مشهد من تقديم لأوبرا _لوكريشيا بورجيا_ لدونيزيتي (موقع الأوبرا) ثقافة و فنون “لعنة لوكريشيا بورجيا” تصيب دونيزيتي صاحب الأوبرات الـ70 by admin 29 أبريل، 2025 written by admin 29 أبريل، 2025 9 منافس فيردي الرئيس أمضى أعوام نجاح عدة وأقل قليلاً من الغرق في الجنون اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب في أزمنتنا هذه، حين يريد مؤرخ فني ما أن يتحدث عن الموسيقي الإيطالي غايتانو دونيزيتي بأكبر قدر من الاختصار ذي الدلالة، لا يجد أمامه سوى عنوان واحد وحقيقة تاريخية صارخة: العنوان هو “إكسير الحب”، والحقيقة رقمية بصورة مدهشة: 70 أوبرا لحنها دونيزيتي في أقل من 30 عاماً، لعل أههما وأشهرها تلك الأوبرات، التي يبلغ عددها أكثر من دزينتين، ظهرت خلال النصف الأول من ثلاثينيات القرن الـ19. ولعل ما يجدر بنا ملاحظته هنا هو أن واحدة فقط من بين أوبرات دونيزيتي العديدة تبدو وقد عاشت، بقوة، حتى أيامنا، لتقدم، بشكل متواصل، على خشبات العالم وعبر شاشاته التلفزيونية وغالباً بالصورة التي تركها دونيزيتي عليها منذ ما يقارب القرنين حين اختار أن يخوض مغامرة بدت حينها غير محسوبة في حياته المهنية، مغامرة تحويل مسرحية كتبها الفرنسي الكبير فيكتور هوغو عن “لوكريشيا بورجيا” الأميرة الإيطالية التي عرفت بالعدد الكبير من الجرائم التي ارتكبتها خلال حياتها القصيرة، وبالكم الكبير من التصرفات الضالة، على كل المستويات، التي اقترفتها خلال تلك الحياة، مما جعلها امرأة استثنائية في التاريخ الأوروبي. ولكن لئن تساءل القارئ هنا أين هي المغامرة في ذلك كله؟ فالجواب بسيط وقد نجده لدى هوغو نفسه الذي تحدث في مقدمة مسرحيته حين نشرها عن أن “في مقدورنا لكي نكتب عملاً ناجحاً، أن نأتي بامرأة عرفت بكل أنواع الجرائم وكميات السم التي قتلت بها عشاقها وغيرهم، وأن نوصف جرائمها وفسادها، ومن ثم نتحدث عن كونها أماً وامرأة، لننسف تلك المواصفات عنها ونجعلها كائناً يستحق الشفقة مع نسيان ما اقترفته أو العثور على مبررات مقنعة له”. يوم كتب هوغو ذلك، أجابه كثر بأن هذا قد ينفع في الأوبرا ولكن ليس في الأدب ولا في المسرح، وربما يكون دونيزيتي قد التقط ذلك الجواب ليخوض مغامرته أوبرالياً. غايتانو دونيزيتي (1797 – 1848) (ويكيبيديا) بين المسرح والعمل الغنائي مهما يكن لا بد من أن نشير هنا إلى أن “لوكريشيا بورجيا“، كما قدمها هوغو للمسرح مقتبساً إياها عن التاريخ الذي كتبه تيت ليف (أو تيتوس ليفيوس) عن مكان تلك المرأة في التاريخ الروماني الذي تنتمي إليه، حتى وإن كانت حققت حينها نجاحات جماهيرية كبيرة، لم تعتبر من أعماله القوية، ومن هنا قال دونيزيتي إنه في اقتباس المسرحية للفن الأوبرالي سيضع الأمور في نصابها، وكان ذلك بدءاً من الأيام الأخيرة لعام 1833 المعتبر عام الذروة في مساره المهني، العام الذي كانت فيه الفرق والمسارح الإيطالية، ولكن أيضاً خارج إيطاليا بصورة عامة، تتسابق على تقديم كل جديد له من “إكسير الحب” إلى “ماريا