ثقافة و فنونعربي ماركوزه كشف مبكرا عن مأزق الإنسان المعاصر “ذو البعد الواحد”؟ by admin 8 يناير، 2023 written by admin 8 يناير، 2023 66 كيف حقق مجتمع الاستهلاك انتصاراته الجذرية “النهائية” من دون دبابات أو قتل أو دماء؟ اندبندنت عربية \ إبراهيم العريس باحث وكاتب قد يكون المفكر الألماني – الأميركي هربرت ماركوزه (1898 – 1979) منسياً إلى حد ما في أيامنا هذه. فهو رحل عن عالمنا أبكر كثيراً مما يجب، والعالم الذي تغير كثيراً وبصورة جذرية منذ ذلك الرحيل، لا يتنبه اليوم كما ينبغي إلى أن ماركوزه كان من أوائل وأدق المتنبئين بكنه تلك التغيرات الجذرية، بل هو تحدث عنها في تفاصيل التفاصيل وفي دلالاتها الأيديولوجية بل حتى الجمالية العميقة، في وقت كان لا يزال فيه قدر كبير من التفاؤل يعم أصحاب العلاقة. ونحن إذ نؤكد هذه الناحية لا بد لنا من العودة تحديداً إلى النصف الثاني من ستينيات القرن العشرين يوم عمت العالم تحركات الشبيبة والحركات الاحتجاجية الطالبية. وكان هربرت ماركوزه بالتحديد واحداً من كبار نجومها ومفكراً أساسياً من مفكريها. والرجل لم يكن طارئاً أو متطفلاً في ذلك السياق، بل كان يبدو وكأنه يمضي سنواته الأخيرة وهو يتأمل كيف أنه كان دائماً على حق ومن قبل أن تندلع تلك الأحداث بنحو ربع قرن. أفكار مبكرة فلئن كان ماركوزه وقد بارح وطنه الألماني لتوه هارباً من النازية، قد باشر عمله الفكري خارج الإطار الأكاديمي ولا سيما في الولايات المتحدة حيث وصل إليها في عداد مفكري “مدرسة فرانكفورت” الفارين من براثن النازية حاملين في جعبتهم علومهم الاجتماعية النقدية والمحاولة الصعبة غالباً للجمع بين ماركس وفرويد في “تحريف” للماركسية السوفياتية وانطلاقاً من تيار نقدي يستلهم كانط في الأقل، فإن هذا المفكر الشاب والذي سيصبح بعد حين أشهر جماعة مدرسة فرانكفورت وأقلهم تقنية بل غوصاً في الفكر العملي، كان مبكراً في تلمس سمات العصر في كتابه المؤسس “العقل والثورة” (1941). وسرعان ما سوف تتتابع كتبه وتنال شهرة كبيرة وصولاً بخاصة في عام 1964 إلى كتابه العمدة “الإنسان ذو البعد الواحد” الذي، كالعادة لديه، أبكر في تشخيص المأزق الكبير الذي وصل إليه الحراك الثوري بعد وعوده الكبيرة والمفرطة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقبل ذلك الكتاب الذي يبقى لا يضاهى حتى اليوم، كان ماركوزه قد غاص في المسألة الجنسية ودورها الاجتماعي في “الجنس والحضارة” (1955) الذي ترجم باكراً إلى العربية، ثم قدم أول نقد مفهومي عميق لـ”الماركسية السوفياتية” (1958) وكان تقرير خروتشيف الشهير بالكاد عرف عالمياً. هربرت ماركوزه (1898 – 1979) (الموسوعة البريطانية) سوء فهم مبكر مهما يكن فإن “الإنسان ذو البعد الواحد” يبقى الذروة التي وصل إليها فكر ماركوزه حتى ولو أنه قوبل أول الأمر بقدر من سوء الفهم. فبسرعة جرى تبني الكتاب وأفكاره من قبل نفس الشبيبة الأميركية – ولا سيما طلاب جامعة بيركلي الذين سيكونون لاحقاً خميرة الحركة الطلابية الأميركية الاحتجاجية – الشبيبة التي يفسر لنا الكتاب كيف أنها باتت أبعد ما تكون عن قيادة حراكات ثورية توصل إلى أي مكان مهما