الثلاثاء, يونيو 3, 2025
الثلاثاء, يونيو 3, 2025
Home » مارك توين في مرآة تشيرنو… الوجه الآخر للكاتب الساخر

مارك توين في مرآة تشيرنو… الوجه الآخر للكاتب الساخر

by admin

 

الرجل الذي أضحك الجماهير حدّ البكاء كان منهكاً وغارقاً في الديون ومهووساً بمعرفة كيف سيحكم عليه التاريخ؟

اندبندنت عربية / سناء عبد العزيز

ليس من السهل كتابة سيرة عن شخصية متقلبة، لكن شيئاً كهذا هو ما يمنح المهمة إغراءها الخاص، فالحياة المليئة بالتناقضات تقدم للكاتب مادة حية تصعب مقاومتها، وهي الشرط المبدئي لتحريك أية مخيلة، إذ تَعِده من الوهلة الأولى بالقبض على نسيج مربك يفضح هشاشة الإنسان بقدر ما يضيء لحظاته الواعدة، وهذا ما ينطبق تماماً على السيرة الجديدة لمارك توين الصادرة أخيراً عن “دار بنجوين” للمؤرخ الأميركي رون تشيرنو.

ويسرد تشيرنو في عمل ضخم يتجاوز 1200 صفحة حياة أحد أكثر الكتاب صخباً وتأثيراً في المشهد الأدبي الأميركي وهو صموئيل كليمنس، الرجل الذي اخترع نفسه تحت الاسم اللامع “مارك توين”، ثم قضى حياته يحاول ترويض هذا الاختراع اللعين.

اختراع الذات في مرآة العبودية

بعد أكثر من قرن على رحيله لا يزال مارك توين شخصية عصية على التصنيف، فهو الساخر الشعبي الذي كشف التواءات المجتمع الأميركي بمنتهى البراءة، وتحدى الذوق الأرستقراطي بلغته الدارجة مستعيناً براو طفل أو مراهق يعكس من خلاله مرارات العالم وتناقضاته، ولم يكن توين مجرد كاتب بل حجر زاوية في الأدب الأميركي الحديث، فقد ألف “مغامرات توم سوير” و “هكلبيري فين” و”الحياة على نهر المسيسيبي” وغيرها من الأعمال التي التقطت روح أمة تتشكل، وعبّرت عن هويتها المتوترة، وقد وصفه ويليام فوكنر بأنه “أبو الأدب الأميركي”، فيما رأى إرنست همنغواي أن “كل الأدب الأميركي الحديث ينبع من كتاب ‘هكلبيري فين’ لا شيء قبله، وكل ما أتى بعده لم يرق إليه”.

منذ الصفحات الأولى يعلن الكاتب أنه لن يترك شيئاً بلا مساءلة ولا حقيقة من دون تفكيك، ليبدأ رحلته من بلدة “هانيبال” في ولاية ميزوري، حيث نشأ صموئيل، طفلاً حافي القدمين ومسحوراً بالقوارب البخارية وحكايات النهر، في أرض كانت تبدو في عينيه المستديرتين مترعة بالخيال، غير أنها تخفي في أعماقها تناقضات أخلاقية مثيرة للاشمئزاز يتصدرها شبح العبودية، وبينما كان الطفل يبهج كل من حوله بالمقالب والنكات، طفقت مشاهد الاستعباد تنطبع في ذاكرته.

نشأ صموئيل في ولاية حدودية ليست جنوبية تماماً ولا شمالية تماماً، وإن كانت تحمل تناقضات الاثنين، وفي منزل لرجل أبيض فقير يمتلك بالكاد عبدين، تشرّب تلك الثقافة كجزء من النسيج اليومي، في المطبخ وفي الحقول وفي صمت أمه وتهكم والده العدمي، وهناك، على تماس مباشر مع الأسطورة والفجوة الأخلاقية، تفتّح خياله على أساطير القراصنة والخدع البصرية، لكنه شهد أيضاً انقساماً روحياً حاداً بين “الضمير المسيحي” و”اقتصاد العبودية”، وهو انقسام سيتحول إلى سؤال مركزي في كتاباته كلها.

في سن الـ 17 غادر ميزوري بحثاً عن أفق أوسع من ضيق البلدة الصغيرة، متنقلاً بين مهن مختلفة حتى وقع في غرام قيادة القوارب البخارية على نهر المسيسيبي، لكن الحرب الأهلية عطلت هذا الحلم فوجد نفسه مجنداً موقتاً في صفوف الجيش الكونفدرالي قبل أن يفر غرباً إلى نيفادا، حيث عمل منقباً عن الفضة ثم صحافياً مغموراً في صحيفة محلية.

