ثقافة و فنونعربي عندما صرخ وليام فوكنر “أبشالوم! أبشالوم” إيذانا بالهزيمة by admin 1 أبريل، 2023 written by admin 1 أبريل، 2023 18 رواية ترسم صورة شاملة عن الحرب الأهلية الأميركية وفضائح العنصرية اندبندنت عربية \ سناء عبد العزيز كثيراً ما يوصف وليام فوكنر بالكاتب الديمقراطي، لأنه يسمح لشخصياته بالتعبير عن آرائهم وتبادل الخبرات ووجهات النظر في نوع من السرد المتقطع، عبر متوازيات زمنية تشبه القضبان. غير أنها تتيح بتجاورها، رؤية الأحداث من كل زواية ممكنة وتوسيع البؤرة التي انطلق منها السرد كدوائر ناجمة عن قذف حصاة في الماء، إلى أن تكتمل القصة بأركانها المؤلمة. بيد أن ديمقراطية فوكنر مع أبطاله تتنافى تماماً مع تسلطه على قارئه الذي يكون لزاماً عليه ألا يسترخي في مقعده مطلقاً، شاحذاً انتباهه إلى أقصى حد يمكنه من تجميع الشذرات غير المكتملة وسد الفجوات، بتفاصيل من رواة جدد قد لا ينتمون إلى الحكاية الأصلية بقدر ما يتقاطعون معها في زمان ومكان آخر. وكل ذلك من خلال بنية معقدة مثل غابة متشابكة الأغصان، من صور مركبة وجمل طويلة جداً، بلغ عدد كلمات إحداها في ملحمته الرائعة “أبشالوم! أبشالوم” الفصل السادس، 1288 كلمة. اختراع الأسطورة صنفت “أبشالوم! أبشالوم!” التي صدرت ترجمتها العربية أخيراً عن دار المدى بقلم سيزار كبيبو، كواحدة من أفضل الروايات الأميركية، وأفضل رواية جنوبية على الإطلاق، وهي قصة ثلاث عائلات من الجنوب الأميركي، نشرت للمرة الأولى في عام 1936، وتقع أحداثها قبل الحرب الأهلية، وخلالها، وبعدها. ولئن كتب فوكنر “أبشالوم” بعد رواية “الصخب والعنف”، التي نال عليها جائزة نوبل عام 1949، فهو كان على اعتزاز بها، وبالجهد الحثيث الذي بذله لكتابتها، وبما أعطاها من قلبه وروحه، كما يشير الناشر. ففي تحفته الروائية هذه قدم فيها فوكنر صوراً ورموزاً وأحلاماً ظلت تطارده حتى أيامه الأخيرة. الرواية في الترجمة العربية (دار المدى) وعلى غرار أعمال فوكنر فنحن حيال رواية لا يمكن الولوج إليها بسهولة، بدءاً من العنوان المأخوذ من التوراة عن قصة أبشالوم، ثالث أبناء داود وأكثرهم قرباً إلى قلبه، لولا أنه أرهق والده بتمرده وطيشه واستباحته لزوجاته وارتكابه زنا المحارم، ثم قتله لأخيه غير الشقيق أمنون، بعد أن اغتصب أخته الجميلة تمار، مستنكراً صمت داود على فعلته الشنعاء. ومن ثم انقلب عليه وخاض حرباً ضروساً لتقويض ملكه، وبينما كان على وشك الانتصار، مني بالهزيمة. وعلى رغم أن داود طلب من قادته العسكريين ألا يسيئوا إليه، فقد دفنوه في حفرة، وأهالوا الحجارة على قبره، وعندما بلغ النبأ داود، صرخ من شدة الألم “ابني أبشالوم، يا أبشالوم، يا ابني، يا ابني!”. من تلك الصرخة يأتي العنوان الدال، على رغم أن فوكنر اختار في البداية “البيت المظلم” ليكون عنواناً لروايته في إشارة إلى منزل الشخصية الرئيسة، حيث تنطلق الأحداث من هذا الفضاء الذي يتسع ويضيق لتنتهي إليه. بطل الرواية هو توماس سوتبن، شخص غريب وغامض وفد إلى جيفرسون، ميسيسيبي، في أوائل ثلاثينيات القرن الـ19، مع بعض العبيد ومهندس معماري فرنسي ليبني مزرعة كبيرة وقصراً فخماً، على مساحة 100 ميل مربع من الأرض، أخذها من السكان