ثقافة و فنونعربي عندما زار “مستر تورنر” أول مصور فوتوغرافي في لندن by admin 31 مايو، 2021 written by admin 31 مايو، 2021 35 الانطباعي الكبير لا يرى أي تنافس بين الرسم والتصوير اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب في واحد من أجمل مشاهد القسم الأخير من فيلم “مستر تورنر” (2014) الذي حققه المخرج الإنجليزي مايكل لي قبل سنوات عن حياة وأعمال رسام القرن الـ 19، البريطاني الأشهر ويليام تورنر (1775 – 1851)، يطالعنا الرسام وهو في آخر سنوات حياته يتمشى في ضاحية لندنية ستصبح لاحقاً جزءاً من العاصمة البريطانية، ليتنبه فجأة إلى وجود حانوت أنيق، إنما لم يفهم أول الأمر ماذا يبيع. يدخل الرسام الكبير إلى الحانوت، يقوده فضوله وبضع صور تدهشه واقعيتها، محاولاً أن يفهم ماذا يحدث. وينتهي الأمر بأن يشرح له صاحب الحانوت أن مهنته التقاط صور فوتوغرافية عبر تلك الكاميرا التي كانت اختراعاً جديداً “سحرياً” وصل للتو من باريس، حيث اخترعها وصنعها عالم يدعى داغير. استسلام هنا بعد تردد يقنع المصوّر زائره بأن يجلس أمامه كي يلتقط له صورة فوتوغرافية. في البداية يشمئز تورنر ويتردد ويقاوم، لكن الأمر ينتهي به الى “الاستسلام”، وتلتقط الصورة وبضع صور غيرها إثر مشهد يدوم في الفيلم نحو أربع دقائق، لتكون ربما أول صور التقطت لرسام إنجليزي في التاريخ. ولا يتضح في الفيلم ما إذا كان المصور قد عرف زبونهن أو أن هذا الأخير قد علم أن من صوّره كان جي جي مايال، الذي دخل التاريخ بوصفه أول مصور فوتوغرافي إنجليزي. ولئن كان الفيلم يحكي لنا حكاية ذلك اللقاء الطريف بين الرسام ومؤسس التصوير الإنجليزي مايال، فإنه يقول كيف أن فضول تورنر وانبهاره بالاختراع الجديد لم يمنعاه من التعبير عن بعض قلق أحسه تجاه مستقبل مهنته، لكنه لاحقاً إذ يري الصورة لامرأته الجديدة مسز بوث، يقول لها إنه رتب الأمور بحيث يصحبها قريباً كي يتصورا معاً، فترفض مرعوبة، لكننا في مشهد تال سنجدها في الأستديو مع رفيقها الرسام، تقف برعب لتُلتقط صور لها، ثم تجرؤ قليلاً لتخبر تورنر والمصور كيف أنها تملك صورة تحتفظ بها لشلالات نياغارا، وهنا يقول تورنر ساهما إنه واثق من أن التصوير سيحل قريباً محل الرسم. مشهد التصوير مع الصورة التي يفترض أن مايال التقطها وبقيت محفوظة (غيتي) بين الفيلم والواقع هذا في ذلك المشهد الطريف من الفيلم، أما خارج الفيلم فإننا نعرف أن مايال روى في مذكراته استقبل في حانوته عام 1839 تحديداً رجلاً عجوزاً ثاقب النظر مترفع السمات، راح يطرح عليه عدداً كاد لا ينتهي من الأسئلة حول الصور والتصوير وتقنياته وجدوى كل ذلك، لينتهي اللقاء بالتقاط صور عدة لذلك الزائر الغريب، الذي لاحقاً فقط سيتبيّن للمصور أنه لم يكن في حقيقته سوى ويليام نورنر، أشهر الرسامين الانطباعيين الإنجليز. والمؤسف أن كل الصور التي التقطها مايال لتورنر ضاعت، باستثناء واحدة يفترض أنها كانت من بين تلك الصور. مهما يكن من أمر، لا بد من أن نتنبه إلى أن الفيلم يصور فرح تورنر بالصورة وعدم تعبيره عن “الخوف” الذي اعترى معظم الرسامين في تلك المرحلة الانتقالية، إزاء ظهور تلك التقنية الجديدة لالتقاط الـ “بورتريه”، وهو ما يتحدث عنه صديق لتورنر وللرسامين المعاصرين له، هو المصرفي صموئيل روجرز، الذي اشتهر بهوايته جمع اللوحات وزياراته المتكررة إلى العاصمة الفرنسية لذلك الغرض، فهو يروي أنه في العام 1840 وخلال لقاء في دارته ضمه وعدداً من رسامي تلك المرحلة ونقّاد الفن فيها، عرض أمام الحاضرين عدداً من الصور الفوتوغرافية، وكانت تسمى “داغيروتيب” يومها على اسم المخترع المصور داغير، التي تلقاها لتوه من باريس. التصوير إهانة للفن! حينها وكما يروي روجرز في مذكراته، أجمع الرسامون الحاضرون الذين كانوا يشاهدون ذلك النوع من الصور للمرة الأولى، على أن ما يحدث هو إهانة في حق مهنة الرسم، ولا سيما في حق تقنيات الرسام تورنر نفسه. وخلال النقاش وصل تورنر إلى المكان، وحين عرف ما يتحدثون عنه ابتسم ساخراً حين بدأوه قائلين، “لقد ماتت مهنتنا!” وأجابهم، “إذاً بات علينا اليوم أن نتوجه إلى الريف وتحت إبطنا علبة ميكانيكية بدلاً من الريش والمسطّحات البيضاء”. والحقيقة أن الذين استندوا إلى هذه الحكاية كي يسهبوا في الحديث عن كيف أن تورنر كان واحداً من قلة من فنانين تقبلوا الفكرة الفوتوغرافية، أكدوا