الميت السعيد بريشة مونخ (متحف الرسام) ثقافة و فنون لا تكون الحياة سعيدة إلا بعد اختبار الموت روائيا by admin 30 يناير، 2024 written by admin 30 يناير، 2024 157 الفرنسي دافيد فونكينوس يواجه أزمة العيش في عصر الاضطراب اندبندنت عربية / مارلين كنعان أستاذة الفلسفة والحضارات، كاتبة وباحثة @MARLKANAAN تحمل الرواية الجديدة للكاتب الفرنسي المعروف دافيد فونكينوس (1974) الحائز عام 2014 جائزة رونودو عنوان “الحياة السعيدة”، ويبدو عنوانها مثار تساؤل، حول معنى سعادة الحياة في مثل هذا العصر، عصرنا. لكننا نكتشف أن بطلها رجل فرنسي في الـ40 من عمره يدعى إريك كيرسون، مطلق ووالد لمراهق يراه قليلاً، يعمل منذ سنوات مديراً تجارياً لسلسلة متاجر تبيع الألبسة والأدوات الرياضية. وعلى رغم نجاحه اجتماعياً، يتبدى كيرسون كرجل على حافة الانهيار، تتآكله مأساة عائلية لا يخفف من حدة وطأتها شيء. فجأة وعلى غير انتظار تتصل به رفيقة من رفاق الدراسة الثانوية تدعى آميلي مورتييه، كان قد أعاد صلته بها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تطلب منه الانضمام إلى مكتبها في وزارة التجارة الخارجية، في وقت يسيطر عليه الشعور بالوحدة والفراغ الداخلي لفقدانه الدافع والشغف لمتابعة أي شيء في الحياة. مع ذلك يقرر كيرسون تقديم استقالته من عمله الذي أمضى فيه قرابة 20 عاماً والانطلاق برفقة زميلة الدراسة القديمة إلى سيول، للعمل على الفوز بصفقة تجارية بين فرنسا وكوريا الجنوبية. وبينما هما في هذه المدينة البعيدة من باريس، يشعر إريك بالاكتئاب والحزن الشديدين وغيرهما من الاضطرابات المزاجية التي تدل على تدهور حالته النفسية، مما يؤثر في قدرته على أداء مهامه الوظيفية الجديدة. لكنه صدفة يجد نفسه في أحد شوارع العاصمة الكورية أمام متجر يحمل اسماً إنجليزياً “هابي لايف” أو “حياة سعيدة”، يقدم لزبائنه، بغية إعادة طعم الحياة إليهم، تجربة عيش مراسم جنازتهم لبضع ساعات، تجربة يخرج منها إريك كيرسون متحولاً. تبدأ رواية دافيد فونكينوس بقول مستل من كتابات الرسامة الألمانية البالغة من العمر 26 سنة شارلوت سالومون التي قتلت وهي حامل، وقد خصها فونكينوس برواية حملت اسمها صدرت عام 2014. يلخص هذا القول فكرة الكتاب الأساسية: “يجدر بنا لنحب الحياة أكثر أن نموت مرة واحدة”. فكيف ستكون حياة الإنسان إذاً إن جرب نهايتها؟ حياة على عقب “الحياة السعيدة” بالفرنسية (دارغاليمار) في مرحلة من حياته حيث لا شيء جديداً يبدو ممكناً، يقلب اتصال آميلي مورتييه حياة كيرسون رأساً على عقب. ولعل هذا الاتصال يشكل الحلقة الأولى من سلسلة أحداث يؤلف مجموعها حبكة الرواية الرئيسة التي تدور أحداثها بين العامين 2019 و2020. فبعد تقديم فونكينوس بأسلوبه الشيق المعلومات الضرورية عن الشخصيات والظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تجري فيها أحداث قصته المتأزمة شيئاً فشيئاً، والتي تتداخل بالمشكلات والقضايا الفرنسية والعالمية الحقيقية، يبدأ بسرد تفاصيل حياة بطله منذ انتهائه من مرحلة الدراسة الجامعية وانتقاله من مدينة رين، عاصمة مقاطعة بريتاني، للعيش في باريس وبحثه المضني عن عمل، ثم، مرهقاً من إرسال سيرته الذاتية، ثم قبوله وظيفة بائع في قسم رياضة كرة المضرب في متجر متخصص