ستيواردا” فـ”الغاضب في الجزيرة” (التي كانت على أية حال موضوع أول صراع له مع الرقابة…). ولنقل إن “لوكريشيا بورجيا” كانت في ذروة المرحلة التي أمعن فيها دونيزيتي اقتباساً عن الأدب الأوروبي فيما كان كبار منافسيه يغرقون في الاقتباس من التاريخ. وآية ذلك أنه حتى حين أراد يومها أن يلحن مسرحيات تاريخية، تعمد ألا يقتبس أعماله عن التاريخ بل عن الكتاب المسرحيين الذين استعملوا ذلك التاريخ، من شيلر إلى بايرون وصولاً طبعاً إلى هوغو في “لوكريشيا بورجيا” التي قدم عرضها الأول في “لا سكالا” في ميلانو في الـ26 من ديسمبر (كانون الأول) عام 1833 الذي أشرنا إليه. ولعل في إمكاننا هنا الإشارة إلى أن من اللافت للنظر أن يكون دونيزتي قد روج، بنفسه، لتلك الجزئية المتعلقة بـ”المغامرة” التي لا يتوانى عن خوضها في اقتباسه مسرحية هوغو، من خلال نشره وعلى نطاق واسع، مقدمة هوغو التي أشرنا إليها قبل سطور ولا سيما منها المقاطع التالية “خذوا التشوهات الأخلاقية الأكثر قبحاً والأكثر إثارة للنفور، ثم امزجوا تلك التشوهات بقدر كبير من العاطفة الأكثر نقاء التي يمكن للمرأة أن تتسم بها: عاطفة الأمومة. بكلمات أخرى ضعوا في قلب الوحش الذي صنعتموه أول الأمر أما، فتكتشفون كم أن هذا الوحش سيثير الاهتمام ويؤدي إلى ذرف دموع المتفرجين والعالم كله، وكيف أن ذلك المخلوق الكريه، بدلاً من أن يستثير الرعب سيستثير الشفقة…”. صحيح أننا قد نجد في هذا الكلام استباقاً لمفهوم السينمائي الكبير ألفرد هتشكوك حين قال إنه إنما يوجه في شرائطه مشاعر الجمهور لا مشاعر الممثلين، غير أن ما سينجح مع هتشكوك لم ينجح كثيراً مع دونيزيتي الذي لن تكون تلك الأوبرا على النجاح نفسه الذي حققته أعماله الأخرى في ذلك الحين. في فخ التناقض ولا بعد ذلك، إذ حتى اليوم لا تزال أوبرا “لوكريشيا بورجيا” تعتبر ملعونة سوداء مظلمة ومثيرة للرعب الداخلي لدى من يغامرون، بدورهم، في مشاهدتها. في نهاية المطاف سيبدو هنا وكأن لعنة ما، انتقلت من هوغو إلى غايتانو دينوزيتي وتحديداً بسبب تلك المرأة التي لم يكف تيت ليف في تاريخه الروماني عن التعبير عن لعنتها. الحقيقة أن المبدعين الذين تابعوا حياة لوكريشيا، ابنة بورجيا المنفلتة من كل بعد أخلاقي في كتابتهم أو موسقتهم أو مسرحتهم المرحلة الأساسية من حياتها، عرفوا كيف يحولون إبداعاتهم إلى أعمال ناجحة، من دون أن نستثني من بينهم هوغو الذي، من قبل أن يضفي على مسرحيته عبر تقديمه المشار إليه لها، ذلك البعد التجديدي الذي قد يكون من شأنه أن يحرك قلم عدد من المتحدثين عن الشر والجنون في إبداعاتهم، من أمثال جورج باتاي وأنطونين أرتو، وحتى جاك أوديبرتي وتوماس دي كوينسي. هوغو كان قد عرف كيف يستقيها بحذق من تيت ليف نفسه الذي كان على أية حال، قد أعطى الإشارة بكون لوكريشيا تستحق الرجم لا… الشفقة. وفي المقابل حين اختار دونيزيتي، وعبر النص الأوبرالي الذي كتبه لها، انطلاقاً من هوغو بالطبع، أن ينظر إلى الأمور تلك النظرة، وقع في فخ ذلك التناقض