فوزي بنسعيدي. ثقافة و فنون فوزي بنسعيدي في فيلمه الأحدث… تيه في “الثلث الخالي” by admin 3 نوفمبر، 2024 written by admin 3 نوفمبر، 2024 16 كوميديا سوداء حافلة بالجماليات والإدهاش البصريّ المجلة / إسماعيل غزالي يواصل فوزي بنسعيدي مغامرته السينمائية وفق تجريب بصري مبتكر، أفصح عنه في فيلمه القصير “الحائط”، مجترحا أسلوبه الخاص في فيلمه الطويل الأول “ألف شهر”، مع تحقيق طفرة نوعية في فيلمه الطويل الثاني، “يا له من عالم جميل”، ثمّ قفزا إلى فيلمه الجديد “الثلث الخالي”، الفائز منذ أيّام، بجائزة التحكيم للمهرجان الوطني للفيلم في طنجة 2024، فضلا عن جائزة الصورة. كوميديا سوداء على مدار 128 دقيقة يضطر زميلا العمل مهدي وحميد إلى القيام برحلة عبثية إلى جنوب المغرب، بأمر من وكالة القروض بغية استرجاع ديون زبائن من الطبقة المعدومة التي يقطن معظمها في قرى ودواوير منسية، طاعنة في هباء الصحراء. بدءا بفلاح/ راعي ماعز، يجردانه من سجادة ومعزاة مقابل عجزه عن سداد ما تبقى من القرض، وعامل منجم “الإثمد” الذي يجردانه من كيس ملؤه هذه المادة السوداء، وسائق نقل مزدوج يجردانه من سيارته للسبب نفسه. ثلاث لوحات بصرية بديعة ممهورة بالكوميديا السوداء المؤسسة على حكايات درامية دامغة. إثر عودتهما إلى الدار البيضاء، يكشف خط الفيلم عن جزء من سيرتَي البطلين حميد والمهدي، الأول في علاقة خطوبة بابنة أسرة تتحكّم فيها الأم بسلطوية مبالغ فيها، والثاني يصدمه اقتراح والدته بالتخلي عن ابنته لصالح امرأة ثرية بعد أن تخلت عنها زوجته الهاربة. يواصلان رحلتهما ويعرجان على حلاق. يجلبان له مجموعة زبائن كيما يقص شعورهم كإعانة لدفع مبلغ للوكالة. ثم سرعان ما يؤوبان إلى الجنوب من جديد، ويقفان على أسرة في دوار موّل ابنها بالقرض هجرته غير الشرعية بقارب إلى أوروبا وما من طريقة لاستعادة الدين، وأما زبدة هذه التعقبات المأسوية والمضحكة في آن، فبقّال قام المخرج نفسه بأداء شخصيته، جرداه من سلعته وبوابته بعد أن أكلا قدر المستطاع من سردينه المعلب وارتويا من مشروباته الغازية. يباغتنا الفيلم بطريقة سرد مغايرة، تضطلع فيها الصورة بالحكي بدلا من آلية الحوار تنعطف الحكاية جذريّا حينما يجلسان في مقهى مقابل محطة وقود، فينزل شخص ملثم من دراجة نارية يصطحب رجلا مقيدا. يفصح الملثم عن حدث موت جنينه وسرعان ما يتضح أن زوجته هي التي ماتت أثناء المخاض وليس ابنه الحديث الولادة. يكلفهما إيصال الشخص المقيد –وفق زعمه هو مجرم مبحوث عنه- الى أقرب مركز للشرطة مقابل مبلغ. مشهد من الفيلم ينفرد الهارب بسيارتهما ويتركهما في العراء، ثم يمضي في سبيل استرجاع حبيبته ناسجة الزرابي المرتبطة عنوة بشخص ثان هو محض لصّ دبّر له مصيدة السجن، يتوج الهارب رحلته الماراثونية بقتله لغريمه اللص ويفي بوعد إرجاع السيارة للتائهين مع مكافأة مالية. خطان سرديان لو التزم الفيلم خطّه السردي الأول حتى النهاية، لسقط في نمطية معادة توقعه في نشاز بصري، لكنه اختار بحذاقة أن يقلب ظهر المجن، ويباغتنا بطريقة سرد مغايرة، تضطلع فيها الصورة