ثقافة و فنونعربي “مباهج الانتحار” لسليم بركات متاهة يجتازها القارئ بمتعة by admin 30 أبريل، 2023 written by admin 30 أبريل، 2023 28 رواية الحفر في أمكنة جغرافية وتاريخية تستعيد الرومي عبر لغة متينة اندبندنت عربية\ عمر شبانة مثلما كان سليم بركات في مجاميعه الشعرية الأولى، ومنها “الجمهرات”، ورواياته الأولى ومنها “فقهاء الظلام”، وكتابة سيرته الشعرية وقصيدته السيرية كما في “الجندب الحديدي” و”هاته عالياً هات النفير على آخره – سيرة الصبا”، وصولاً إلى روايته الأحدث “مباهج الانتحار الإحدى عشرة وقياس المراوغات في أحوال جلال الدين الرومي” (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 496 صفحة، 2023)، يواصل بركات اليوم الحفر في مناطق أو أمكنة جديدة، وجغرافيات بشرية مدهشة، في عملية عصف ذهني وخيالي ولغوي وصوفي، وعوالم من كرديته المألوفة، لا مثيل لها في روايتنا. رواية قوامها الخيال الجامح، واللغة غير المألوفة في تراكيبها وعباراتها، مفردات وجمعاً بصيغة تراثية، كما سنرى في عرضنا أبرز ملامح هذه الرواية ومعالمها الرئيسة، زماناً ومكاناً وكائنات بشرية وحيوانية ونباتية وجمادات. ابتداء، ومن مناخات غابة سكوغوس، في مملكة السويد، بين عامي 2022-2023، حيث الروائي يكتب “في عزلته” ومنها، نحن هنا حيال روايته “المتاهة”، وفي متاهة الرواية، سوف نتعرف على عوالم بركات الغرائبية الجديدة، منذ البيئة المكانية حيث “شبه الجزيرة الجرداء كلها: رمل بركاني أسود. صحراء سواد. لا شجر. لا عشب. لا نبات.. مناخ جاف طوال السنة.. عمر شبه الجزيرة طاعن في مجهوله”. هذه البيئة العاصفة، ماء وغباراً وصخوراً سوداء مسنونة، تنتحر فوقها النباتات والنوارس والبشر، كما فعل “إيثيك”، الملك على مملكة إيلانتس (بناها في القرن الرابع قبل الميلاد)، وكما سيفعل “سيكين” بطل هذه الرواية، في واحد من انتحاراته التي يبغي منها “تصحيح خطأ المكان”، ويفشل فيها جميعاً مبرراً فشله بالقول إن “هذا الانتحار لم يعجبني”، ويظل يكرر الانتحار تلو الآخر، والعبارة نفسها، إلى أن “ينتحر” (يتم قتله عمداً) بأيدي ثلاث من الإناث، هن زوجته (دي) وأختها (سيرانا) وابنة الأخت الفتاة (كامين)، يئسن من انتحاره، فقمن بدفعه إلى الهاوية، فيختفي بين الصخور جثة لا أثر لها. رواية سليم بركات الجديدة (المؤسسة العربية) ولكي نترك سيكين يبرر “انتحاراته” المتكررة، ولنتعرف عليه، وعلى شيء من أسلوب الرواية، نتركه يقول “لا أنتحر لأنني حزين، أو محبط، أو غاضب، أو مستاء، أو منهار، أو مكتئب، أو مجروح، أو متعثر الحظ، أو عدمي استنفدت الأشياء معانيها في استقصائه المعاني، أو مريض يكون انتحاره خلاصاً، أو فاشل، أو منصدم، أو منذهل حيرة، أو مستشعر انسداد الأفق، أو محاصر، أو ناكث بوعد لن يفي به، أو هارب من ضعفه، أو مدين ديناً لا مخرج منه، أو خائف من خسارة لا تعوض، أو خائب مخذول”. فإن لم يكن هؤلاء جميعاً، أو واحداً منهم، فلماذا ينتحر إذن؟ الجواب هو أنه يريد “تصحيح خطأ المكان”، ويكرر الانتحار لأنه- كما يكرر ونكرر معه “غير راض عن انتحاره هذا”! محاور وقضايا تدور الرواية على عدد من المحاور الأساسية، تراوح بين ما هو حياتي وواقعي وعملي، وما هو وجودي ذو طابع فكري أو فلسفي، أو حتى ديني روحاني/ صوفي غالباً، لكنها جميعاً تغرق في عوالم من العبث، وغلالة سوداء شفيفة من السخرية، وأقنعة من الفانتازيا الموغلة في الخيال والتخييل، في محاولة من مؤلفها لتغريبها عن واقعيتها، ومنحها جميعاً أبعاداً ذات طابع صراعي يبلغ أطراف التراجيديا الكونية، في عمل يقوم على شخوص وحوادث غير طبيعية ولا عقلانية، بصرف النظر عن عمقها أو خفة أطاريحها، فهي في النهاية بشرية إنسانية. وكما يبدو في عنوان الرواية، فإن القارئ سيكون أمام 11 فصلاً، ومباهج 11 من