الذي يبدو الآن واضحاً بين نص هوغو ومقدمته! ومهما يكن من أمر هنا، على أية حال، لا بد من الإشارة إلى أن الاثنين معاً، هوغو ودونيزيتي سيبدوان أمام التمحيص، منتمين في ذلك العمل “المشترك” إلى مفاهيم تنتمي الآن إلى القرن الـ20 بانفلاته العاطفي – الأخلاقي بأكثر من انتمائهما إلى الزمن الذي ولد فيه عملهما هذا. ترى هل كان يمكن، في تلك المرحلة المبكرة من مراحل الرومنطيقية المفرطة بل حتى المنفلتة، أن تجد، على سبيل المثال، من يصفق لمبدعة من طينة مرغريت دوراس، التي حين تبين للقضاء الفرنسي أن الطفل البريء غريغور الذي وجد، ذات يوم، جثة هامدة ليتبين للمحققين، أو ليفترضوا في الأقل، أنه إنما قتل بيد أمه التي كانت قد قدمت من قبل الصحافة طوال أعوام بوصفها أماً مفجوعة، قالت (أي دوراس) “يا له من سمو… يا له من فعل سام؟!”. بين الأم والابن إن شيئاً بل قولاً من هذا القبيل هو ما عبر عنه هوغو، ولو مواربة، في تعليقه على فعلة لوكريشيا بورجيا التي يخبرنا، هو نفسه، أنها ارتكبت الموبقات مع عشاقها قبل أن تقتلهم بالسم، وكان من بينهم ابنها قبل أن تتعرف إليه وتحاول في النهاية أن تنقذه من سمها القاتل، فكان أن رفض هو نفسه عملية الإنقاذ المفتعلة تلك، بل انتهى به الأمر قبل أن يموت بسم أمه، إلى أن يقتل أمه، بنفسه، قبل أن يموت، بدوره بالسم الذي وضعته له تلك الأم، ثم حين عرفت أن هذا العشيق ليس في حقيقة أمره سوى ابنها، حاولت أن تنقذه بترياق تمتلكه فرفض! ولنذكر هنا أخيراً على سبيل الختام أن ذلك هو موضوع المسرحية القائمة وبحسب تيت ليف، على وقائع تاريخية، لنقول إن ما دونه هوغو في تقديمه المسرحية، وليس طبعاً في المسرحية نفسها، لا يبدو بعيداً جداً عما ستقوله مرغريت دوراس بعد ذلك بقرن ونصف القرن، ربما عن حال أخرى وظروف مختلفة، ولكن بالتأكيد في المعنى نفسه… وربما سيكون جزءاً مما آلت إليه لعنة دونيزيتي حين أقدم على موسقة هذا العمل. المزيد عن: لوكريشيا بورجياغايتانو دونيزيتيإكسير الحبتيت ليفالفن الأوبراليألفرد هتشكوكفيكتور هوغو 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post موسوليني ينتقل من زعيم فاشي إلى بطل روائي next post الكوري كيم يونغ ها يرسم روائيا سيرة قاتل متسلسل You may also like الكوري كيم يونغ ها يرسم روائيا سيرة قاتل... 29 أبريل، 2025 موسوليني ينتقل من زعيم فاشي إلى بطل روائي 29 أبريل، 2025 قضايا الأدب والترجمة والتعددية الثقافية تشغل معرض الرباط 29 أبريل، 2025 الموجة النسوية الثالثة كما تتجلى في 4 روايات 29 أبريل، 2025 دورر الألماني… سافر إلى “المجهول” وعاد فنانا استثنائيا 29 أبريل، 2025 أشهر صدامات هوليوود في مواقع التصوير 29 أبريل، 2025 “6 أيام” فيلم استثنائي لكنه مصاب بلوثة الاقتباس 27 أبريل، 2025 هل ما زال فن الغرافيك صوتاً للجماهير كما... 27 أبريل، 2025 الياباني إيبوزي يستجمع أصوات ومصائر ضحايا حروب الآخرين 27 أبريل، 2025 إدوارد مونخ: وجوه بين العزلة والجنون 26 أبريل، 2025