بالحكي بدلا من آلية الحوار. يبدأ الفيلم بضياع خريطة البطلين حينما أفرداها على مقدمة سيارتهما فتطايرت بسبب خلافهما، وبذا عرّضا نفسيهما إلى تيه محقق. في الخطّ السرديّ الأول يرتهن الفيلم إلى بلاغة الكوميديا السوداء، متقصيّا بؤس زبائن استدانوا ووجدوا مشقة في إرجاع الدين بسبب الفقر المدقع. هي معالجة متاخمة لوضع انساني، اجتماعي مهترئ، علاماته الغائرة: فلاح/ راع ماعز، عامل منجم، صاحب عربة نقل مزدوج، حلاق، بقال، أسرة مهاجر غير شرعي. على طول مسافة تعقب هؤلاء، يوهمنا الفيلم بانتمائه إلى صنف سينما الطريق، ولا يفتأ يمزج بين خطين يفتلهما في حبل فني موحد؛ خط درامي جارح، وخط هزلي عارم، والتصريف الشعري للغة البصرية ينتج من لقطات طويلة أشبه بلوحات بالغة الافتتان، في الآن ذاته قطع فنية ذات إبداعية فوتوغرافية عالية الدقة. ملصق فيلم “الثلث الخالي”. أمّا الخطّ السردي الثاني فشبه نقيضة تماما، مع الحلول الطارئ لحكاية الهارب من السجن التي تزاحم أو تكاد تلغي حكاية حميد ومهدي. الهارب الذي يتعقب حبيبته بغية الانتقام من غريمه، وعبر أطوار تقصيه في الصحراء مع ضياع حميد ومهدي في انتظاره، يسلك الفيلم طريقة جديدة للحكي، أقرب إلى صنف الويسترن، لكن ببصمة مغربية مفردة، إذ تتناغم الموسيقى مع الشعر وجمالية الصورة في خلق متعة سينمائية خالصة، ذات إيقاع فاتن. بقدر ما يكشف الجزء الأول عن اجتماعية تخييله ووواقعيته السوداء ينزاح الجزء الثاني صوب الغموض الأقرب إلى التجريد في هذين الاشتباكين يمكن تسجيل العبور السلس والذكي من بلاغة الفيلم الروائي إلى بلاغة الفيلم الشعري، فبقدر ما يكشف الجزء الأول عن اجتماعية تخييله ووواقعيته السوداء، ينزاح الجزء الثاني صوب الغموض الأقرب إلى التجريد. هي معادلة من الصعب الموازنة في ما بين طرفيها المتباينين، وفي هذا النزوع المجازف ينجح المخرج في رهانه المختلف، هادما الحدود بين الأنواع ومهجنا الأشكال بطريقة جمالية متحولة. مشهد من الفيلم. علامات بصرية تتطاير خريطة طريق مهدي وحميد في رحلتهما من أجل استعادة الديون شبه المستحيلة، فيقحماننا معهما في تيههما الطارئ، وبعد ذلك تتطاير حكايتهما المركزية لصالح حكاية ثانية تنتزع منهما المساحة الرئيسة، وهي حكاية الهارب المتعقّب حبيبته ناسجة الزرابي، وفي قلب هذه تتشظّى حكايات صغرى موازية (السكير العائد من الدار البيضاء من أجل استرضاء امرأة ترفضه/ حشد المهاجرين في اتجاه الساحل/ مكر ما يرويه مهدي لحميد عن قصة سردتها أمه حول ناسجة الزرابي يعشقها رجلان، أحدهما لص والثاني خلوق. تتزوج من اللص قسرا بينما هي تحب الآخر الى درجة أنها تنسج وجهه في كل قطعة سجادة… هي نفسها حكاية الهارب الذي انفرد بسيارتهما متعقبا حبيبته في هباء الصحراء). أما مختتم الفيلم مع عودة البطلين في سيارتهما المهترئة، فينتهي مفتوحا بوضع مهدي لصورة أمامهما تستأثر بانتباه حميد… أن يبدأ الفيلم بخريطة مفقودة وينتهي بصورة قد تكون لطفلته أو زوجته الهاربة، يذكي فرضية انخراطه من جديد في حكاية ثالثة منذورة لتخييل المتلقي. بذكائه السينمائي