محاولات الانتحار الفاشلة، غير المرضي عنها، من جانب، ومن جانب آخر يقف القارئ على محطات وظلال من شخصية المتصوف الشهير جلال الدين الرومي، بدءاً من أصوله المتنازع عليها بين فارسيته وتركيته، مروراً بعلاقته الملتبسة مع شمس الدين التبريزي، وانتهاء بمقولاته وخلاصاته الروحانية، وذلك كله عبر حوارات بين شخصيات الرواية، تتناول أجزاء من عمل الرومي “المثنوي” مترجمة إلى لغة المملكة التي تدور فيها حوادث الرواية- المتاهة، وحواراتها الهذيانية، لكنه الهذيان غير المجاني، حتى وإن بدا عبثياً، في كثير من جوانبه، فهو ينتج الأفكار الخلاقة حيال الكائنات والكون والوجود. المثنوي الذي يستعيده سليم بركات في روايته الجديدة (مخطوطة تركية) وكما يحضر سيكين والنساء الثلاث، ومعهم أصدقاؤهم الكثر ذوو الشخصيات المتمايزة، يحضر الرومي في أحوال ومقامات شتى، من سيرته وأشعاره ومقولاته، حيث تتداخل حقائق السيرة بخيالات الكاتب بركات وتحليلاته وتصوراته ولغته الخاصة، فنكون أمام الرومي الذي يريده لا الرومي الذي نعرفه. الرومي الذي “هرب إلى الله في غرام مستحيل، خوفاً من مطالب جسده، المختبئ في الأشعار..”. أو الرومي الذي “كل بيت من شعره احتراق بنار عشقه الإلهي، تصريحاً أو تلميحاً”، و”كم مرة احترق الفارسي بلهب أشعاره النفطية؟”، و””الشيطان توثيق آسر لرغبة الإنسان في الانفصال عن نفسه، ولرغبته في وجود يتحامى منه أو يحميه.. والخ”. وفي الرواية حديث عما يسميه الكاتب “المثلية الوجودية.. عند الرومي”، وشيء من “مزج الذكورة بالأنوثة في ما يخص الأرواح”، وفي الحديث عن مريدي الرومي فهم من “مراهقي نوادي رقص الشرق الصوفي”، فضلاً عن التنظير حول المولوية والدراويش ورقصهم وتسولهم.. وعن “وشم الغزالة على ذراع صوفيكم الرومي”.. والتعامل مع التصوف كما لو أنه “تدليك روحاني”. وأخيراً يلتفت إلى ثنائية ذكورة/ أنوثة في عالم التصوف، فيرى أن ليس في الشرق متصوفات كالمتصوفين الرجال لا في الكم ولا الكيف. عن مذاهب الصوفيين: ص 461، ولأن الرواية غير معنية بتوصيل رسالة أو “خطاب” محدد، فهي تخوض في كل المخاضات التي تقول و”لا تقول”، وتتكلم بلا منطق سوى ما يخطر في بال “المتكلم” في تلك اللحظة، فنسمع سيكسن، البائع في محلات لبيع الدهان يتحدث بما يوحي بعلاقته بعلم النفس حيث “الأصباغ رغبات. الرغبات أصباغ من كل لون”، وقياساً إلى حجم عبثيتها وجنونها الفائضين عن المعقول، فإن شخصيات هذا العمل السردي تبدو شديدة الواقعية، من جهة تماسكها وقدرة مؤلفها على إدارة حواراتها، لكنها شديدة الغرائبية لجهة طبيعة الحوارات وموضوعاتها غير المنطقية، كما هي حال الرواية كلها في غياب المنطق عنها، باستثناء منطق السرد الذي يتطلب قدراً عالياً من العبث، عبث يفرض بدوره كثيراً من التكرار حد الإملال، كما هي حال انتحارات “سيكين” نفسه التي تتكرر في مضمونها، لكنها تتنوع في اختلاف صورها وفي تعدد أشكالها ومواقع حدوثها وغرائبيتها. حكايات في رواية وإذ تبدو حوادث الرواية حكايات منفصلة كل منها عن سواها، ولكل منها خصوصيتها، لكنها متصلة بتواصل شخوصها، فإننا حيال رواية خاصة لكل حكاية، ويكفي أن نقف على حكاية/ رواية الملك “إيثيك” الذي اتهم أخاه (بوردون) بالتآمر لزعزعة مملكته، وقام هو نفسه بقتله في زنزانته، لكي يتزوج من زوجته (ريناد)، وينجب منها ومعها طفلان، ذكراً وأنثى، وحين تبلغ ابنته ذات الجمال الخارق سن الـ4، يتخذها عشيقة “معلنة في مخدعه”، ويقربها من عرشه لا تفارقه، فتثور زوجته وتقتل ابنتها هذه، وتهرب بابنها (أكيروس) وعدد من حراسها مع كمية من الذهب، وبقي الملك تسع سنين يوزع “رجالاً قيافين” يقتفون أثر زوجته بلا جدوى، فقرر الانتحار… و”تهشمت مملكة إيلانتس”. وكذلك الحال في شخصية الحلواني الذي يقدم الحلوى لجلال الدين الرومي، والمصير