مشهد من إحدى لحظات فيلم "مقابلة" (إنترفيستا) (موقع الفيلم) ثقافة و فنون فلليني يحقق وصيته السينمائية في “مقابلة” متخيلة مع اليابانيين by admin 3 أغسطس، 2024 written by admin 3 أغسطس، 2024 98 أنتج في فيلمه الأقل ذاتية واحداً من الأفلام الأكثر تركيبية في تاريخ السينما اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب من ناحية مبدئية كان يفترض بفيلم “مقابلة” الذي حققه المخرج الإيطالي السينمائي الكبير فدريكو فلليني في عام 1987 أي قبل وفاته بخمس سنوات أن يكون فيلمه الأخير. ليس لأنه كان قد أعلن ذلك سلفاً، أو لأنه كان قد تعب عند نهاية حياته التي تقترب من نهايتها، من الوقوف وراء الكاميرا، وليس طبعاً لأنه لم يعد يجد لدى منتجيه رغبة في تمويل أية مشاريع أخرى، ب ل بكل بساطة لأن هذا الفيلم نفسه إنما هو من نوع الأعمال الإبداعية التي ينجزها مبدع كبير من طينة فلليني عند نهاية حياته كي تكون نوعاً من جردة حسابية لتلك الحياة، معلناً عبرها أنه حتى وإن كان لا يزال لديه شيء يقوله سيختار بالضرورة وسيلة فنية أخرى لقوله. ومع ذلك وقبل رحيله عن عالمنا في عام 1993 بفترة حقق فيلماً روائياً أخيراً كان يحلو له أن يقول عنه إنه “فيلم زائد عن اللازم”، على رغم أنه كان يعلن أنه من أحب أفلامه إلى قلبه والفيلم الذي كان يؤجله مرات ومرات طوال مسيرته. وكعادته كان يكذب في هذا البعد الأخير في الأقل. فـ”صوت القمر” (1990) الفيلم “الزائد” الذي نعنيه هنا، لم يولد إلا ابن وقته وربما في فترة شعر معها “المايسترو” أن الأقدار تتيح له مهلة وفرصة أخيرتين لإضافة عمل غير ذاتي على الإطلاق إلى قائمة أفلامه الكبرى والتي يصح اعتبار معظم إبداعاتها علامات في تاريخ السينما، يحاول عبره أن يرد على الذاتية المطلقة التي طبعت سينماه. ومهما يكن من الأمر هنا فإن “صوت القمر” ليس موضوع حديثنا بل موضوعه “مقابلة”، الفيلم الذاتي الذي نفترض أنه كان يمكن أن يكون الأخير في مسيرة سيد السينما الإيطالية الكبيرة. فدريكو فلليني: السينما وتاريخا الخاص لكتابة ذلك التاريخ (أ ف ب) ما وقع حقاً ولنبدأ هنا بالقول على أية حال إن هذا الفيلم الذي ينطلق مما وقع حقاً لفلليني عند بدايات تلك المرحلة الأخيرة من حياته حين جاء إليه في روما فريق تلفزيوني ياباني ساعياً إلى إجراء مقابلة تتناول حياته ومساره العملي يتحدث عنهما في ما يصوره الفريق في روما بخاصة، ثم في مناطق إيطالية فقرات متنوعة ترتبط بحياته وسينماه. غير أن فلليني سرعان ما وجد في ذلك المشروع فرصة سانحة لاستعادة محطات أساسية من حياته بحيث إن المشروع الياباني الذي سار من ناحيته في طريقه المرسوم سلفاً، سرعان ما تحول إلى ما يقارب خمسة أفلام جمع فيها فلليني عديداً من محاولات سينمائية سابقة له، ومن لحظات صورت حياته أمام مشاريع لم تتحقق ولكن بخاصة من شريط صور له ذات مرة وهو يتجول في مخازن بل حتى أروقة واستوديوهات “تشيني تشيتا” في