وهناك، وسط جفاف الصحراء وبعد سلسلة من الخيبات، ولد “مارك توين”، الاسم المستعار الذي وقّع به أولى قصصه الساخرة، والقناع الأدبي الذي سيلازمه لاحقاً، ليجمع بين النبرة الشعبية والتهكم العميق، ويختزل المزاج الأميركي في عصره.

فن العيش الأليم

من أبرع المواضيع التي يتناولها رون تشيرنو في سيرته الضخمة تلك التي تتقصى صورة مارك توين أمام الجمهور، أو بالأحرى الشخصية التي صاغها بنفسه وصقلها على مدى عقود كما لو كانت عملاً أدبياً قائماً بذاته.، فيصفه تشيرنو بـ “ماركة مسجلة” قبل أن يدخل مفهوم “البراند” إلى القاموس الثقافي، البدلة البيضاء الناصعة، الشارب الأشعث، الارتجالات المبهرة التي تحاكي العفوية، وحركات الجسد الدقيقة على المنصة.

كان توين واعياً تماماً بقيمة صورته كشخصية عامة قادرة على الترفيه والتهكم وإبداء الرأي في كل ما هو أميركي، ولم يكن ينتظر من جمهوره أن يقرأه وحسب، بل أن يراقبه ويستهلكه ويعيد إنتاجه، ولهذا وقع اختياره على الاسم كإشارة باكرة إلى رغبته في التجذر داخل العامي واليومي، وبهذه الخطوة وضع علامة فاصلة بين الشخصي والعام، بين صموئيل كليمنس الإنسان المتردد، ومارك توين المتحدث اللبق والكاتب النجم ومحاور الملوك والملكات.

هكذا يظهر توين في سيرة تشيرنو بوصفه رائداً في فن “الأداء الذاتي”، ذلك الفن الذي يصنع فيه الكاتب قناعاً يخبئ خلفه هشاشته وصراعاته الداخلية، فالرجل الذي كان يُضحك الجماهير حد البكاء، كان منهكاً وغارقاً في الديون ومهووساً بفكرة كيف سيحكم عليه التاريخ، حد أنه سعى إلى أن يكتب تاريخه بنفسه.

في متحف البراءة

خلّف مارك توين وراءه كماً هائلاً من المذكرات والرسائل والمقابلات، ومادة متوهجة تكاد كما قيل تثقب الصفحة، ويصعب على كاتب السيرة أن ينجو من طغيانها، وقد واجه كتّاب سيرته السابقون، من ألبرت بيجلو باين (1912) إلى جاستن كابلان (1966) التحدي نفسه، فكيف يروي المرء سيرة رجل لا يكف عن رواية نفسه؟ وفي ظل هذا الفيض لا يكمن التحدي في العثور على المادة، بل في ترويضها وانتقاء ما يصنع حياة لا مجرد أرشيف، وهنا يبرز رون تشيرنو، الذي أتقن في سيرِه السابقة عن واشنطن وهاملتون وغرانت، فن الموازنة بين الوقائع الصلبة والتوتر السردي، فنجح في التقاط حياة حافلة بالتناقض.

منذ الصفحات الأولى يعلن الكاتب أنه لن يترك شيئاً بلا مساءلة (غلاف الكتاب- أمازون)​​​​​​​

 

ولعل من أكثر المحاور المربكة في حياة مارك توين ولعه الغريب خلال أعوامه الأخيرة بما سماه هو نفسه “صحبة الطفولة”، فقد دأب على إحاطة نفسه بمجموعة من الفتيات الصغيرات ممن سماهن “ملائكتي”، وكن يزرنه بانتظام ويتبادلن معه الرسائل ويتلقين منه الهدايا والتدليل، وحتى التعويذات الموقعة باسمه، وهذا السلوك الذي يبدو محيراً بل مقلقاً من منظورنا الأخلاقي المعاصر، لا يمرره تشيرنو من دون فحص أو مساءلة، وإن لم يقع في فخ الإدانة القاطعة.

يربط تشيرنو هذه الظاهرة بمحاولة يائسة لاستعادة لحظة البراءة التي طالما انشغل بها توين في أعماله من “توم سوير” إلى “هكلبيري فين”، وعندما لم يعد قادراً على إعادة خلق هذه البراءة على الورق سعى ربما إلى استعادتها في الواقع، مشيراً إلى أن “احتفاء توين بالطفولة لم يكن دائماً أدبياً محضاً، بل صار مع الوقت ملاذاً حقيقياً من وجع الشيخوخة وميراث الخسارة، ولقد بدا كما لو أنه كان يحتمي ببراءتهم ليغطي يأسه.”

