بأقلامهمعربي فوزي ذبيان يكتب عن موسى وهبة: صديق من زمن آخر by admin 21 يناير، 2022 written by admin 21 يناير، 2022 125 موسى صديقي ولكن هذا لم يحل دون مناوشته في الكثير من الأمور، إذ لم ألزم نفسي حياله بالكثير مما كان يقول، فشرط الصداقة الأول – ودائماً بالعودة إلى أصدقائنا الإغريق .. المدن – بيروت \ فوزي ذبيان – روائي لبناني على الرغم من الموت الذي كان يحفر في وجهه عميقاً، فإنه كان في غاية الطمأنينة والهدوء. كان ذلك في مطعم فندق البريستول في منطقة الحمرا في بيروت، قبل رحيله بوقت وجيز. على غير عادته فاض في تلك الجلسة بكثير الكلام وكانت السكينة تحوط جوانب كلامه. كانت تلك المرة الأخيرة التي آنس فيها بحضور موسى وهبة، وبعدها بأيام قرر أن يرحل ويستريح. في نص له عن السكينة يقول هيدغر: “وحدها الأرض الخصبة تُترك كي تستريح، كالحقل مثلاً“. موسى كان حقلاً فسيحاً نظّم القدر أيامي كي أستظل شجره لوقت تجاوز العشرين عاماً ونيف. كنت أنوي في بداية التسعينات أن أدرس التاريخ في الجامعة اللبنانية، إنما طبعي العجول مال بي نحو شباك قسم الفلسفة بسبب ما يعتور شباك التاريخ من ازدحام المنتسبين إلى هذا القسم بعكس الحال مع قسم الفلسفة، لألتقي بعدها بموسى وهبة أستاذاً محاضراً… يقول أحد رهبان القرون الوسطى في أوروبا أن الصدفة هي الله عندما يأتي متنكراً. لقد تنكر الله في ذلك اليوم بما فاق تطلعاتي. مع كر الأيام وتواليها صرنا أنا وموسى أصدقاء. سألته في قعدتنا الأخيرة عن وقع الموت الذي كان يدبدب صوبه بهمة ونشاط، لم يجبني بالكلمات إنما بعبارة أتى بها وجهه بما يتجاوز قدرة الكلام على الإفصاح… ربما الموت هو نفض قوقعة الحياة من فوق مدى أرحب لا نعرف من شأنه أمراً. توجه سقراط ذات عشية إلى سيبيس بالقول: “في مواجهة الموت، إن ما يحتاج إليه الإنسان داخل هذه القوقعة التي تسمى الحياة، ثقة رجل أمضى عمره بصحبة الفلسفة”. لست أدري إذا ما كانت تلك السعادة، التي لمحت طيفها في عيني موسى متأتية من كونه، أمضى عمره بصحبة الفلسفة أو أنها نتيجة يقينه أنه قد صار قاب قوسين من كسر قوقعة الحياة. انتهت جلستنا بصمت طويل كان موسى إبانه محل شرود هنيء… ربما الصمت حيال ما لم يُقل بعد هو بالنهاية الركن المفضّل للفيلسوف. تخاطفت معه نظرات أخيرة وغادرت نزولاً صوب شارع الحمرا الرئيسي أكرر على نفسي بصوت موسى عبارة شفيع شارع الحمرا القديس فرنسيس: “يا صديقي الموت، نسيت كل شيء عنك. تعال إليّ، أريد أن أكتب قصيدة عنك”. كان صوت موسى داخل أزقة رأسي وسراديبه يشي بشيخوخة هرمة، بطفولة لا تنقضي، بشباب يافع وبجسد موسى تحت الأرض وبكيت. إن رحيله بالنسبة لي كان نذيراً بأفول عالم عزيز على قلبي ومداركي وتلفعي الأول للحياة كشاب، عالم يبدأ في أروقة قسم الفلسفة في جامعتنا الوطنية، يمرّ في شارع الحمرا وأجوائه الرائعة ولا ينتهي في مكان… لكنه انتهى كما لطالما أنبأني قلبي حيال هذه الأمكنة