روما – حيث كثيراً ما كنا، كاتب هذه السطور ورفاقي، نلتقيه وهو يعبث بالأكسسوارات والملابس وبقطع ديكورات كنا نعرف تماماً أنه يحاول استلهامها في مشاريع مقبلة له، لكن هذه حكاية أخرى بالطبع ليس هنا مكانها – وكل ذلك جمعه فلليني في ذلك الشريط الذي أعطاه في النهاية عنوان “مقابلة” جاعلاً منه وعلى عادته الماكرة الطيبة، نوعاً من النقد الرقيق من ناحية لتدخل التلفزيون في عالم السينما ومن ناحية ثانية للتعامل الإعلامي الياباني مع ما يعرفه اليابانيون عن تاريخ السينما. بوستر فيلم _مقابلة_ (إنترفيستا) (موقع الفيلم) الاستحواذ الفلليني غير أن هذه الناحية الأخيرة وبعد أن بدا كما لو أنها غاية فلليني، سرعان ما أضحت مسألة ثانوية في “مقابلة” لتتحول نقطة التركيز إلى موضوع آخر تماماً، يتعلق بواحد من المشاريع التي أجهضت في مسيرة فلليني: بالتحديد مشروع أفلمته رواية “أميركا” لفرانتز كافكا المشروع الذي كان يحمله بكل شغف ورغبة إبداعية في الأقل منذ شاهد في سنوات الستين فيلم “المحاكمة” لأورسون ويلز عن رواية أخرى للكاتب نفسه. ونعرف تاريخياً أن فلليني قد طارد حلمه بأفلمة “أميركا” طويلاً قبل أن يستسلم و”يؤجل” المشروع ولكن بعدما صور عديداً من المشاهد التجريبية وبعد جهود التحضيرات وما شابه ليستخدم المقادير التي صورت في تركيب فيلم “مقابلة” كجزء من تاريخه السينمائي وكدرس في ضرورة ألا يعيش المبدع على أحلام مؤجلة. فما يؤجل سيبقى مؤجلاً إلى الأبد. وسيبقى بالتالي صورة لما كان يمكن للفنان أن يضيفه إلى مسيرته لكنه… لم يفعل. ومن هنا يستعرض لنا واحد من أجزاء “مقابلة” الأكثر أهمية وإثارة للأسى، ما لم يحققه فلليني بقدر ما يستعرض ما حققه وسط ابتسامات المبدع المهرج الكبير وهو يقول في مواجهة الشاشة إن ما يفعله الفنان وما لا يفعله، سواء بسواء هما ما يشكل تاريخه “بل لعل في مقدوري أن أقول إن ما لا يفعله يمكن أن يكون أكثر تعبيراً عنه في إبداعه مما فعله بالنظر إلى أنه يبقى ملكه الشخصي بينما نعرف مقدار التنازلات المادية والتقنية وغير ذلك، التي يبذلها في أعمال متحققة تخضع خلال تحققها لما يبعدها ولو ضمن حدود عما كان المبدع يبحث عنه من خلال تحقيقها” كما كان فلليني يقول دائماً. فيلم طموح كل هذا إذاً يظل جزءاً من ذلك الفيلم الطموح الذي إذ ولد من مشروع ياباني بسيط وغالباً متخيل في تفاصيله، سرعان ما تحول إلى وصية فللينية بالغة التعقيد. ولعل من أبرز سمات ذلك التعقيد هو تلك السمة التي تعيدنا إلى اللقطة الأخيرة من فيلم فلليني “وأبحرت السفينة” الذي كان حققه قبل “مقابلة” بسنوات عدة وختمه بلقطة ترافلنغ مدهشة تشي بأن كل شيء رأيناه إلى زوال ما عدا… سينما فلليني نفسها بخداعها و”أكاذيبها” وسحرها. والحقيقة أن “مقابلة” يكاد يفتتح على ما قد يبدو استكمالاً لتلك اللقطة وما فيها من فضح للديكور كخدعة سينمائية هي عبارة عن ذلك البحر الصاخب الذي يخيل للمتفرج أنه كل ما يبقى بعد