في بيع الأدوات والألبسة الرياضية. ويتحدث عن لقائه بزوجته إيزابيل وولادة ابنهما هيغو، ومغامرته العاطفية القصيرة مع زميلته بنيديكت، وعلاقته بأمه وموت والده وانفصاله عن زوجته وسفرها مع صديقها وابنهما. غير أن الحياة التي تعب إريك كيرسون في بنائها سرعان ما بدأت تفقد بريقها. مع ذلك يتابع مسيرته المهنية وتدرجه الوظيفي حتى توليه مهام المدير التجاري في المؤسسة التي يعمل فيها. وها هو ذا في الـ40 من عمره يعيش تعب رجل قد ناهز الثمانين، “كأن جسده، على ما يقول، قد سلك مسار التخلي عن الحياة”. في هذه الحقبة المتأزمة من حياته الروتينية الفارغة، يجيء اتصال آميلي مورتييه، الأربعينية المتألقة والباحثة عن أشخاص موهوبين ومتحمسين للانضمام إلى فريق عملها، بمثابة خشبة خلاص. في البداية يتردد إريك في قبول عرضها. غير أن الاعتقاد أن تغيير وظيفته، على أهميتها، سيغير مسرى حياته جعله يقبل المغامرة الجديدة. على هذا المستوى من السرد تتبدى شخصية آميلي مورتييه كأنها تشبه إلى حد كبير شخصية كيرسون نفسه. فهي مثله تغرق نفسها في العمل هرباً من علاقة زوجية تتعرض للانهيار، على رغم وجود ابنتيها. ولكن هذه المرة، لن تستمر الحياة كما هي من دون متاعب. ففي كوريا، القوة الاقتصادية العالمية، لا حد لاستنزاف العمالة البشرية وما يرافقها من أمراض الاكتئاب وحوادث الانتحار والتقدير المفرط للنجاح، مما يدفع آلاف البشر إلى رهبة الفشل. وقبيل موعدهما مع رئيس مجلس إدارة شركة عملاقة في مجال صناعة الإلكترونيات، لإقناعه بإنشاء مصنع في فرنسا لتصنيع “جيل جديد” من الدراجات الهوائية الموجهة بنظام تحديد المواقع المدمج (GPS)، يبدأ إريك باكتشاف الوجه الآخر لزميلته، وتبدأ روابط غريبة تتشابك بينهما، لا سيما بعد الوعكة الصحية التي ألمت به أثناء اجتماعه وزميلته برئيس مجلس إدارة الشركة الكورية، مما أدى إلى توقف الاجتماع المهني الحاسم. مشكلات حميمة \ الروائي الفرنسي دافيد فونكينوس (أ ف ب) بعد تأجيل موعد العمل إلى اليوم التالي، وحضور الطبيب إلى الفندق لمعاينة كيرسون، يلتقي الزميلان القديمان حول كأس، فيرقصان، ثم يمشيان في الليل تحت المطر. كان هذا اللقاء كافياً ليبدأ كل واحد منهما بالبوح للآخر عن مشكلات حياته الحميمية. فليس من الضروري أن يكون الأشخاص الذين نراهم كل يوم هم الذين يعرفوننا أكثر. بعد عودتهما إلى الفندق، تصعد آميلي إلى غرفتها بينما يبقى إريك في البهو وقد تواعدا على اللقاء في الغد عند الساعة الواحدة من بعد الظهر. لكن إريك لم يحضر للقاء زميلته. في هذه اللحظة بالذات، يبني ديفيد فونكينوس جزءاً مهماً من حبكة روايته، فتزداد الأحداث غموضاً وتعقيداً في خط زمني متصل لا تقطعه سوى بعض الذكريات التي تضيفها شخصيات الرواية المعدودة على الأصابع. ففي حين تتوالى المقاطع التي تصف بحث آميلي اليائس عن زميلها، وذهابها بمفردها إلى موعدهما المهم وتلقيها اتصالاً من الفندق يفيدها بعودته وارتباكها في عرض مشروعها على مجلس إدارة الشركة الكورية الكبرى، نراها تطرق باب غرفته، فتسمع وقع خطواته قبل أن يفتح لها، ليبدو وكأنه متعب للغاية، كرجل عاد للتو من رحلة استمرت سنوات طويلة. كان هذا الظهور وحده كفيلاً بإرباكها. لكن إريك ظل صامتاً عاجزاً عن شرح التجربة التي عاشها، محاصراً