كانت نواياها سليمة. فبالنسبة إلى المفكر الذي راح يمعن في رصد أحوال العالم، باتت المشكلة تكمن في أن الطبقات العاملة – وهي صاحبة المصلحة الحقيقية في أية تغيرات اجتماعية عادلة ينبغي أن تقاد من قبل النقابات والمجتمع المدني وأحزاب التغيير الحقيقية ذات الامتدادات الاجتماعية – هذه الطبقات لم تعد ثورية بالمعنى الذي كان القرن التاسع عشر يكرسه للثورة. لقد أدمجت في المجتمع السائد الذي لم يعد في نظر ماركوزه سوى مجتمع الاستهلاك. فالديمقراطية تحديداً، ذلك النظام الاجتماعي الذي خرج منتصراً من الحرب العالمية الثانية، باتت تمتلك سلاحاً لا سابق له في تاريخ البشرية: كثافة الإنتاج الاستهلاكي. إنتاج البضائع التي باتت قادرة على إقناع المواطنين أنهم في حاجة إليها ولم يعد في مقدورهم العيش من دونها. سيطرة مطلقة ومن طريق لعبة الاستهلاك هذه يقول لنا ماركوزه ومنذ نهاية سنوات الخمسين، باتت الديمقراطيات الأنظمة التسلطية الأقوى من دون أن تضطر إلى جعل تسلطها هذا مكشوفاً. كل ما في الأمر أنها أتقنت درسها: درساً فحواه إخفاء الفكر النقدي العميق في ثنايا واقع مادي جديد بات هو حجر الرحى في أية اهتمامات تشغل بال مثقفي يومنا هذا، بالتالي تحولت المعركة من صراع اجتماعي بين الطبقات على الشكل الكلاسيكي: طبقة تنتج محققة الحد الأدنى من مقومات العيش لذاتها وأخرى تربح محققة سيطرة تامة على قوى العمل وطبقاته الاجتماعية، تحولت إلى معركة من نوع آخر تماماً بين فئات اجتماعية جديدة راحت تولد تباعاً من حول شعار الاستهلاك الذي يحول الفرد إلى إنسان ذي بعد واحد، لم يعد همه سوى الوصول إلى تلك الرفاهية التي يوعد بها… رفاهية الوهم المتواصل. كتاب ماركوزه “الإنسان ذو البعد الواحد” (أمازون) أكثر وأكثر! إنه اقتصاد “الأكثر والأكثر دائماً وأبدا”. ومن هنا، لأن للمسألة أبعادها الثقافية وليس المعيشية فقط، بات السؤال المطروح لدى ماركوزه يتعلق بإمكانية وجود ثقافة غير قمعية تجبر هذا “الإنسان الجديد” على التمسك بالواقع الذي خلق من أجله. واقع مجتمع يتمكن من التنسيق بين مبدأ اللذة – التي يؤمنها اقتصاد الاستهلاك – ومبدأ الواقع. ويفيدنا ماركوزه هنا بأن فرويد كان قد سبق له أن رد سلباً على هذا السؤال، بيد أن ماركوزه يستطرد هنا ملاحظاً أن فرويد قد قدم جوابه كعالم نفسي وليس كعالم اجتماع، بالتالي فإن ماركوزه اندفع من ناحيته ليقدم إضافته الخلاقة كمفكر اجتماعي حول هذه النقطة بالذات: وكانت إضافته المزج بين الماركسية والفرويدية في بوتقة واحدة تحاول أن تشرح الأمر لا أن تؤدلجه. وهذا هو جوهر “الإنسان ذو البعد الواحد” الكتاب الذي سوف يستكمله ماركوزه بثلاثة كتب أخرى أصدر أولها عشية حراكات الشبيبة وتحديداً عام 1965 بعنوان “الثقافة والمجتمع” الذي ثنى عليه بكتابين آخرين ختم بهما حياته الفكرية وحياته نفسها إثر ذلك: “نحو التحرر” (1969) و”البعد الجمالي” (1977). الفن أمل أخير والحقيقة أن ماركوزه إذ كان قد خلص في “الإنسان ذو البعد الواحد” إلى إبداء تشاؤمه من إمكانية أن تندلع في العالم حراكات تغييرية حقيقية وقد باتت “الديمقراطيات” مسلحة بما اعتبره “سلاح الاستهلاك المدمر”، أعلن