المندثرة والتي هي نحن. “مرة أخرى يؤوب درب الفلسفة إلى الظلمة” قال هيدغر غداة موت صديقه الفيلسوف ماكس شيلر. كل منا يحصي حبات وجوده في العالم عبر رزنامة معلقة فوق جدار الملل في غمرة اضمحلال الأمكنة والأصدقاء، ومع هذا أراني وفياً لأصدقائي المشتركين مع موسى. لم يلقنني موسى ماذا قال أفلاطون وأرسطو، ولم “يحشك” في رأسي سطور سبينوزا وكنط وهيغل، كما أنه لم يستبد بي حيال فهمه الخاص لنيتشه وهيدغر وسواهما. كنا نتداول هذه الأسماء وغيرها ليس في قاعات المحاضرات فحسب، إنما أقصى تداول لها كان يتم في هذا المقهى من مقاهي الحمرا وذاك… المودكا، الويمبي، كافيه دو باري ثم الريغستو وتاء مربوطة وصولاً إلى الكوستا كافيه، وحبل الكلام لا ينقطع أثناء تسكعنا فوق الأرصفة والطرقات… ولِما لا، ليلاً في هذه الحانة أو تلك: زكريا، مزيان، بوبو وبيت الحبيب رئيف كرم الذي كان يمسرح الجلسات بما يفوق التوقعات. عبر صداقتي معه، مهّد موسى كل السبل أمامي كي أكون صديق هؤلاء، فإذا بي ولفترة مديدة من عمري أتمتع بسلام داخلي وبهدوء وبسكينة، أي بذاك الذي كان أصدقاء موسى من الإغريق يطلقون عليه كلمة “أتراكسيا” (ataraxia) أي السكون المتأتي عن الإنهمام بالذات. العالم ليس على ما يرام والصديق (philos) الحق هو ذاك الذي يأخذ بيدك في هذا العالم الضروس. في الآداب اليونانية القديمة كانت كلمة philos تُطلق على الأعضاء الجسدية التي تلبي حاجة البطل الهوميري كي يستمر في الحياة لدى تعرضه للخطر، كاليدين الصلبتين والركبتين والأقدام المشدودة بعزم إلى الأرض وصولاً إلى القلب الجسور أي ال (thumos) على حد تعبير قدامى الإغريق… والفلاسفة يهمسون عبر القرون في آذان بعضهم البعض. لقد تغيرت دلالة الكلمة مع حقب التاريخ وطبقاته إنما ثمة وجاهة على الدوم للبعد الحسي للكلمات، فكما نعلم ان القاعدة الإشتقاقية الأولى هي استخراج المعنوي من الحسي على رأي أهل البلاغة من العرب. ومع هذا لا أحد يدّعي أن الفلاسفة أبطال، إنما هم وكما لطالما ألمح موسى ودائماً بالعودة إلى المعجم الإغريقي – الأرسطي منه بشكل خاص – إنما هم بمثابة الـ(Kairos) أي الفرصة التي تحسن الحياة التقاطها في سعيها للوضوح… إنهم أصدقاء (philoi) العالم لدى تعرضه للخطر. لا أحد يمكنه تجنب الـ(fortuna) أي ربّة الحظ المعصوبة العينين والتي تضرب خبط عشواء ومحظوظ هو ذاك الذي يتمتع بفرصة اكتساب صديق… وأنا كنت محظوظاً. موسى صديقي ولكن هذا لم يحل دون مناوشته في الكثير من الأمور، إذ لم ألزم نفسي حياله بالكثير مما كان يقول، فشرط الصداقة الأول – ودائماً بالعودة إلى أصدقائنا الإغريق – هو الـ(parrehesia) أي صراحة القول. فموسى مثلاً لم يقنعني بقوله حول إمكان اليونفرسال (المشترك البشري) في العالم. فأنا أقرب إلى الرأي الذي يرى في البشر قبائل لا تني تطحن بعضها البعض… جورج أورويل كان يرى أن تاريخ الحضارة هو تاريخ تطور الأسلحة وثمة وجاهة في هذا