحواض النهرية هذه وبلادها الواسعة، مأهولة بشعوب القوزاق. وهم كانوا فلاحين أحرارًا أيام القيصرية الروسية. ويقول القوميون الأوكران أنهم يتحدّرون منهم، وهم يتغنّون ويعتزّون بتاريخهم وثقافتهم وتراثهم وقادتهم المحليين المعروفين بالهتمانات (مفردها هتمان). وقد وصف شولوخوف شعوب القوزاق الفلاحين الأحرار وقادتهم في “الدون الهادئ”. ونيقولا غوغول من أعلام أدبهم الروسي. وشعوب القوزاق أقل شقاءً بما لا يقاس من الفلاحين الأقنان الخاضعين لنظام الاستعباد المعروف بالقنانة، الذي كان سائدًا في سهوب روسيا الجليدية الشمالية، ومنها سيبيريا، المترامية الأرجاء في اتساعها المهول المنبسط إلى ما لا نهاية، والتي كانت مع نظام القنانة رمزًا للشقاء الروسي. وطباع أهل الحزام القوقازي تختلف عن طباع روس السهوب الشمالية الجليدية. فبلادهم النهرية تمنحهم بعض الدعة. والصيد النهري من رياضتهم الحياتية اليومية، ويشكل مصدرًا لغذائهم ورزقهم، إلى جانب الزراعة والحياة الفلاحية الحرة. وهم كانوا أحرارًا في التحاقهم بالخدمة العسكرية، ولديهم زعماؤهم وقادتهم ورتبهم في الجيش، ويميلون إلى السهر. والأنهار التي تعبر في ديارهم ومدنهم ضخمة وفسيحة وصالحة للملاحة وغنية بثروتها السمكية. وهي في هذا كله تختلف تمامًا عن الشمال الجليدي. والتاريخ الروسي القديم بدأ في ديار القوزاق، من كييف روس في الغرب الأوروبي، وراح يتجه شرقًا نحو موسكو روس، ثم إلى الداخل الشرقي الآسيوي الشاسع. وتعاظمت الإمبراطورية القيصرية في زمن إيفان الرهيب الذي بسط سلطانه على أمداء مترامية. الإحباط الروسي الكبير في النصف الأول من التسعينات، غداة انهيار الاتحاد السوفياتي، لاحظنا نحن الطلبة العرب في مدينة روستوف، أن النزعات القومية، الثقافية واللغوية، هي الأقوى حضورًا وبروزًا بين أهل المدينة وسكانها الذين يتحدّرون من قوميات كثيرة متباينة. وكأن تلك القوميات كانت هاجعة أو مكتومة خلف الوحدة السوفياتية التي راحت تتفكك، فيما راح أبناؤها يسعون في التمايز والانفصال، وبعضهم راح يعود إلى دياره المتأهبة لتأسيس جمهوريات مستقلة. وكانت مدينة روستوف تضم أخلاطًا من مشارب قومية عدة. وحتى أساتذة الجامعة راحوا يتحدثون عن رغبتهم في العودة إلى بلدانهم، تحدوهم أحلام استقلالها وشروعها في مصير آخر منفصل عن الاتحاد السوفياتي وروسيا. وقد تزامن ذلك مع الشقاق بين شعوب يوغوسلافيا ونشوب الحرب الانفصالية بين أقوامها، ومع الوهن والتقاعس الروسيّين عن حماية الروس فيها. أما شعور الروس في تلك اللحظات فكان صعبًا وممضًّا وقاسيًا، وينطوي على إحباط ويأس كبيرين. فبلدهم الكبير والعظيم ينهار ويتفكك أمام أبصارهم، وهم ينحدرون إلى الفقر والاضطراب والقلق. والدعاية الأميركية ضد الاتحاد السوفياتي وانتصار الغرب عليه في الحرب الباردة، راحت تشتد وتنطوي على شيئ من ثأر وشماتة واستضعاف. وهذا كله راح يتفاعل بقوة في نفوس الروس ويضاعف شعورهم بالمهانة والقلق والشقاء والخوف على مصيرهم في ذلك المنعطف الكبير. وسرعان ما غزت الأفلام والأزياء ونمط الحياة الغربية المدن الروسية. وفقد الشعب الروسي فجأة مكتسباته كلها من التقديمات والرعايات الاجتماعية والصحية والمعيشية. وفي خضم تلك الضائقة الخالية من أي أفقٍ سياسي واجتماعي مرئي أو واضح وموعود، برزت النزعات القومية