ثقافة و فنون “غيبة مي” لنجوى بركات: الغائبة الحاضرة في كل شيء! by admin 14 أبريل، 2025 written by admin 14 أبريل، 2025 16 “غيبة مي” ليست بالضرورة “نسوية تقليدية” بمعنى الترويج لأفكار نسوية مباشرة أو دفاعية، بل هي رواية تستدعي تساؤلات نسوية من خلال تناولها لموضوعات الهوية، الجسد، السلطة، العائلة، الحرية، والعلاقات الجندرية. المدن الالكترونية / جان جبور في روايتها “غيبة مي” الصادرة حديثاً عن دار الآداب، تتابع نجوى بركات استكشافها لأسئلة الوجود، الذاكرة، والصراعات الداخلية. وهي موضوعات حضرت في أعمالها السابقة، حيث تسلط الضوء على شخصيات تواجه أزمات حادة. لكن على عكس أعمالها السابقة التي اتسمت أحيانًا بطابع اجتماعي أو سياسي أكثر وضوحاً، فإن غيبة مي أكثر التباساً وغموضاً، ذاك أن الشخصية المحورية امرأة على شرفة الرابعة والثمانين، وهي تعاني من خرَف متقطع، لذا فإن الأحداث المروية، كما تقول الكاتبة، هي “أضغاث ذكريات قديمة ممحوّة، وقد انبثقت فجأة” (ص 67)، تخرج من ذاكرة مثقوبة، ذاك أنه “بمرور الوقت، تضحي الذاكرة سلّة مخرّمة لا يصمد فيها إلا القليل” (ص 53). شخصيات وأحداث، بين الغياب والحضور من هذه الذاكرة المثقوبة تخرج وجوه مشوّشة وأحداث غير مترابطة يجهد القارىء لفك رموزها وإيجاد الصلة فيما بينها. فالكاتبة تتعامل مع الشخصيات والأحداث بطريقة انتقائية وزمنية متشظّية. لكن بقدر ما يتقدم السرد تتضح الصورة شيئاً فشيئاً، وتُطرح الأسئلة الفلسفية والنفسية حول الغياب، الهوية والمصير. ترتسم الوجوه بلمسات سريعة وتكتسي أهمية متفاوتة. معظمها لا عمق سيكولوجياً له، لكنها تُسهم جوهرياً في تشكيل صورة البطلة وإعادة رواية قصتها من زوايا مختلفة. كل شخصية تمثل مرآة تعكس جانباً من حياة مي، سواء عبر تأثيرها المباشر أو من خلال نظرتها إليها. تستذكر مي الجدة والوالد والوالدة، لكن تغيب أسماءهم. فيما تطل العمّات نبيهة وزكية ووداد اللواتي تظهرن كجوقة نسوية تقليدية، تفجّرن كبتهنّ بالولع بمباريات المصارعة. من الزوج الذي لا نعرف اسمه كذلك أكثر ما تذكر رجليه الجميلتين، فيما العشيق يحتل مساحة واسعة، وهو ليس مجرد عنصر رومانسي في القصة، بل مرآة تعكس صراع مي الداخلي، يكشف تناقضاتها، رغبتها في التعلق والانفصال، واحتياجها للحب مع خوفها منه. في هذه اللوحة المشوشة تمر كشريط سريع وجوهٌ عابرة كالأخوين سعادة بطلي المصارعة ورفاقهما برانس كومالي، وداني لنش، وكوفاكش. يحضر داهش الذي ذاع صيته في الأربعينيات والخمسينيات كرجل خارق.. شخصيات تخرج من خبايا الذاكرة، فيتكشّف ماضي مي وعلاقاتها المعقّدة، بما في ذلك الصراعات الداخلية التي عاشتها والضغوط الاجتماعية التي تعرّضت لها. أما شخصيات الحاضر، فربما اختُصرت بالسوري يوسف ناطور العمارة، وشاميلي السريلانكية.. والقطة التي وجدت لها أخيراً اسم “فْريدا”. يوسف ليس فقط صديقاً أو راوياً، بل هو يمثل القارئ نفسه، إذ يبحث عن مي ويحاول فهمها كما نحاول نحن. ومن خلاله، تُطرح أسئلة الرواية الكبرى. أما شاميلي فقد تكون لمسة الحنان الوحيدة في الرواية. فيما القطة ليست مجرد حيوان أليف، بل هي رفيق مي الذي يتشارك معها وحدتها وعزلتها. هذه الانتقائية تنطبق على الأحداث التي لا تحظى بالوزن السردي نفسه. يمر حدث زواج مي بشكل سريع وكأنه تفصيل هامشي، ولا يُذكر شيء عن ولادة التوأم: “بعد خروجي (من العصفورية) طلب يدي. تزوجته.. وانتفخ بطني وولدتُ وأنا لمّا أسترجع بعد رأسي الذي كنت قد أودعته لا أدري أين، ثم نسيته…” (ص 190)، بينما يُعطى الإجهاض بعد علاقتها بالعشيق أهمية سردية كبرى. هذا التفاوت في السرد ليس اعتباطياً، بل يحمل دلالات عميقة عن نظرة مي إلى حياتها، فما يُفرض عليها يبهت في ذاكرتها، بينما ما تختاره بنفسها يظل حاضراً بعمق. كل ذلك يجعل من مي شخصية غامضة، متأرجحة بين الهروب والبحث عن الذات، وممزقة بين قيود المجتمع وصوتها الداخلي. هي ليست بطلة نمطية، بل شخصية متمردة على واقعها، ومع ذلك تبقى أسيرة له في الوقت ذاته. من هنا تقييمها لذاتها بشكل عبثي: “أنا لا أؤمن بالملائكة، ولا أؤمن بالجحيم، وأكاد أقول إني لا أؤمن بشيء، وجلّ أمنيتي هي أن أحيا كفِجلة أو كلب” (ص 56). رواية اجتماعية ؟ تتناول “غيبة مي” القضايا الوجودية والفردية، لكنها في الوقت نفسه تسلّط الضوء على تحوّلات المجتمع اللبناني وتعكس واقعاً اجتماعياً متصدّعاً، حيث تُروى الأحداث ضمن سياق بلد يعيش انهيارات متتالية. “لا أظن أن أحداً في الكرة الأرضية قاطبة عايش ما عرفناه هنا منذ خمسة أعوام” (ص 90). هنا، لا تشكو نظرة مي من أي تشويش، وهي تتكلّم عن الانهيار الاقتصادي وثورة 17 تشرين وانفجار المرفأ بوضوح. تروي كيف نزل الناس الى الشارع “كلن يعني كلن”، وكيف ضاعت المدّخرات في المصارف، حتى أنها توجّهت إلى المصرف وبحركة احتجاجية ضربت بعصاها مكتب المدير. كما تُفرد لانفجار 4 آب صفحات مؤثرة، وتصف كيف تهافت مئات الشابات والشبّان، يكنسون الطرقات من أرتال الزجاج والردم، لتخلص إلى القول: “صارت المكنسة ذات القبضة الطويلة في أيديهم شعار المرحلة، وبات كنس الكل مطلوباً، لا بل ضرورة للاستمرار في العيش، فنحن مواطنون يتامى، لا دولة تهتم بنا ولا مؤسسات” (ص 100). كما تُطرح في خلفية الصورة مسألة الهجرة والضياع، حيث يواجه الأفراد صعوبة في إيجاد مكان لهم داخل وطنهم، وولدا مي المهاجران هما صورة للجيل الذي يُجبر على الهجرة بسبب انسداد الأفق في الوطن، ما يجعل حضورهما في الرواية رغم غيابهما، بمثابة شهادة على فشل المجتمع في احتواء أفراده، وعلى الصراعات التي تجعل الوطن مكاناً منفِّراً بدلاً من أن يكون مصدر أمان وانتماء. إجمالًا، تقدم “غيبة مي” قراءة اجتماعية دقيقة للوضع اللبناني، حيث تتحرك شخصياتها في فضاء مشبع بالأزمات التي لا تترك مجالاً للاستقرار، مما يجعل الرواية توثيقاً أدبياً للحظة تاريخية قاسية. رواية نسوية؟ “غيبة مي” ليست بالضرورة “نسوية تقليدية” بمعنى الترويج لأفكار نسوية مباشرة أو دفاعية، بل هي رواية تستدعي تساؤلات نسوية من خلال تناولها لموضوعات الهوية، الجسد، السلطة، العائلة، الحرية، والعلاقات الجندرية. فالمؤشرات النسوية تظهر في رفض السلطة الأبوية المباشرة وغير المباشرة، وفي تفكيك صورة المرأة المثالية في المجتمع الشرقي، وتسليط الضوء على التهميش والضغط النفسي الذي تعيشه النساء، وإبراز ثنائية الحضور/ الغياب كإشارة إلى صراع