دائماً أن الرسام كان، بتعبيره ذلك، أكثر من كل زملائه وعياً بضرورة التأقلم مع الجديد مهما كان رأينا به. ومهما يكن، فإن تلك الحكاية، ولا سيما المشهد المعبر عنها في فيلم “مستر تورنر”، تكشف لنا كمّ أن هذا الرسام الرؤيوي أدرك باكراً، وعلى عكس معظم زملائه، أن ليس ثمة ولن يكون هناك تنافس بين الرسم والتصوير الفوتوغرافي، بل سيكون لكل منهما مجاله الخاص، معتبراً أن التصوير “يسجل الواقع بقدر كبير من الدقة”، أما الرسم فـ “يلعب على تأثيرات تركيب المشهد والنور والمادة، كي يكوّن في نهاية الأمر نوعاً من التفسير المثالي للعلاقة بين الإنسان والعالم”. الفن يطوّر نفسه وهنا قد يكون من المهم أن نشير إلى أن نظرة تورنر المبكرة إلى العلاقة والفوارق بين الرسم والتصوير ستتطور لاحقاً، ولا سيما بعدما رسخ التصوير الفوتوغرافي مكانته وأصبح أكثر وأعقد من مجرد تقنية مبهرة. ونعرف طبعاً أن التصوير، وإن بشكل موارب، دفع الفنانين انطلاقاً من تطوره المتشعب والمدهش خلال عشرات السنوات التي تلت انطلاقاته الخجولة الأولى، إلى ابتكار تلك التقنيات والأساليب والمدارس الجديدة التي ستسود طوال القرن الـ 20 عبر تيارات تتأرجح بين “المستقبلية” و”الدادائية” و”التكعيبية” و”السوريالية” و”التجريدية”، إلى آخر ما هنالك من توجهات فنية جعلت همها الأول الابتعاد عما يمكن للـ “فوتوغرافيا” أن تنافسها فيه. لكن هذا لم يمنع رسامين مقدامين آخرين من الإصرار على الغوص حتى في أكثر أنواع الرسم الواقعي واقعية، متحدين التصوير الفوتوغرافي في عقر داره، واصلين مع كبار هذا النوع من أمثال إدوارد هوبر وغيره، إلى تلك الواقعية المفرطة التي وجد التصوير نفسه عاجزاً عن اللحاق بها، وعلى الأقل حتى ظهور كبار الكبار في هذا المجال، من أمثال دوانو وسالغادو وكابا وحتى آندي وارهول من الذين عرفوا كيف يقرّبون بين الفنّين أحياناً من خلال الأشكال وأحياناً من خلال المواضيع. صحيح أن ذلك التقريب نسف نظرية تورنر الرؤيوية، لكنه في نهاية الأمر عرف كيف يطورها انطلاقاً من فكرة تقول إن ما من فن يمكنه أن يحلّ مكان فن آخر، ففي الحياة والوجود متسع لكل شيء، بما في ذلك أصناف الفنون نفسها. سيّد الرسم الإنجليزي والحقيقة أن ويليام تورنر كان يرى الأمور على هذا النحو أيضاً، ولكن من طرف خفي، هو الذي كان يمثل خط التقدم في الحياة الفنية في بلاده، وعرف في سبيل تعزيز ذلك الخط، كيف يتجول وهو مكتهل في أنحاء أوروبية عدة، مستلهماً ما يجدّ من مدارس فنية، ومطّلعاً على كل جديد في عالم الاختراعات والفنون والمهن، ولقد انصبّ كل ذلك في النهاية في فنه وفي إقباله على الحياة، وهو ما عبّر عنه مايك لي في ذلك الفيلم الذي يمكن القول على أية حال إنه كان من أجمل الأفلام التي كرّست لحياة الفنانين. كان من الواضح أن مايك لي، حين حقق ذلك الفيلم، كان يحاول أن يكون منصفاً مع واحد اُعتبر دائماً من مؤسسي كل التجديدات التي طرأت على الفن الإنجليزي أواسط القرن الـ 19، وذلك بشهادة الناقد والفنان والمنظر جون راسكين الذي كان محور الحياة الفنية الإنجليزية طوال عقود، ووضع عن تورنر بعض أفضل الدراسات، معتبراً إياه سيد الرسم الإنجليزي في زمنه. المزيد عن: فيلم/مستر تورنر/مصور فوتوغرافي/لندن/رسام/ويليام تورنر/كاميرا/داغير/جي جي مايال 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post ما حكاية البقشيش في أميركا ولماذا دفع “الإكرامية” شبه إجباري؟ next post الأدب يسحر بعصيانه أما الفلسفة فتهذب برصانتها You may also like سامر أبوهواش يكتب عن: “المادة” لكورالي فارغيت… صرخة... 25 نوفمبر، 2024 محامي الكاتب صنصال يؤكد الحرص على “احترام حقه... 25 نوفمبر، 2024 مرسيدس تريد أن تكون روائية بيدين ملطختين بدم... 25 نوفمبر، 2024 تشرشل ونزاعه بين ثلاثة أنشطة خلال مساره 25 نوفمبر، 2024 فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم... 24 نوفمبر، 2024 قصة الباحثين عن الحرية على طريق جون ميلتون 24 نوفمبر، 2024 عندما يصبح دونالد ترمب عنوانا لعملية تجسس 24 نوفمبر، 2024 الجزائري بوعلام صنصال يقبع في السجن وكتاب جديد... 24 نوفمبر، 2024 متى تترجل الفلسفة من برجها العاجي؟ 24 نوفمبر، 2024 أليخاندرا بيثارنيك… محو الحدود بين الحياة والقصيدة 24 نوفمبر، 2024 Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.