نفسه بين الصمت المطبق والاعتذارات المتلعثمة، على رغم غضب آميلي وارتباكها من تصرفه غير المنطقي، وعدم قدرتها على إيجاد السلوك الواجب عليها اتباعه تجاهه، أكان غضباً أم تهديداً. لكنها فضلت خياراً براغماتياً آخر، إذ قالت لزميلها إنها ستمنحه بعض الوقت ليعيد تجميع أفكاره، ويخبرها بما حدث، مكررة له معنى أن يترك وظيفته بهذه الصورة، وهو في مهمة رسمية. وفيما ينتهي الجزء الأول من الرواية، ينفتح الجزء الثاني منها والذي يشكل نوعاً من الاستعارة لحياة إريك. فماذا حدث بالضبط لإريك كيرسون في هذه الليلة الكورية؟ دعوني أقول للقارئ إنه سيكون مدهوشاً. فعلى رغم خفة الرواية ظاهراً، فإنها على المستوى الإنساني ستأخذ منحى جدياً مذهلاً. فبطلها المرتفع ككرة في مهب الريح، سرعان ما يعود إلى واقعه مرتطماً بحياته، التي كثيراً ما أراد أن يكون في لحظة منها، شخصاً آخر. لكن متى يستطيع الإنسان أن يكون شخصاً آخر؟ ذلك أن الزمن الذي يشكل الموضوع الرئيس لهذه الرواية المفتوحة على كم من المعاني والقراءات، والذي نولد ونحيا ونحن مفتونون بإمكانية الهرب منه، يحكمنا. فكيف يمكن للإنسان العيش من دون المعاناة من تقدم الزمن؟ وهل بإمكانه تغيير حياته والعودة بالزمن إلى الوراء؟ وماذا عن إيقاع الحياة في المجتمعات المعاصرة؟ بغية الإجابة عن هذه الأسئلة وتوضيح دلالات النص الروائي ومقاصده المباشرة وغير المباشرة، يجدر بقارئ “الحياة السعيدة” التوقف عند الزمن الروائي المنتقل باستمرار من الزمن الحاضر إلى الزمن الماضي أو ما يسمى الاسترجاع، والمنتقل من الزمن الحاضر إلى الزمن المستقبل أو ما يسمى الاستباق. صباح جديد في الفصل الثاني من الرواية يستعيد كيرسون تفاصيل ذاك الصباح الذي غير حياته. منه نعرف أنه بعد استيقاظه باكراً وتناوله طعام الإفطار في غرفته، خرج من الفندق على رغم المطر المنهمر بغزارة للسير في شوارع المدينة الضخمة المشتملة على ناطحات سحاب حديثة وأضواء نيون تتلألأ جنباً إلى جنب، مع المعابد والهياكل البوذية والقصور التقليدية. غير أنه في سيره يتوقف من دون حراك لدقائق، وقوف اتخذ في نظره بعداً ماورائياً، وهو الذي هدر حياته في الجري وراء العمل والأشياء اليومية الصغيرة. ولعل شعوره بالحاجة إلى إبطاء إيقاع حياته، اضطره إلى أن يعترف أن الوعكة الصحية التي ألمت به في اليوم السابق لم تكن نتيجة وهن جسدي عارض، بل كانت دليلاً على افتقار حياته إلى طعم. ففي قلب هذا الاكتظاظ والصخب في سيول، أدرك إريك أخيراً أمراً أساسياً، أنه يشعر بالاختلاف عن سائر البشر، ولم يعد يجد أي دافع لتكرار توالي الأيام على وتيرتها المملة. ببساطة، لم يعد يرى إريك كيرسون معنى لحياته التي بدأت تتبدى له كمسرحية وجودية مرهقة. غير أنه في وقفته الكيانية هذه، استرعى انتباهه على الجانب الآخر من الشارع لافتة كتب عليها باللغة الإنجليزية بأحرف من نيون حمراء عبارة “الحياة السعيدة.” والحياة السعيدة هي طقس موجود فعلاً في كوريا الجنوبية، قوامه عيش مراسم الجنازة الخاصة المرتبطة بموت كل فرد. وقد رأى إريك في هذا الطقس شكلاً من أشكال الخروج من رتابة حياته وتفاهتها، ووسيلة لاستعادة معنى وجوده وإعادة ابتكار نفسه. فهل يمكن مقاومة مواجهة محدودية وجودنا ومراسم جنازتنا والتحدث عن رغبة متزايدة في الحياة بسبب من وعينا بالموت؟ لم يكن لدى إريك أي فكرة عن سير الجنازة. فبعد دخوله إلى هذا المكان الغريب، قادته امرأة متشحة بالسواد إلى غرفة غارقة في الظلام عابقة برائحة قوية من البخور، وقبل أن تتركه وحيداً، طلبت منه أن يخلع حذاءه، ثم ظهر رجل اهتم بتحضير صورته الجنائزية وشاهدة المدفن وساعده على كتابة نعوته، ثم كفنه ووضعه في تابوت محاط بالشموع… كانت هذه التجربة العبثية كفيلة أن تحمل إريك على التفكر في حياته وفي عجزه عن العيش وفي نقص قوته الداخلية، مما جعله يستعيد شريط أحداث أيامه منذ الطفولة. وما هي إلا لحظات حتى أغلق الرجل على إريك كيرسون النعش قبل أن يعود به مجدداً إلى الحياة. هل تتيح تجربة ملامسة العدم لإريك العودة لما هو جوهري في حياته واستدعاء إنسانيته ليعيشها بطريقة أفضل؟ هذا بالضبط ما تحاول هذه الرواية الفريدة قوله عبر حملنا على التفكر في معنى حياتنا ومواجهة إنسانيتنا من دون الهرب منها في العمل المرهق والتسليات التي يحاول البعض بواسطتها تجنب التفكير في أمور الحياة الأكثر عمقاً. فما معنى أن تكون حياة الإنسان سعيدة؟ هل تكون السعادة في إشباع جميع المعايير الواردة في القائمة الطويلة التي تضعها النظم الاجتماعية العالمية القائمة على الاقتصاد والاستهلاك، والركض وراء الصفقات، وطغيان المظاهر الخداعة الفارغة التي تميز عصرنا أم محاولة العيش في سلام مع ذاتنا؟ هذه هي المعادلة التي يحاول دافيد فونكينوس حلها في هذه الرواية التي تحاول أن تقول لنا إن الإنسان هو الذي يضع في النهاية معنى لحياته وإن سعادة كل يوم من عمره تحددها خياراته وقراراته. فمن خلال قصة حياة إريك كيرسون يظهر لنا فونكينوس أن الشعور المدمر بالذنب، هو السم البطيء الذي يلوث خيارات الإنسان وعلاقاته مع الآخرين، مذكراً إيانا بمدى أهمية مسامحة نفسنا كخطوة أولى نحو أي تهدئة مع الحياة. دافيد فونكينوس ترجمت أعماله إلى نحو 40 لغة بما فيها العربية، فقد صدرت له في الكويت في سلسلة “إبداعات عالمية” روايتان هما “الرقة” و”إني أتعافى”، ورواية “الطاقة الإروسية لزوجتي” عن المركز الثقافي العربي في بيروت. المزيد عن: روائي فرنسيروايةالعصر الحديثالإضطرابالحياةالعيش اليوميكورياالموت 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post “الليل الأميركي” حلم فرنسوا تروفو الذي حققه خلال زيارة سياحية next post مستشفى جنين ليس الأول… «التنكُّر» سلاح إسرائيل الفعال للاغتيالات You may also like مهى سلطان تكتب عن: جدلية العلاقة بين ابن... 27 ديسمبر، 2024 جون هستون أغوى هوليوود “الشعبية” بتحف الأدب النخبوي 27 ديسمبر، 2024 10 أفلام عربية وعالمية تصدّرت المشهد السينمائي في... 27 ديسمبر، 2024 فريد الأطرش في خمسين رحيله… أربع ملاحظات لإنصاف... 27 ديسمبر، 2024 مطربون ومطربات غنوا “الأسدين” والرافضون حاربهم النظام 27 ديسمبر، 2024 “عيب”.. زوجة راغب علامة تعلق على “هجوم أنصار... 26 ديسمبر، 2024 رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري… الراسخ في... 26 ديسمبر، 2024 محمد حجيري يكتب عن: جنبلاط أهدى الشرع “تاريخ... 26 ديسمبر، 2024 دراما من فوكنر تحولت بقلم كامو إلى مسرحية... 26 ديسمبر، 2024 يوسف بزي يتابع الكتابة عن العودة إلى دمشق:... 26 ديسمبر، 2024