الذي يلقاه هذا الحلواني قتلاً على يد تلامذة الرومي الغيورين على أستاذهم وعلومه وفلسفته، وهو- كما يشاع في الدراسات المتخصصة بعالم الرومي- المصير الذي لقيه التبريزي، شيخ الرومي وأستاذه، الذي يعتقد هؤلاء التلاميذ أنه قد أغوى أستاذهم وضلله عن طريقه، فقتلوه أبشع القتل، حيث استعاض بركات بشخصية الحلواني عن شخصية التبريزي، وأباح قتله. ولعل الرومي وسيكين يلتقيان هنا في كونهما شخصيتين تحملان أبعاداً رمزية وروحانية، هي من صميم عالم الرواية وعالم الصوفية معاً. وفي روايته المتاهة هذه، يبدو بركات ملماً بالتاريخ والجغرافيا وعلم النفس والثقافة عموماً، فهو يعرض، بلا استعراض، وكما لو كان مهندساً معمارياً، جوانب دقيقة من عمارة المدينة القديم، في مقارنة مع معمارها الحديث، ويستعير عوالم “الواقعية السحرية” كما لو أنها واقعية ماركيز وأدب أميركا الجنوبية “اللاتينية”، ومن عالم الموسيقى يختار أوبرا “كارمينا بورانا” و”انتصار أفروديت” للموسيقي العالمي كارل أورف الشهير بتقديمه أصواتاً بلا آلات موسيقية، و”شعر الهايكو آلات تدار بوقود بارد”، والناس هم “مسارح.. بأداء من ممثل واحد وحيد على منصاتها.. الزمن”. وعلى مستى اللغة ومشتقاتها، تبدو القدرات اللغوية الفائقة للروائي في نحته واشتقاقاته، كما في استعماله صيغة الجمع من مصادر تراثية تفصح عن قاموس بائد، مثل جمعه مفردة “ثدي” على “أثد وأثداء وثدي وثدي” مثلاً، وبدلاً عن جمع مفرد “الحاذق” على حاذقين (جمع مذكر سالم) يجمعها بالتكسير “حذقاً”، هذا فضلاً عن القاموس الخاص بأعماله عموماً، شعراً كانت أم نثراً، قاموس تتدفق منه روائح وألوان وملموسات، في مشاهد وصور ذات طبيعة حركية، تقارب التصوير السينمائي الباهر. وفي استعمال صيغة “الثلاث المرايا” بدلاً من المرايا الثلاث فيقول “استقلوا المصعد ذا الثلاث المرايا”، وكذلك في تكرار صيغة “مذ تعرف أن..” أو “مذ الأمكنة تسحب من تحت الأقدام في الحرائق بلا اعتذار”، لجعلها الصيغة البديلة للمألوف “منذ كان..” مثلاً. إننا، أخيراً، حيال عالم هو من تلفيق خيال المؤلف وذاكرته وثقافته، عالم من البشر والزهور “جميل” ومبهر، لكنه- يا للسخرية- عالم بلاستيكي.. منافق، لا وجود فيه للحب، فهو يتكون من زهرة “السحلبية السوداء” الملفقة، التي قال عنها الطبيب الإغريقي غالينوس إنها “شمعة للهبها صورة وجه الإنسان”، بينما “قال الإمبراطور كاليغولا إن السحلبية هي الزهرة التي لا يرى ورقها الخفي على ساقها إلا الذاهب إلى حرب”. فأي عبث وأي سخرية نجدها في “سطوة التلفيق الأقوى، المحكم، المقنع، ما دامت كل حكاية هي مقدار الإحكام في التلفيق الساحر؟”. وهل يمكن، وكيف يمكن، لكاتب أن يكتب هذه “الثرثرات” كلها من دون أن يتوجع، وأن يوجع قلب قارئه معه؟! المزيد عن: روائي سوري\رواية\التصوف\جلال الدين الروم\يسرد\اللغة\التاريخ\متاهة القراءة 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post قصص حب غير اعتيادي خلال الحرب العالمية في الأدب المعاصر next post منظمة التحرير تتهم مؤتمر “فلسطينيي أوروبا” بالانشقاق You may also like فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم... 24 نوفمبر، 2024 قصة الباحثين عن الحرية على طريق جون ميلتون 24 نوفمبر، 2024 عندما يصبح دونالد ترمب عنوانا لعملية تجسس 24 نوفمبر، 2024 الجزائري بوعلام صنصال يقبع في السجن وكتاب جديد... 24 نوفمبر، 2024 متى تترجل الفلسفة من برجها العاجي؟ 24 نوفمبر، 2024 أليخاندرا بيثارنيك… محو الحدود بين الحياة والقصيدة 24 نوفمبر، 2024 مهى سلطان تكتب عن: الرسام اللبناني رضوان الشهال... 24 نوفمبر، 2024 فيلمان فرنسيان يخوضان الحياة الفتية بين الضاحية والريف 24 نوفمبر، 2024 مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024