الأصليين، وزرعها بالقطن. وحتى يكتمل مشروعه في تأسيس عائلة قوية، يتقرب من تاجر محلي ويتزوج ابنته، إلين كولدفيلد، التي تنجب له بالفعل طفلين، هنري وجوديث، ليوشك الحلم أن يتحقق. تراجيديا عائلية الرواية بالأصل الإنجليزي (أمازون) ولكن عندما يكبر هنري ويذهب إلى الجامعة، يلتقي زميله تشارلز بون، ويدعوه إلى زيارته في عيد الميلاد، وينجذب إلى جوديث. وتمضي التراجيديا باكتشاف أن تشارلز هو ابن توماس من زواج سابق، حين كان يعمل مشرفاً على مزرعة في جزر الهند الغربية الفرنسية، وبعد قمعه لانتفاضة العبيد، يعرض عليه الزواج بابنة مالك المزرعة، يولاليا بون، فيتزوجها وتنجب له تشارلز. وحين يكتشف أن يولاليا من أعراق مختلطة، يهجرها ويتخلى عن الطفل مع منحهما جزءاً من تركته كتعويض لهما. لكن هنري لا يصدق والده ويرافق تشارلز إلى منزله في نيو أورلينز. وعندما تندلع الحرب ينضمان إلى الجيش الفيدرالي ويقضيان أربع سنوات في الحرب التي تغير وجه الجنوب إلى الأبد. وتتضح ملامح التغيير في تقليص مزرعة سوتبن إلى ميل مربع واحد، بالتالي تقليص نفوذه أو بالأحرى نفوذ الجنوب الذي كان يحمل منذ البداية بذور اللعنة. وفي محاولة يائسة لاسترداد نفوذه أو حتى النهوض مرة أخرى، يتقدم لخطبة روزا كولدفيلد، الأخت الصغرى لزوجته المتوفاة، وتقبل ولكنه يطالبها بإنجاب ذكر، فتهجره، ويبدأ علاقة مع ميلي البالغة من العمر 15 سنة، وتنجب له بنتاً، فيشعر بخيبة أمل شديدة، ويلقي بها والطفل جانباً. فهما لا يستحقان النوم في الأسطبل مع حصانه الذي أنجب للتو مولوداً ذكراً. وهذا ما أجج غضب جدها واش جونز، فيقتل توماس وابنته وحفيدته جملة واحدة. أثناء الحرب يتغير موقف هنري حين يعرف أن تشارلز من جذور مختلطة، مما يدفعه إلى قتل أخيه عند بوابات القصر ثم الفرار إلى منفاه الاختياري كما أبشالوم في قصة داود. ويعود مثله إلى المزرعة لا بغرض المصالحة مع الأب كما في الأسطورة الأصلية (نظراً إلى أن توماس قتل بالفعل)، ولكن من أجل الخلود للراحة. ولكن بخطأ من الخادمة، يتسبب في موته هو الآخر على يد السلطات. وهكذا يتقوض البنيان ولا يبقى من عائلة سوتبن سوى طفل أسود معوق ذهنياً، هو نتاج علاقة بين الأب توماس وجارية سوداء. يقول فوكنر في معرض حديثه عن روايته: “إن اللعنة التي يعمل الجنوب في ظلها هي العبودية، وأن لعنة أو عيب توماس سوتبن الشخصي، كان اعتقاده أنه أقوى من أن يحتاج إلى أن يكون جزءاً من العائلة البشرية”. فوكنر العسكري (مؤسسة فوكنر) غير أن هذه النهاية تذكرنا بلعنة ماكوندو التي انتهت سلالتها بمسخ من زنا محارم، في “مائة عام من العزلة” للكاتب الكولومبي، ابن الجنوب الأميركي، غابرييل غارسيا ماركيز، المعروف بشدة تأثره بفوكنر. الزمكانية الروائية انشغل فوكنر في أعماله، بدءاً من روايته “سارتوريس” 1928، بالجنوب الأميركي وخطيئته الكبرى المتمثلة في تسخير الزنوج في أعمال مرهقة، إلى أن قامت الحرب الأهلية وخسر الجنوب وتغير وجه الحياة إلى غير رجعة. كتب جبرا إبراهيم جبرا في مقدمة ترجمته لـ”الصخب والعنف”، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر: “وهذا التغير بما فيه من انحطاط أو سمو، من شهامة أو حقارة، وبما سبقه وتلاه من جرائم وصراع