عن أنه لا يزال يؤمن بقدرة الهامشيين في المجتمعات/ كبيرة كانت أم صغيرة، على خرق ذلك السور الجديد السميك: وهو يتحدث هنا تحديداً عن الفنانين والأقليات العرقية والجمعيات غير الحكومية والفئات الأكثر راديكالية في العمل النقابي. أي بالتالي كل تلك المجموعات الشبابية الخلاقة القادرة الآن والقادرة دائماً على إحداث خرق في المنظومة الرأسمالية التي فرضت ثقافة أحادية مستوعبة حتى أكثر الفنون راديكالية ضمن إطار نظامها الاستهلاكي الأحادي. فـ”لئن كانت المنظومة قادرة على دمج مجمل أبعاد الوجود الاجتماعي في بوتقتها، لا شك أن القوى الأكثر وعياً في المجتمعات لا تزال قادرة على التصدي وتحديداً من خلال وعي فني بإمكانه أن يلعب دوره لتخليص الفرد من البعد الواحد، البعد الاستهلاكي، الذي يحشر فيه” بحسب ملاحظة لماركوزه تبدو هنا كوصية أخيرة من دون أن تعلن كونها حلاً يقينياً. نقطة تفاؤل على رغم كل شيء فبالنسبة إلى هذا المفكر الذي كان كل ما حوله يوحي في سنواته الأخيرة بقدر كبير من السوداوية والتشاؤم، كان هو لا يزال مصراً على أن يرى إمكانية ما للخروج من “المأزق”، وفقط على أية حال عن طريق الوعي، أي من طريق العمل الفني الراديكالي الذي يمكنه أن يخلق لدى الإنسان ذلك الوعي الثوري الذي يتمثل في تغيير في الذهنيات “ليس من الضروري أن تكون غايته الوصول إلى الحكم” بل “الوصول إلى قدر من الوعي يؤدي بدوره إلى نوع من تبدل في الذهنيات يعيد إلى الإنسان ما يحاول مجتمع الاستهلاك أن يسلبه إياه: كرامته التي تحتم عليه الخروج من (القطيع)…”. وما الخروج من القطيع بالنسبة إلى ماركوزه سوى القطع مع أحادية البعد التي يعتبرها، وتحديداً في ثنايا “الإنسان ذو البعد الواحد” الأغلال الأكثر سماكة التي كبل بها الإنسان في تاريخه، الأغلال التي تذكرنا في الأقل بتلك العبودية التي يرضى بها الإنسان لنفسه من دون إكراه، والتي يحدثنا عنها لا بويسيه في كتابه الشهير “العبودية الطوعية” الذي لا شك أنه كان يحوم في فكر هربرت ماركوزه فيما كان يدبج “الإنسان ذو البعد الواحد”. المزيد عن: هربرت ماركوزه\الإنسان المعاص\رمدرسة فرانكفورت الفلسفية\كارل ماركس\سيغموند فرويد 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post حظر “تيك توك” في الهند يرسي “سابقة مهمة” next post إصدارات جديدة ينصح بقراءتها مع بداية السنة You may also like براعة باخ في كونشرتوات براندنبورغ وأثرها الدائم 19 نوفمبر، 2024 في روايته الجديدة… أوبير حداد يصوّر الحرب بعيني... 19 نوفمبر، 2024 16 فيلم رعب تسببت بصدمة نفسية لممثليها 19 نوفمبر، 2024 العداوة والعدو كما فهمهما الفلاسفة على مر العصور 19 نوفمبر، 2024 قصة واحدة من أكبر الأكاذيب في تاريخ حكايات... 19 نوفمبر، 2024 أول ترشيحات “القلم الذهبي” تحتفي بالرعب والفانتازيا 17 نوفمبر، 2024 شعراء فلسطينيون في الشتات… تفكيك المنفى والغضب والألم 17 نوفمبر، 2024 “بيدرو بارامو” رواية خوان رولفو السحرية تتجلى سينمائيا 16 نوفمبر، 2024 دانيال كريغ لا يكترث من يخلفه في دور... 16 نوفمبر، 2024 جاكسون بولوك جسد التعبيرية التجريدية قبل أن يطلق... 16 نوفمبر، 2024