الرأي. “ما هو صواب في هذه الجهة من جبال البرينيه، هو خطأ في الجهة الأخرى” على حد قول باسكال. كنت أحاجج موسى كثيراً فيغب كأسه المترع ويشرع بالكلام. لم يدون سوى القليل مما كان يقول، فموسى، صديقي الذي من زمن آخر، كان يمنح أبوة الفلسفة لـ”ثاموس” (thamus) إله الكلام على حساب “ثيوث” (theuth) إله الكتابة، مقتفياً في ذلك أثر صديقه الأقرب إلى قلبه، عنيت به أفلاطون. إنما ما تلا ذلك من تجارب وعراك وقراءات أسكن اليقين في قلبي حيال الحقيقة التالية: إن تحقق الإمكان اليونفرسالي في الكائن البشري الواحد يقوم على شرط التيه والعزلة كناقة سائبة في صحراء العالم الشاسعة… اليونفرسال يقوم بالعمق على صداقة الإنسان مع ذاته وكأني بالفيلسوف في هذا السياق ذاكرة عالم منسي، عالم لا أحد يريد خوضه أو حتى الانصات إليه. إن الحياة الداخلية للفيلسوف لا تغيّر العالم، إنما تغير صلته بالعالم حيث الفكر يمتهن السكينة في غمرة الضجيج وربما يمتهن السعادة أيضاً وقد تذوق طعم الإنعتاق. ربما هي صداقة الفيلسوف مع نفسه تبرر له أنانية أن يكون سعيداً… ليس من باب العبث أن كنط كان يقول يجب على الانسان أن يجعل نفسه جديراً بالسعادة. إنه درب الفلسفة حيث الغموض المدروس بين العقل والعاطفة. إن الفيلسوف من هذه الوجهة، إن صديق العالم هذا، هو ضيف العالم الغريب … إنه الـ(xenos) كما رسمته اليونان القديمة وهو أيضاً ضيف الزمان العابر كما خطه متصوفة الإسلام من أهل التجاوز، ويا لها من مفارقة أن يكون الضيف الغريب هو شرط تحقق اليونفرسال وكنت أجادله في الأمر كثيراً. أدركت لاحقاً وعبر أصدقاء موسى الأقربين أن الرجل قد يكون محقاً، فأي عالم هو هذا الذي تحكمه البلاهة وتأتي عليه بوابل الشتات والنزاعات، فالفلسفة بالنسبة إلى نيتشه هي المطرقة التي تقاوم البلاهة وتقض مضاجعها أما بالنسبة إلى سبينوزا فهي جهد الاستمرار في الوجود، وبحسب الصياغة الاسبينوزية للمصطلح هي الكوناتوس (conatus). … على الرغم من هذا الجهد، كنت ترى السكينة شرطه في القول والعمل. حاولت جاهداً تقصي سر سكينة موسى وغالباً ما كنت أسأله “ما بتعصّب؟” إلى أن واتتني العزيمة لأرى طيف هذه السكينة في عبارة كان يرددها على الدوم: “الفلسفة ليست خبراً عن العالم”. ألمح لي عبر التمعن في هذا القول الغريب إلى أهمية أن يكون الفكر حراً، إلى روعة أن يكون منزهاً عن الغرض. الفلسفة ليست خبراً عن العالم، إنها خبر الفيلسوف عن نفسه إزاء العالم. إنها الأوتراخيا اليونانية (autrakeia) حيث القول هو سيد نفسه بإطلاق… يقول دريدا إن الكائن الوحيد الذي يملك ذاتاً هو الفيلسوف لأنه سيد قوله ولا بأس أن يتناتش أهل “الاختصاص” في التالي من الأيام تركة هذا الفيلسوف أو ذاك بما يتلاءم مع شروط اختصاصهم… لا يبالي الفجر بتائهي الليل، هو ينبلج وكفى وليستدل التائه الدرب كيفما يشاء. eleutheria كلمة إغريقية تعني من ضمن ما تعنيه: الحرية التي تقوم على التبعية لمحض