وهتك عرض، هو موضوع فوكنر، الذي يرى في قصة الجنوب مصغراً لما حل بالعالم من فوضى خلقية وانحلال اجتماعي”. ولا غرابة في ذلك، فقد ولد فوكنر في مدينة نيو أولباني وتربى على حكايات الجنوب الذي كانت تقطنه مجموعة من الارستقراطيين، منها عائلة سارتوريس، إلى جانب عدد من النازحين الجدد، أمثال الكولونيل سوتبن. والجميع استمات في توسيع حدوده أو حتى الحفاظ على الأرض المغتصبة من السكان الأصليين. وعقب الحرب الأهلية كان فوكنر شاهداً على التغيرات الهائلة التي جرت في الجنوب الأميركي، وشغف بالتنقيب عن أسباب الهزيمة، في أعماله التي ظهرت في العصر الذهبي للرواية الذي كان من أنضج ثمارها “البحث عن الزمن المفقود” لمارسيل بروست و”عوليس” لجيمس جويس، وغيرهما من الروائع التي تلاعبت بالزمن على طريقتها، من خلال تيار الوعي واكتشافات الفيزياء المذهلة، فضلاً عن اعتمادها الأسطورة ومحاولة بعثها من بطون التاريخ. يقول الناقد ديف ناش في مراجعة للراواية: “الحرب والأسطورة مترابطتان، وغالباً ما يبني كل منهما على الآخر. ويجيب فوكنر في أسطورته على السؤال الذي فكر فيه كثيرون منذ عام 1865: لماذا خسر الجنوب؟ لأنه كما تقول روزا كولدفيلد في الفصل الأول، كان مؤلفاً من رجال مثل سوتبن، الرجال ذوي الشجاعة والقوة ولكن من دون شفقة أو شرف”. من هنا جاء اختيار فوكنر لطريقة سرد “أبشالوم! أبشالوم!” على شكل ذكريات في ترتيب غير متزامن، من قبل روزا الخطيبة وأخت الأم المتوفاة لشخص يدعى كوينتين كومبسون، كان جده صديقاً لسوتبن. ولأنه تربى بمرارة ما تجاه سوتبن، نلمح إلى جانب القصة الأصلية انبثاقات الوعي غير الشعورية التي تحرف الأحداث عن مواضعها. وسرعان ما ينتقل السرد إلى والد كوينتين (كومبسون) ليضفي بعض التفاصيل على قصة روزا المتحيزة، ويبلور الدرس المستفاد من القصة وسطوة الحتمية القدرية على حياة البشر. ثم يأتي دور كوينتين ليحتل مكان الراوي ويحكي القصة لزميله في الغرفة، إلى جانب الرسائل والتخمينات والتكهنات التي تضيف إلى الحكاية، بقدر ما تنال منها، حتى ينتبه القارئ لمدى الزيف الذي يمكن أن يلحق بالتاريخ أو بالأسطورة، جراء تعدد الرواة واختلاف الزمن. المزيد عن: وليام فوكنر\روايةالحرب الاميركية\العنصرية\العائل\ةالحوار الداخلي\السر\الجنوب 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post موت مبكر لجيمس آجي المرجع الأميركي لثورة “أصحاب اللحى” next post تعرفوا إلى قصة ستورمي دانييلز الممثلة الإباحية التي تعرقل ترمب You may also like فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم... 24 نوفمبر، 2024 قصة الباحثين عن الحرية على طريق جون ميلتون 24 نوفمبر، 2024 عندما يصبح دونالد ترمب عنوانا لعملية تجسس 24 نوفمبر، 2024 الجزائري بوعلام صنصال يقبع في السجن وكتاب جديد... 24 نوفمبر، 2024 متى تترجل الفلسفة من برجها العاجي؟ 24 نوفمبر، 2024 أليخاندرا بيثارنيك… محو الحدود بين الحياة والقصيدة 24 نوفمبر، 2024 مهى سلطان تكتب عن: الرسام اللبناني رضوان الشهال... 24 نوفمبر، 2024 فيلمان فرنسيان يخوضان الحياة الفتية بين الضاحية والريف 24 نوفمبر، 2024 مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024