إبحار سفينة الموت. وفيما عدا هذه اللقطة والإشارات البصرية الكاشفة عن مشروع فيلم “أميركا” المجهض فإن ما يتبقى مما يقارب ساعتي عرض الفيلم، أربعة أو خمسة أجزاء تبدو للوهلة الأولى غير ذات علاقة في ما بينها وتكاد تكون تجميعاً لشتات يؤلف سينما فلليني بصورة عامة، تلعب هنا لعبة التوليف لعبتها بتحويل ذلك الشتات الذي من المستحيل أن ينتمي إلى زمن واحد، إلى نوع من أنطولوجيا تقدم لنا في تتابع غير تأريخي على الإطلاق، ما كانت لقطة “وتبحر السفينة” الأخيرة – بالتالي اللقطات الافتتاحية في “مقابلة” نوعاً ما إن لم يكن من أنطولوجيا لسينما فيللني ففي الأقل ما أراد دائماً من سينماه أن تكونه بما في ذلك لقطات منتزعة من أفلام أخرى له ومهرجون يملأون فضاءات مشاهده وصور أيقونية تكاد كل واحدة منها تقول رغبة من رغبات المعلم الكبير السينمائية الفلسفية الأولى. من التاريخ إلى الوصية ومن هنا حتى نقول إن “كل” ما نعتبره سينما فلليني منذ “الشيخ الأبيض” حتى “وتبحر السفينة” مروراً بـ”الحياة اللذيذة” و”ساتيريكون” و”جولييت الأرواح” و”كازانوفا” و”فلليني روما” و”أنا أتذكر” حاضر هنا خطوة يسهل قطعها، بل إن الأفلام التي قد لا تحضر على هذه الشاكلة البصرية المباشرة لن تختفي تماماً بل ربما تظهر على شكل أشباح تملأ مخيلة المتفرج. ومن هنا لا بد من القول إن “مقابلة” هو بكل تأكيد الفيلم الأكثر ذاتية الذي حققه فدريكو فلليني طوال مسيرة سينمائية دامت نحو نصف قرن. وهذا على رغم معرفتنا بأن سينما فلليني هي بكل وضوح وبصرف النظر عن هذا الفيلم الأخير الذي بني على مقابلة “تلفزيونية” غامضة، السينما الأكثر ذاتية التي صنعتها السينما في تاريخها ونتحدث هنا طبعاً وبخاصة عن “ثمانية ونصف” وعن “أماركورد” و”فلليني روما” لكي لا نسمي معظم سينما هذا المعلم الساحر حيث نراه دائماً من خلال شخصيات متنوعة قد تكون امرأته جولييتا مسينا أو صديقه وأناه الآخر مارتشيلو ماستروياني، نراه حاضراً في سينماه. لكنه هنا في “مقابلة” كما طلع من بين يديه في نهاية الأمر، في حقيقته وتاريخه وما واجه سينماه من مشكلات وعقبات تمكنت هذه السينما من التغلب عليها ودائماً باسم الفن. ويقيناً أن تلك هي الوصية التي أراد فدريكو فلليني تركها من خلال ذلك الفيلم بوصفه صانعاً للتاريخ وشاهداً عليه وشاهدة لقبر صاحبه! المزيد عن: فدريكو فللينيالسينما الإيطاليةفرانز كافكاأورسون ويلز 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post مصادر لـ«الشرق الأوسط»: مقتل اثنين من أعضاء المكتب السياسي لـ«حماس» و3 قادة عسكريين في غارة بغزة next post “الشعر النبطي” من مجالس السعوديين اليومية إلى المناسبات الكبرى You may also like مهى سلطان تكتب عن: الرسام اللبناني رضوان الشهال... 24 نوفمبر، 2024 فيلمان فرنسيان يخوضان الحياة الفتية بين الضاحية والريف 24 نوفمبر، 2024 مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024