المستمزج لأكثر من صنف إبداعي، يتنزّه بنا فوزي بنسعيدي داخل متاهةٍ بطلها الحقيقي هو الصحراء لا يمكن لفيلم بديع أن يعبر مخيلتنا دون أن يترك وشما للقطة خالدة أو لقطتين أو ثلاث… بل إن أفلاما بعينها تشفع لها لقطات مفردة كهذه في الإقامة الأبدية داخل المفكرة السينمائية لكل متلقّ على نحو خاصّ، ولعلّ أبدع اللقطات في فيلم “الثلث الخالي” هي ما اختاره المخرج فوزي بنسعيدي بعناية لتكون صورة ملصقه حين تمطر في طريق الصحراء، ويلوذ البطلان بشجرة على الناصية احتماء، بسبب عراء سيارتهما من سقف، كذلك لقطة البوابة الصخرية في قلب الصحراء الغسقية وحذوها شجرتان بريتان، تحيلان على الشخصيتين من جهة أولى، وعلى الحكايتين الرئيستين من جهة ثانية، ولقطة ثالثة حينما ينفطر الغبار عن سيارة الهارب في معترك الصحراء دائما، إذ يتماهى الشعر وهلامية الغبار المتماوج بشكل إبهامي لافت. ثمّ لقطة رابعة لاندلاع النار في المنسج المنتصب على الحافة، وخامسة حين يستلقي الهارب على الحافة الصخرية الشاهقة، المطلة على المشهد البانورامي الشاسع للصحراء الطاعنة في الهباء، وتنقشع السيارة المهترئة في الأسفل، تمضي في طريق سديمية نحو خلاص يرومه البطلان. مشهد من الفيلم. شعر السينما ليس بالقصيدة وحدها يتحقق الشعر، وإنما بأنواع تعبيرية أخرى ومنها السينما. مجمل أفلام فوزي بنسعيدي تنجح في تحقيق هذه المخاطرة البصرية، وهذا ما سجلناه في مقال سابق في “المجلة” حول فيلمه الممتع “يا له من عالم جميل”. بذكائه السينمائي المستمزج لأكثر من صنف إبداعي في تجريبه البصري، يتنزّه بنا فوزي بنسعيدي داخل متاهةٍ بطلها الحقيقي هو الصحراء، والمفارقة الصارخة أن الهامش المنسي، جنوب المغرب الذي يعاني فداحة الإهمال والترك والإقصاء (بالمضمون السياسي والاجتماعي والاقتصادي) هو نفسه الهامش السحري، الطاعن في الجمال المريب، كما اختار أن يصوّره فوزي بعين الإدهاش والإفتان، إذ معادل بؤس “الثلث الخالي” سياسيا هو عظمة جماله شعريا. المزيد عن: المغرب الصحراء فيلم سينما جوائز دراما 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post الهند ترفض اتهام وزير داخليتها باستهداف ناشطين سيخيين في كندا next post روبرت فورد يكتب عن: عودا على بدء…استراتيجيات قديمة – جديدة لتشكيل الشرق الأوسط You may also like “فريدريك أمير هومبورغ”… على خطى سقراط في الفن... 5 نوفمبر، 2024 رواية عُمانية عن لعنة الخوف الذي يأكل الأرواح 5 نوفمبر، 2024 كمال داوود… أديب الحوريات المنفي “بقوة الظروف” 5 نوفمبر، 2024 هل يخطط أكبر سينمائي في العالم لمواصلة الإبداع؟ 5 نوفمبر، 2024 محمد الأشعري عنوان لجيل “الصدمة والنسيان” 3 نوفمبر، 2024 “مفترس البحار” دعوة لتكريم محاربي تجارة الرقيق 3 نوفمبر، 2024 طالبات “رباعي أكسفورد” أعدن اختراع الفلسفة خلال الحرب... 3 نوفمبر، 2024 الاقتصاد الإبداعي: كيف تكون الثقافة مصدرا للثروة؟ 3 نوفمبر، 2024 رمبراندت حين يدخل في خانة الرسامين المستشرقين 3 نوفمبر، 2024 “في رحيل زاهر الغافري” ملف جديد من مجلة... 3 نوفمبر، 2024