المرأة مع الوجود المفروض عليها. من هنا، فالرواية لا ترفع شعارات نسوية مباشرة، لكنها تُجسّد قلق الأنثى، تمرّدها، وتفككها في مجتمع شرقي معقّد. وهي بذلك تفتح مساحة للقارئ لإعادة التفكير في النسوية لا كأيديولوجيا فقط، بل كتجربة وجودية وفكرية عميقة. تقنيات السرد أسلوب نجوى بركات في “غيبة مي” يتمتع بعدة ميزات تقنية تعكس براعتها السردية، وتجعل الرواية تجربة أدبية غنية ومعقدة. فهي تلجأ إلى السرد المتشظّي (narration fragmentée). الرواية لا تُروى بشكل خطي، بل تتنقل بين أزمنة وأحداث متداخلة، مما يعكس التشوش والضياع الذي تعانيه مي. الأحداث تُروى من وجهات نظر متعددة، وكأن القارئ يجمع قطع الأحجية لفهم الصورة الكاملة. يعزّز ذلك تعدّد الأصوات (Polyphonie)، بحيث لا تقتصر الرواية على صوت مي، بل تعتمد على روايات الآخرين (العشيق، يوسف..). من هنا يتأتّى الغموض والتأويل المفتوح، فلا تقدّم الرواية إجابات مباشرة، بل تترك الكثير من الأسئلة مفتوحة، مما يعزّز عنصر التأمل والتفاعل الذهني مع النص. أضف إلى كل ذلك لغة نجوى بركات المكثّفة، الخالية من الحشو، وتقنيات الوصف التي تعتمد على مقاطع مشهدية سريعة، وكأنها لقطات سينمائية متتابعة. بعض المقاطع تأتي كالومضات البصرية، حيث تتداخل الصور والذكريات بشكل سريع ومكثف. وفي لعبة الغموض/ الوضوح هذه تلجأ الروائية إلى “لعبة المرايا” ما بين “مي” في القسم الأول و”هي” في القسم الثاني، حيث يبدو الرابط بينهما غامضاً في البداية، لكنه يكشف عن ازدواجية الهوية والسؤال عن الذات الذي يشكل جوهر الرواية. “غيبة مي” ليست رواية تقليدية بأحداث واضحة ونهاية محددة، بل هي عمل أدبي معقد ومفتوح على التأويل، ويتلاعب بحدود الواقع والخيال بطريقة مميزة. إنه عمل مثير ومليء بالتحديات الفكرية، كُتب بأسلوب مكثّف، مما يجعل الرواية تجربة نفسية وتأملية أكثر منها مجرد حكاية تُروى بوضوح. بفضل هذه التقنية جعلتنا الكاتبة شركاء في البحث عن حقيقة مي، التي قد لا تعود مجرد شخصية فردية، بل تتحول إلى رمز لمجتمع يعاني من الغياب، والاغتراب النفسي والضياع الثقافي، وهذا ما يجعل الرواية عملاً وجودياً بامتياز. 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post شوقي بزيع يكتب عن: رثاء البشر في شيخوختهم والمدن في غروبها next post مهرجانات بعلبك2025: “كارمن” بإنتاج لبناني-فرنسي…وهبة طوجي ومفاجآت أسامة الرحباني You may also like خوليو سانتانا على طريق إيخمان أوفر حظا وأهدأ... 15 أبريل، 2025 ماريو فارغاس يوسا… حائز «نوبل» وعملاق الأدب اللاتيني 15 أبريل، 2025 فارغاس يوسا يسدل الستار على الجيل الذهبي لكُتَّاب... 15 أبريل، 2025 شوقي بزيع يكتب عن: رثاء البشر في شيخوختهم... 14 أبريل، 2025 أيقونة الأدب اللاتيني.. وفاة أديب نوبل البيروفي ماريو... 14 أبريل، 2025 هاروكي موراكامي والرواية بوصفها مهنة 14 أبريل، 2025 عبده وازن يكتب عن: 50 عاما على الحرب... 13 أبريل، 2025 فيلم هادي زكاك يشهد على ماضي “سينمات” طرابلس 13 أبريل، 2025 أفلام هوليوودية تمجد الانعزالية الأميركية “العائدة” 13 أبريل، 2025 ما الذي يفتح شهية المنصات لدراما المراهقين؟ 13 أبريل، 2025