الانفصالية، ففضّل الروس بقاء الاتحاد السوفياتي على حاله بدل تلك الفوضى المقلقة التي زلزلت عالمهم ونظام حياتهم ومعيشتهم. ولسان حال الروسي العادي والمثقف في تلك الحال -إذا ما التفت أيّ منهما إلى رأس هرم الدولة والسلطة في بلاده- يقول: انظروا أي سكّير (المقصود الرئيس يلتسين) يتربّع في سدتهما؟! انهيار فوقي وغياب السياسة وياما سمعتُ زملائي في جامعة روستوف يقولون: انظروا إلى من يستفيد من هذه الفوضى العارمة، وينهب مقدّرات الإمبراطورية السابقة التي توزّعت مؤسساتها وشركاتها وإداراتها العمومية الكبرى، أسهُمًا خاصة على كبار المناصب من الرفاق القدامى. وغالبًا ما كان يُقال إن الدوائر العليا في السلطة والدولة قد تآمرت أو تواطأت مع أميركا على انهيار الاتحاد السوفياتي. وهم يقصدون في ذلك المراتب العليا في جهاز الدولة البيروقراطي الذي كان على رأسه ميخائيل غورباتشيف. وقد يكون هذا كله من نتائج انهيار الدولة السوفياتية من أعلى قمة هرمها البيروقراطي، وليس بفعل حركات سياسية واجتماعية تحتية، فاعلة وحاضرة، في النسيج الاجتماعي. لذا كان يقال إن هناك حبكة أو قطبة خفيّة (مؤامرة) في أصل ذاك الانهيار. والأحزاب التي نشأت على عجل في روسيا غداة تفكك الدولة الاتحادية وانهيارها، كانت كاريكاتورية مقارنة بالحزب الشيوعي السوفياتي. وانعدام القوى والتيارات السياسية والاجتماعية في روسيا السوفياتية وتاريخها الطويل، فوّت فرصة أن تتلقف قوىً وتيارات سياسية زمام حراك تغييري في المجتمع في لحظة الانهيار الفوقي ذاك. لذا، اتخذ التغيير شكل فوضى اجتماعية وسياسية عارمة باعثة على القلق في أفق رمادي بلا مستقبل. والحرية التي نجمت عن ذلك كانت فوضوية وبشعة بدورها، ولا تَعِدُ بشيء، سوى بشعور تقويض بنيان هائل كان راسخًا، ونشأ عن تقويضه من أعلى، فراغٌ كبير وجرحٌ فاغر أليم في الكبرياء الروسية. وهما فراغٌ وجرحٌ روسيّان ممضّان وقاسيان، وشكّلا فرصة مؤاتية للنزعات القومية الاستقلالية لدى الشعوب والثقافات غير الروسية التي سعت في تلك اللحظة الفوضوية إلى العمل على إرساء ثقافاتها وكياناتها المستقلة عن الاتحاد السوفياتي المنهار، ومنها الشعب الأوكراني الذي بدأ يستعيد لغته وثقافته المستقلتين. وقد يكون بدا للروس أن تلك النزعات تثأر من الإمبراطورية العظيمة في لحظة انهيارها. (يتبع حلقة ثانية عن أوكرانيا) 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post العجز عن استقبال الجديد الإنساني! next post في إيران، ممارسة الدعارة من أجل لقمة العيش You may also like بيل ترو تكتب عن: تفاصيل أسبوع استثنائي في... 26 ديسمبر، 2024 ندى أندراوس تكتب عن: هوكشتاين وإنجاز الرئاسة بعد... 25 ديسمبر، 2024 يوسف بزي يكتب عن: العودة إلى دمشق.. المدينة... 25 ديسمبر، 2024 بناء سوريا ما بعد الأسد: كيفية التأكد من... 25 ديسمبر، 2024 طارق الشامي يكتب عن: هل تضبط واشنطن إيقاع... 24 ديسمبر، 2024 سام هيلير يكتب عن: كيف يمكن الحفاظ على... 24 ديسمبر، 2024 مايكل ماكفول يكتب عن: كيف يمكن لترمب إنهاء... 24 ديسمبر، 2024 حسام عيتاني يكتب عن: جنبلاط في دمشق.. فتح... 23 ديسمبر، 2024 غسان شربل يكتب عن: جنبلاط والشرع وجروح الأسدين 23 ديسمبر، 2024 مايكل شيريدان يكتب عن: الجاسوس الصيني الذي حاول... 22 ديسمبر، 2024