فاسيلي أكسيونوف: تقمص تكريمي لصاحب "الكوميديا الإلهية" (غيتي) ثقافة و فنون كاتب روسي منشق يحول “جزيرة القرم” لأكسيونوف إلى هونغ كونغ رأسمالية by admin 19 مارس، 2024 written by admin 19 مارس، 2024 220 عندما استوحى المؤلف السيطرة على أفغانستان توقع ما سيحدث فعلاً هناك على البحر الأسود اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب من المعروف تاريخياً كما جغرافياً بصورة خاصة أن منطقة القرم الواقعة شمال البحر الأسود، شبه جزيرة، لكن ما يسمى بمعجزة الإبداع الصغيرة نجحت في أن تحولها إلى جزيرة بالمعنى الطوبوغرافي للكلمة، وذلك بالتحديد بفضل نوع أدبي ينال عادة حظوة القراء يسمى “الديستوبيا“، ويعني بناء نص روائي بأكمله يتخذ من تاريخ واقعي أو مرتجى قاعدة له، بمعنى أنه يحاول أن يعيد بناء التاريخ انطلاقاً من وقائع حقيقية لكنه يجري فيها من التعديلات ما يجعل تاريخها يتخذ مساراً يختلف كلياً عن مساره المعروف. ولئن كان كثر من مؤرخي الأدب يحاولون دائماً إدراج النوع الكتابي الفلسفي المسمى “المدن الفاضلة“، أو “اليوتوبيات”، في سياق هذا الأدب، فإنه بمعناه الذي بات معتمداً في القرن الـ 20، يبدو حتى مختلفاً كلياً عن نتاجات ذلك النوع الفلسفي القديم. ولئن كنا نعرف أن النموذج المعياري لنوع “الديستوبيا” يكمن، بخاصة، في روايات الكاتب الأميركي فيليب كي ديك، ولا سيما في روايته الكبرى “سيد القصر العالي”، فإن كتاباً آخرين مارسوا النوع نفسه يمكننا أن نضيف إليهم منذ الربع الأخير من القرن الـ 20 الكاتب الروسي فاسيلي أكسيونوف، بخاصة من خلال روايته المعنونة “جزيرة القرم”، التي منذ عنوانها هذا تدخل عالم “الديستوبيا” من باب الجغرافيا هذه المرة لتوصله إلى عالم التاريخ. ففي نهاية المطاف نعرف تماماً أن القرم شبه جزيرة لكن أكسيونوف جعل منها جزيرة ماسحاً من على خريطة المكان ذلك الجزء البري من القرم الذي يجعل المنطقة مرتبطة تماماّ بالبرّ القاري مضيفاً عليها ما يؤكد جغرافياً كونها جزءاً من أوكرانيا فاتحاً إياها على واقع جديد يتيح للبرّ الروسي أن يحسبها من ممتلكاته بكل بساطة. غلاف واحدة من الترجمات العديدة لرواية “جزيرة القرم” (أمازون) استباق تاريخي لأحداث راهنة وهذا الواقع الجغرافي – التاريخي الجديد هو الذي يسهّل في الواقع ترسيخ البنية الروائية والحديثة لرواية تريد من نفسها، ومنذ كتابتها وصدورها في عام 1979، أن تكون نوعاً من الاستباق التاريخي لأحداث من غريب الأمور أنها على رغم خياليتها المطلقة تؤرخ لأحداث متشابكة سوف يتوالى حدوثها في تلك المنطقة من العالم كتعاقب روائي رمزي كما سوف نرى. وهي على أية حال أحداث تبدو، في نهاية الأمر، مستلهمة تاريخياً، وإنما مع انزياح في المكان من هونغ كونغ الصينية، إلى تلك المنطقة من البحر الأسود، ولكن ليس كذلك فقط كما سوف نرى بعد سطور، في نص يستعيد، على أية حال، تلك التطلعات الفلسفية للتعبير عن وقائع سياسية معينة سوف يحققها النظام المافياوي الذي سيحكم روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، وفي ركابه المنظومة الاشتراكية بأكملها! فالواقع أن ما يطالعنا في رواية “جزيرة القرم”، التي سيطرد مؤلفها من