الذات وهي من صفات الفيلسوف لدى هؤلاء، وكل الكلمات الأخرى التي تعاضد بعضها بعضاً في معارك الفيلسوف مع التفاهة تتوسم صداقة الـ eleutheria والفوز بمبتغاها الأخير. بالتالي أن تكون الفلسفة ليست خبراً عن العالم ليس بالشأن الغريب بل الغرابة بالنسبة لمن أجادت عليه ربة الحظ بنعمة الـ eleutheria تكمن في أن تكون الفلسفة غير ذلك. في تأويله لمسألة النبالة عند نيتشه يقول سلوترديك إن النبالة هي من شأن المستقبل وليس الماضي كما قد يتبادر إلى الذهن في تداوله العامي للأمور. لن أدخل في تفاصيل “مَن هو النبيل” كما عرض نيتشه للأمر في “ما وراء الخير والشر”، إنما لم أجد ما أنهي به الكلام عن موسى إلا ما يمت إلى النبالة بصلة. لا أستطيع أن أدّعي الموضوعية لدى التطرق إلى صديقي موسى إنما وبالعودة إلى نيتشه، ليست الموضوعية إلا ذاتية الأقوياء. فهل أنا قوي بما يكفي لأقول في موسى؟ لست أدري. إن تلقف موسى للعالم عبر ما منحته ربة الحظ من eleutheria جعلته ما كان عليه وجعلتنا نحن طلابه نسعى إلى صداقته بكل هذا الإندفاع الذي لا يلبث أن يتحول لدى بعضنا إلى سكينة وهدوء. عبر موسى خضت محاولات التملص من كل قيد وأرجو أن أكون قد نجحت. تلفع هذا المتجرد النزيه حصته من الوجود ورحل تاركاً خلفه هذا العالم البائس والمقيد بكل ضروب بلاهة المصارف والبورصة والشركات العابرة للقارات. مات موسى وأودعنا الكثير، أودعنا طيفه في أمكنة لن تخلو منه وأودعنا ابتسامة تلامس الخجل وذكريات أبداً لن تشيخ. لدى سوق بولس الطرسوسي إلى مقصلة الإعدام رمت له امرأة عمياء تدعى بترونلّا منديلاً كي يعصب عينيه لحظة الفجيعة… ثمة صديق هو بمثابة بترونلّا رمت به ربّة الحظ المعصوبة العينين لا ليزودني بمنديل لأعصب به عيناي إنما لأتعلم منه أن أكون مخلصاً لنفسي مهما كانت ضروب الفجيعة. 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post ‘We are holding people responsible for their actions:’ HRM steps up battle against illegal dumping next post كندا: ارتفاع متوقَّع في استثمارات النفط والغاز بـ22% في 2022 You may also like غسان شربل يكتب عن: لبنان… و«اليوم التالي» 26 نوفمبر، 2024 ساطع نورالدين يكتب عن: “العدو” الذي خرق حاجز... 24 نوفمبر، 2024 عبد الرحمن الراشد يكتب عن: شالوم ظريف والمصالحة 24 نوفمبر، 2024 حازم صاغية يكتب عن: لبنان وسؤال الاستقلال المُرّ 24 نوفمبر، 2024 مها يحيى تكتب عن: غداة الحرب على لبنان 24 نوفمبر، 2024 فرانسيس توسا يكتب عن: “قبة حديدية” وجنود في... 24 نوفمبر، 2024 رضوان السيد يكتب عن: وقف النار في الجنوب... 24 نوفمبر، 2024 مايكل آيزنشتات يكتب عن: مع تراجع قدرتها على... 21 نوفمبر، 2024 ما يكشفه مجلس بلدية نينوى عن الصراع الإيراني... 21 نوفمبر، 2024 غسان شربل يكتب عن: عودة هوكستين… وعودة الدولة 19 نوفمبر، 2024 Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.