ثقافة و فنونعربي كيف أرّخت ثلاثية “يو إس أي” للحلم الأميركي عند مفتتح الحداثة؟ by admin 18 مارس، 2022 written by admin 18 مارس، 2022 22 دون باسوس الذي رحل من دون أن يتنبه له أحد في ديارنا المشغولة بأمر جلل اندبندنت عربية \ إبراهيم العريس باحث وكاتب من المؤكد أن كثراً من مثقفي النخبة العربية كانوا يعرفون الكاتب الأميركي جون دوس باسوس وقرأوا عدداً من رواياته في لغتها الأصلية أو مترجمة، ومنهم بصورة خاصة الروائي المصري صنع الله إبراهيم الذي حاكاه إلى حد ما في بعض رواياته وأساليبها المبتكرة. ومع ذلك، حين رحل دوس باسوس عن عالمنا، لم يتنبّه أحد إلى رحيله ولا تنبّه حتى صنع الله إبراهيم، بل وربما لم ينشر الخبر في أية صحيفة عربية. والسبب في غاية الأهمية على الرغم من بساطته، فلقد كان من سوء طالع دوس باسوس أنه توفّي في 28 سبتمبر (أيلول) عام 1970، أي تحديداً في اليوم ذاته الذي رحل فيه الرئيس جمال عبد الناصر، ذلك الرحيل الذي فجع العالم العربي بقدر ما فجع مصر، من المحيط إلى الخليج، بحسب التعبير المحبب لكثر من العرب حينها. وكان رحيل عبد الناصر من الضراوة وإثارة الحزن لدى أكثرية العرب من ناحية، والشماتة والسرور لدى أقلية منهم من ناحية ثانية، إلى درجة أن أنسى العرب جميعاً الاهتمام بأي أمر آخر، لا سيما بموت روائي أميركي كان أدبه وقفاً على النخبة في أحسن الأحوال. في خضم الحداثة الأدبية مهما يكُن من أمر، حتى لو لم يرحل الزعيم المصري في ذلك اليوم، كان من المنطقي ألّا يثير رحيل دوس باسوس سوى الحد الأدنى من الاهتمام. فهو كان أولاً وأخيراً كاتباً تجريبياً، كما كان إلى حد كبير مبتكر أساليب أكثر منه صاحب مواضيع. ومن هنا، يمكن القول إن أدبه لم يكُن واسع الشعبية كأدب إرنست همنغواي أو جون شتاينبك، لكنه كان في المقابل شديد الحضور في الأدب والتاريخ الأميركيين. وإذ نؤكد هذا، تتوارد في ذهننا ثلاثيته الكبرى “يو إس أي” – الحروف التي تختصر اسم الولايات المتحدة الأميركية – التي تُعتبر عمله الأساسي، كما تُعتبر واحدة من أكثر الروايات تجريبية في تاريخ الأدب. وهي تُعتبر كذلك إلى درجة أن كثراً من المؤرخين يتساءلون اليوم بعد مرور نحو قرن من صدور جزئها الأول عما إذا كان في إمكانهم اعتبارها رواية، أم يجدر بهم النظر إليها كنوع من تاريخ لهذه الأمة – القارة يتتبع مسارها خلال الأعوام الثلاثين الأولى للقرن العشرين؟، أم تراها كما يرى آخرون نوعاً من الرصد للتجديدات الأدبية والفنية والعلمية والسياسية طبعاً التي عاشتها هذه الأمة، أو نوعاً من المتابعة للتبدلات الأخلاقية التي طاولت أبناءها من كل الفئات والطبقات؟ غلاف واحدة من الطبعات الأولى لكتاب “يو أس آيه” (أمازون) أمّتان لا أمة واحدة والحقيقة أن الجواب المنطقي الوحيد لهذه الأسئلة هو أن “يو إس أي” هي ذلك كله تابعته في توازن دقيق ولغة إبداعية، حرص الكاتب على أن تعبّر في نهاية الأمر عن بعد أيديولوجي يتضافر مع نظرته هو التقدمية، بل الطبقية لتاريخ الأمة وإبداعاتها في المجالات كافة. ولنبادر هنا إلى القول حتى قبل أن ندنو من تفاصيل الثلاثية إن دوس باسوس أحسن التعبير عن موقفه حين يعلّق خلال حديثه عن إعدام السلطات الأميركية للفوضويين ساكو وفانزيتي على الرغم من الضغوط التي مورست عليها كي لا تُقدِم على ذلك، بقوله: “حسناً إذاً فنحن أمّتان!”، ما يعني طبعاً أن أميركا ليست أمة واحدة كما اعتادت أدبياتها أن تزعم، بل هي مشروخة أمّتين. والحال أن هذا الاستنتاج وإن كان يرِد عرضاً في الرواية، إنما يمكن اعتباره الخط الفكري الذي تسير الرواية كلها على هديِه بأجزائها الثلاثة البالغة نحو ألفي صفحة. بالتالي، فإننا هنا نجدنا أمام واحدة من أولى الروايات الأميركية التي جعلت من نفسها مرآة يرى فيها المجتمع الأميركي صورته الحقيقية، ولكن تحديداً عبر تنوع في أساليب السرد والعرض يمكن اختصاره في أربعة اتجاهات رئيسة، كان اللجوء إليها بالغ الجدّة في ذلك الحين، ما يجعل من دوس باسوس رائداً ومبتكراً نعرف أن كثراً ساروا على خطاه من بعده، كلّياً أو جزئياً، فوُفِّق بعضهم وأخفق البعض الآخر. فما هي هذه الثلاثية؟ كلهم بين دفَّتي كتاب هي كما ألمحنا، رواية تتألف من ثلاثة أجزاء تابع فيها المؤلف ثلاثة عقود من تاريخ القرن العشرين، وذلك من خلال 12 شخصية رئيسة متخيلة، تعيش حياتها وتفاعلها مع المجتمع أمام أعين القراء، مستقلة عن بعضها البعض، متقاطعة حيناً ولكن على تماس أحياناً مع عشرات الشخصيات الأخرى التي استقاها الكاتب هنا من تاريخ تلك المرحلة ذاته، من رؤساء وفنانين ومفكرين وأدباء ورجال صناعة ونواب ونجوم سينما وزعماء نقابات، بعضهم فاسد وبعضهم يعيش نضالاته بنزاهة. بعضهم يربح وبعضهم يخسر، لكنهم جميعاً في نهاية الأمر، وكما يستنتج دوس باسوس، يتحركون بين قطبين أساسيين: الدولار والحلم الأميركي. ولعل من الابتكارات اللافتة التي يجسّدها الكاتب هنا هو جعل كل جزء من أجزاء الثلاثية لا يحتوي فقط على حكايات تلك الشخصيات، موثقة كانت أو متخيلة، بل كذلك على سِيَرٍ مكتوبة بعناية تاريخية حقيقية لعشرات الشخصيات البارزة في التاريخ الأميركي خلال تلك المرحلة، وصولاً إلى تفاعل الشخصيات المتخيلة مع تلك السير. وهو لكي يضفي هالة إبداعية على ذلك كله، لا يتوانى عن إيراد نصوص أغانٍ تنتمي إلى المرحلة ذاتها، ما يضعنا أيضاً أمام تطور تاريخ الغناء الأميركي وولادة بعض أنواعه. وكذلك لا يفوت دوس باسوس هنا أن يمزج ذلك بابتكار مدهش، هو الذي سوف يقتبسه منه كثر: ويقوم على إيراد مقاطع بأكملها في كل جزء من الأجزاء الثلاثة: “خط العرض 42″ (1930) و”1919” (1932) وأخيراً “مال كثير” (1936)، مقاطع من صحيفتين على الأقل من صحف تلك العقود، ما يضع القارئ أمام خلفية تاريخية حدثية لمجريات الأحداث في تلك المراحل التأسيسية من تاريخ تينك “الأمّتين”. تضافر الابتكارات الأسلوبية ومن اللافت هنا أن الكاتب لا يحاول الالتفاف على ابتكاراته الأسلوبية عبر مزجها ودمجها في الرواية، بل يعطيها تحديدات وعناوين تكاد تكون علمية، وهكذا نجده إذ يعتبر الشخصيات الروائية في القسم الأول “سيراً متخيلة”، ينتقل إلى سير حقيقية في القسم الثاني، ومنه إلى “شريط الأخبار” في القسم الثالث الذي يتألف أساساً من المقتطفات الصحافية الحقيقية، محتفظاً للقسم الأخير بالعنوان الأكثر شاعرية وحداثة في ذلك الحين، “عين الكاميرا” الذي يتتبع فيه نوعاً من تفسير للأحداث التي كانت طالعتنا عبر الأساليب الثلاثة الأولى، يعتمد على ما يشبه “تيار الوعي”، الذي كان كتاب أوروبيون من طينة مارسيل بروست وجيمس جويس وحتى فرجينيا وولف يختبرونه حينها، حتى ولو بالنسبة إليه لغايات أيديولوجية أكثر منها أدبية وجمالية. ففي نهاية الأمر، لم يكُن جون دوس باسوس (1896 – 1970) مهتماً هنا بالأسلبة الأدبية ولا بالابتكارات الجمالية. كان ما يهمه أن يعثر على أفضل الطرق لرواية التاريخ الأميركي الراهن، في زمنه، كنوع من موقف سياسي – اجتماعي نضالي. ولا شك في أن نجاحه في هذا المجال قد فاق ما كان يتوخّاه، إذ إضافة إلى مئات الألوف من الذين كانوا يتلهفون في انتظار الأجزاء المتتالية لتلك “الثلاثية” التي لم تُقدَّم أول الأمر كثلاثية بل كثلاث روايات منفصلة، عرفت “يو إس أي” كيف تعيش طويلاً بعد ذلك، بل حتى الآن بوصفها رواية التاريخ الأميركي بامتياز. وها هي تشغل اليوم، في تصنيف موثوق وضعته “المكتبة الحديثة” عام 1998، راصدة فيه نوعاً من التراتبية لأعظم الروايات التي صدرت في الإنجليزية في القرن العشرين، المركز 23 وعن جدارة كما يؤكد النقاد والمؤرخون. وعلى الرغم من ارتباط جون دوس باسوس كسمعة واسم ومكانة بهذه الثلاثية، فإنه عُرف كذلك بأعمال أخرى كثيرة له، لم تقلّ عنها أهمية ونجاحاً، ومن بينها “مانهاتن ترانسفير” و”في البلدان كافة” و”مقاطعة كولومبيا” و”مخطط كبير” وهي جميعاً كما الثلاثية تغوص في التاريخ الأميركي الراهن بشكل أو بآخر. المزيد عن: جون دوس باسوس \ صنع الله إبراهيم \ رواية يو إس أي \ مارسيل بروست \ تيار الوعي \ فرجينيا وولف 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post أدب الفتيان العرب يواجه الرقابة الذاتية والمحرمات next post العبور إلى الكرملين من طريق “رأسمالية الـ (كي جي بي)” You may also like مهى سلطان تكتب عن: الرسام اللبناني رضوان الشهال... 24 نوفمبر، 2024 فيلمان فرنسيان يخوضان الحياة الفتية بين الضاحية والريف 24 نوفمبر، 2024 مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024