ويفتح هذا التوق العاطفي باباً للتأمل في طبيعة النرجسية التي تدفع الإنسان إلى حب صورته في عيون الآخرين، فالفتيات الصغيرات كن جمهوره الدائم، يضحكن على نكاته ويعجبن بذكائه ويبقينه نجماً في مسرحه الشخصي، حتى بعد أن غادر المسرح العام.

الفصل المعتم من الحكاية

ومن بين الخيوط الأساس التي يغزلها الكتاب في نسيجه، إضافة إلى الشهرة والمال والازدواج الأخلاقي، تسلل المرض كخيط ممتد يكاد يطوق حياة الكاتب ويحدد ملامح تحوله الداخلي وعلاقته بالعالم، إذ يبدأ بفقدان ابنه الرضيع (ليفي) إثر إصابته بالدفتيريا، ثم موت ابنته الكبرى سوزي، الشابة الذكية الطموحة التي كانت تُرسل من كلية برين ماور إلى المنزل، وسط تلميحات عن علاقة مثلية غير مناسبة، لتغرق بعد ذلك في موجة من الانسحاب العقلي والجسدي انتهت بوفاتها المأسوية بسبب التهاب السحايا.

ويشير تشيرنو إلى أن وفاة سوزي لم تكن مجرد خسارة شخصية بل نقطة انكسار حقيقية، إذ كتب توين نفسه لاحقاً “من بين كل الضحايا الذين اختطفهم الموت من بيتي، كانت سوزي هي الأقرب إلى قلبي”.

أما الابنة الصغرى جين فقد ظلت لعقود أسيرة نوبات الصرع، في وقت كانت هذه الحال محاطة بالخرافات والوصمة، ويشعر القارئ من خلال فصول الكتاب بأن توين، على رغم ذكائه وتهكمه اللاذع على المؤسسات، لم يستطع أبداً مواجهة مرض ابنته بشجاعة كاملة، فقد ظل مشدوداً إلى مشاعر العار والخوف وكأن المرض يقوض سلطته كأب ويعيده لضعفه الأول كطفل خائف من فقدان السيطرة.

وقد تعمق هذا الشعور بالعجز حينما بدأت زوجته ليفي تغيب بالتدرج عن المشهد بسبب اعتلالها الطويل وملازمتها الفراش، لينسحب توين شيئاً فشيئاً إلى صمته، فقد كتب في رسالة إلى أحد أصدقائه “ليفينيا لم تعد معنا، جسدها هنا لكن روحها تسكن الظلال”.

لكن المفارقة الكبرى التي يسلط عليها تشيرنو الضوء هي أن توين، على رغم تهكمه على الدجل والمشعوذين، كان في لحظات ضعفه منجذباً إلى الطب البديل، بل وداخلاً في تجارب مريبة بحثاً عن شفاء لزوجته وابنته، وربما لنفسه أيضاً.

وبهذا العمل الموسوعي نلامس المسافة الفاصلة بين “مارك توين” الأيقونة، وصموئيل كليمنس الكائن البشري الهش، ولعل هذه المسافة التي فتش فيها تشيرنو بعين الباحث وحدس الراوي هي ما يجعل من هذه السيرة أقرب إلى عملية تنقيب أدبي تزيح الغبار عن الوجه الحقيقي خلف القناع، وتنير الجانب المظلم من الحكاية، وهو جانب همس به توين ذات مرة قائلاً “هناك رجل يعيش داخل هذا القميص لا يعرفه أحد”.

المزيد عن: مارك توينالمجتمع الأميركينوبات الصرعهكلبيري فيننهر المسيسيبيالعبودية في أميركا

 

You may also like

Editor-in-Chief: Nabil El-bkaili

CANADAVOICE is a free website  officially registered in NS / Canada.

 We are talking about CANADA’S international relations and their repercussions on

peace in the world.

 We care about matters related to asylum ,  refugees , immigration and their role in the development of CANADA.

We care about the economic and Culture movement and living in CANADA and the economic activity and its development in NOVA  SCOTIA and all Canadian provinces.

 CANADA VOICE is THE VOICE OF CANADA to the world

Published By : 4381689 CANADA VOICE \ EPUBLISHING \ NEWS – MEDIA WEBSITE

Tegistry id 438173 NS-HALIFAX

1013-5565 Nora Bernard str B3K 5K9  NS – Halifax  Canada

1 902 2217137 –

Email: nelbkaili@yahoo.com 

 

Editor-in-Chief : Nabil El-bkaili