بلاده السوفياتية بعد فترة يسيرة من إنجازها في عام 1979 (أي قبل انتهاء الاتحاد السوفياتي ونظامه الشيوعي بسنوات)، ما يطالعنا يفترض أنه، منذ عام 1917، على إثر نجاح الثورة البولشيفية بزعامة فلاديمير لينين ورفاقه، تتمكن مجموعات من الروس البيض المعادين لتلك الثورة من الانفراد بـ “جزيرة القرم” بفعل السيطرة العسكرية عليها. من هنا تتحول الجزيرة بالتدريج إلى ما يشبه هونغ كونغ التي، على رغم صينيتها، حرصت السلطات الثورية الشيوعية بقيادة ماو تسي تونغ وحزبه الشيوعي، في البرّ القاري على إبقائها في منأى عن الحكم الشيوعي نفسه بتركها، أول الأمر، للكولونيالية البريطانية حتى بعد رحيل هذه الكولونيالية في عام 1997، لأن فائدة تلك المدينة تحت سلطة النظام الرأسمالي أكبر كثيراً من فائدتها إذ تتحول إلى الاشتراكية، وكان هذا ينطبق هنا في الرواية على القرم. تحويل ما لمجرى التاريخ إذاً، ها هو الأدب الخيالي لدى أكسيونوف يحوّل مجرى التاريخ، ولكن هذه المرة في رمزية تتصل، من ناحية أخرى، بواقع يعبر الزمن ليصل إلى الغزو السوفياتي لأفغانستان مفترضاً أن السوفيات لدى استيلائهم على هذا البلد اللآسيوي سيجدون أن من مصلحتهم جعله مكمناً تاريخياً لنمو رأسمالية جديدة متحررة تماماً، ولا سيما من الضوابط المرتبطة بما يفترضه نمو النظام الرأسمالي على طريقة هونغ كونغ. والحقيقة أن تحويل أفغانستان إلى هونغ كونغ، ولكن تحت اسم “جزيرة القرم”، هو ما شجع كثراً على استعادة هذه الرواية بعد كتابتها وصدورها بنحو ثلث قرن وأكثر، وعلى ضوء انفصال أوكرانيا بأكملها عن المنظومة الاشتراكية، أي على ضوء تلك الأحداث التي شغلت وتشغل حتى الآن جزءاً كبيراً من مدوّنات تاريخ تلك المنطقة من العالم، وبخاصة منذ بدايات العقد الثاني من القرن الجديد، ومن هنا كان إلحاح المؤرخين والنقاد الأميركيين، بعد سنوات من رحيل أكسيونوف في عام 2009، على أن الوقت قد حان لإعادة قراءتها على ضوء أحداث راهنة لا تزال متواصلة حتى الأعوام الأخيرة وتتضمن عودة روسيا فلاديمير بوتين إلى ذلك الحلم الروسي القديم: حلم “استعادة” شبه جزيرة القرم بناء على ما سمي دعوة ملحة من مواطني شبه الجزيرة لاستعادة موسكو السيطرة على تلك الزاوية من العالم، ثم من خلال ذلك، إلى التوسع في قضم الأراضي الأوكرانية القارية بحجج متنوعة لعل أهمها التاريخ المشترك بين البلدين “الشقيقين”، وهذا ما يعيد إبعاد القضية برمتها إلى المربع الأول وخارج كل حسابات “ديستوبية”، ويضع روايتها هذه في خانة الأدب السياسي الخالص! أخذ الواقع المفترض في الحسبان ففي نهاية الأمر، من الواضح أن ما يعبّر عنه الكاتب في “جزيرة القرم” ليس نوعاً من الخيال السياسي “اليوتوبي”، بل هو نوع من الاستباق الخلاق لما سوف يحدث لاحقاً على ضوء ما يفترض هذا الكاتب أنه قد بدأ يعبّر عن تحقيق ما كمن في جذوره مترسخاً في ماض حقيقي، قد يجدر أخذ “واقعيته المفترضة” بالحسبان. ولعل هذا بالتحديد ما أغضب القيادة السوفياتية التي كانت لا تزال قابضة على السلطة في موسكو يوم كتب أكسيونوف روايته في عام 1978 – 1979. ففي ذلك الحين، وعلى رغم الإشارات العديدة، لم يكن في وسع تلك القيادة الواثقة بنفسها إلى حدّ الإفراط أن تصدّق أن حكمها زائل لا محالة، وأن ثمة من الأدباء والمفكرين الذين لم يكونوا كلهم منشقين، ومن الممكن وسمهم بـ”العمالة للغرب”، واعتبارهم “خدماً مأجورين يعملون لمصلحة الاستخبارات المركزية الأميركية”، يرون ماذا سيكون عليه مستقبل سلطتهم، ومن المؤكد أن أكسيونوف كان واحداً من هؤلاء بل أكثرهم حدة في عدائه للمنظومتين، الاشتراكية والرأسمالية معاً، لكن سلطات وطنه الأصلي لن تصدّق أنه كان بالفعل معادياً لأعدائها. ومن هنا طردته ونددت بأفكاره “الرجعية اليمينية”، ولا سيما في تلك الرواية التي ما التقطت منها سوى وجه واحد من وجهي الميدالية، حتى وإن كان بعض أركانها سيثني، ولو متأخراً، على ما أبداه هذا الكاتب من حذق في تعبيره المبكر عن واقع مدهش يتعلق بالأحداث التي تعاقبت تحديداً على تلك المنطقة من العالم. ابن أعداء الشعب! وفي نهاية الأمر لا بأس في أن نذكر هنا بأن فاسيلي بافلوفيتش أكسيونوف كاتب روسي (كازان 1932 – موسكو 2009). كان، في المنظور السوفياتي، ابناً لمن يعتبرون من “أعداء الشعب” الذين عانوا من اضطهاد الدولة. وهو بدأ الكتابة في وقت إزالة الستالينية طوال السنوات الأخيرة من خمسينيات القرن الـ 20، ونشر روايات ناجحة أصبح فيها المتحدث الرسمي باسم جيل جديد من الأدباء الروس، “زملاء”، 1960، “تذكرة إلى النجوم” 1961، “برتقال المغرب” 1966، ثم قصص ساخرة عن المثقفين “خردة الذهب لدينا” 1978، وذلك مباشرة قبل أن يفتتح، بكتابه “لابر، ولور” 1980، دورة أعماله في مجال السيرة الذاتية، والتي بلغت ذروتها مع “ملحمة موسكو” 1995. ولقد عاش أكسيونوف، منذ عام 1980، في واشنطن، حيث كان يقوم بالتدريس، ويواصل بحثه عن الهوية من خلال تصور نفسه باعتباره تقمصاً تكريماً لدانتي، ولا سيما في واحد من كتبه الذاتية الأخيرة “الأسلوب الجديد الجميل” 1997، غير أنه ما برح في ذلك الحين أن عاد إلى موسكو حيث قرر أن يقيم بعد تحررها من ربقة النظام الحزبي، وتفاقم رغبته هو في الابتعاد عن “وحشية النظام الرأسمالي”، لكن عودته لم تطل إذ إنه سيرحل بعد عام ونيّف من تلك العودة. المزيد عن: فاسيلي أكسيونوفالبحر الأسودالديستوبياجزيرة القرمالثورة البولشيفية 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post Le ministre québécois de la Langue française visite le Manitoba pour « bâtir des ponts » next post كتاب مجهول يخرج الى الضوء في ذكرى تأسيس السريالية You may also like بول شاوول يكتب عن: أمير القصة العربية يوسف... 25 ديسمبر، 2024 محمد أبي سمرا يكتب عن.. جولان حاجي: الكتابة... 25 ديسمبر، 2024 (20 رواية) تصدّرت المشهد الأدبي العربي في 2024 25 ديسمبر، 2024 “الحياة الفاوستية” رحلة في عوالم غوته السرية 25 ديسمبر، 2024 “أن تملك أو لا تملك” تلك هي قضية... 25 ديسمبر، 2024 أضواء جديدة على مسار فيكتور هوغو السياسي المتقلب 24 ديسمبر، 2024 صبحي حديدي يقارب شعر محمود درويش بشموليته 24 ديسمبر، 2024 الثنائي هتلر – ستالين في ما هو أبعد... 24 ديسمبر، 2024 رحيل محمد الخلفي الممثل الرائد الذي لم ينل... 24 ديسمبر، 2024 كاتب مسلسل “يلوستون” أبدع قصة ويسترن معاصرة وصنع... 24 ديسمبر، 2024