أصبح الناس بمختلف وسائل الظهور يسعون إلى إظهار ما كانوا يخفونه وإخفاء ما كانوا يظهرونه (أ ف ب) ثقافة و فنون عبد السلام بنعبد العالي يقرأ حياتنا الراهنة في “شتات” by admin 31 مايو، 2025 written by admin 31 مايو، 2025 19 يضم الكتاب مقالات عن مواضيع متفرقة تشغل الناس أكثر مما يهتم بها المفكرون اندبندنت عربية / عبد الرحيم الخصار كان المفكر المغربي عبد السلام بنعبد العالي حاسماً في اختيار عنوان كتابه الجديد “شتات” الصادر ضمن منشورات المتوسط، فهو تجميع لأفكار متفرقة تخص مواضيع تنتمي إلى حقول معرفية وثقافية واجتماعية مختلفة. استحضر الكاتب في تقديمه مؤلفاً سابقاً للفيلسوف الدنماركي سورين كيركيغارد “فتات فلسفي”، في إشارة إلى أن كتابه الجديد يتشكل من أجزاء متفرقة، غير مترابطة بالضرورة، ولا تنضوي تحت مشروع محدد، وفق المفهوم المتعارف عليه في حقول البحث المعرفي لكلمة “مشروع”. يضم الكتاب أكثر من 30 مقالاً تهم مواضيع مرتبطة في مجملها بالراهن، من الذكاء الاصطناعي إلى موضة النحافة إلى الحروب والكوارث المعاصرة وأحداث العنف في فرنسا، إلى فلسفة الحدود إلى اهتمام الكتّاب بالتقاط الصور في معارض الكتب خلال حفلات التواقيع، وغيرها من الجزئيات والتفاصيل التي يعتقد القارئ في الغالب أن المفكر أو المنشغل بالحقل الفلسفي من المفروض أن يترفع عنها. إن صاحب “الفلسفة فناً للعيش”، على غرار نخبة قليلة من مفكري العالم، يكسر هذه القاعدة ويقارب المواضيع التي لا تشغل النخبة من أهل الفكر والثقافة الذين يحسون بأن مهمتهم هي مناقشة الأفكار الكبيرة، لكن العالم تغير، وأصبح الكثير من الجزئيات العابرة يشغل الناس أكثر من مصائرهم وقضايا أسلافهم الكبرى. لقد تحول الهامش إلى متن، وأضحى الزائل والسريع يحظى باهتمام المجتمع أكثر مما هو عميق ورصين، وأصبح الناس بمختلف وسائل الظهور يسعون إلى إظهار ما كانوا يخفونه وإخفاء ما كانوا يظهرونه، وانقطعوا عن الهموم المشتركة وانصرفوا إلى تفاصيلهم واهتماماتهم الحميمية التي أفقدتها الـ”سوشيال ميديا” كل طابع حميمي، لكنّ الفيلسوف لا يجاري هذه الموضة، بل يقف ليتأملها، ليحاور عناصرها ويعيد ترتيب هذه العناصر وفق رؤية تحكمها الثقافة. الكتّاب والتقاط الصور يستقرئ عبد السلام بنعبد العالي التفاصيل المرتبطة بحفلات توقيع الكتّاب لمؤلفيهم، حيث صار القراء يفرضون على المؤلف وضعيات التصوير، بحيث يمسك القارئ طرفاً من الكتاب ويطلب من الكاتب أن يمسك الطرف الثاني، وثمة أيضاً من سيطلب منه أن ينظر إلى الكاميرا ويبتسم. غلاف “شتات” عبدالسلام بنعبد العالي (منشورات المتوسط) يخاف المفكر المغربي أن يتحوّل الكاتب إلى فرجة أو إلى مادة بصرية، وأن يدخل في تيارات الظهور التي صارت تجرف كل شيء، ويستحضر موقف بارت من التصوير، حيث كان يرى أن لحظة التقاط صورة له هي لحظة يتحول فيها من كاتب إلى شبح، لأن لحظة التصوير بالنسبة إليه هي “تجربة موت صغرى”. يعود المفكر المغربي إلى الاشتقاق اللغوي في الثقافة اللاتينية الذي يجمع بين كلمة “فرجة” و”شبح” متوقفاً عند ثنائية الحضور والغياب، ويقول عن هذه التجربة “عندما تسعى الصورة إلى أن تجعل الغياب حاضراً، فإنها تغدو بذلك شهادة فعلية على غياب هذا الحضور”. لقد غدت لحظة التصوير تكتسي عند الكثيرين أهمية قصوى، بالتالي صارت بديلاً للحوار المفترض بين الكاتب والقارئ أثناء التلاقي، لذلك يرجو المفكر المغربي من الكاتب وقارئه على السواء تجاوز “وهم التواصل عن طريق يدين تمسكان الكتاب ذاته من خارج” والسعي إلى “رباط حقيقي يدخلهما معاً إلى أغوار الكتاب”. تمجيد الصمت وإدانة العنف يعيد بنعبد العالي طرح السؤال المرتبط بالعلاقة بين الفلسفة والفن، على الأرجح يرصد نظرة الفلسفة إلى الفن، وهي نظرة ظلت لزمن طويل متسمة بالتعالي، ذلك أن أسلاف الفلسفة كانوا ينظرون إلى الفن باعتباره ليس مجالاً للحقيقة، وإنما للذة فحسب. يقف المفكر المغربي أيضاً عند الصراع القديم والمتجدد بين الخطاب الذي يحمل المعنى والدلالة، والخطاب الذي يستمد سلطته من بنائه وشكله اللغوي، ومدى قدرة كل منهما على التأثير في المتلقي، ثم يمجّد “الصمت الخلّاق” الذي يحتاجه إنسان اليوم بديلاً عن “الأجوبة الجاهزة والأفكار المنقولة والشعارات المرددة التي تعمل على غرسها في عقولنا وأفواهنا قوى القمع”. يدين بنعبد العالي ما يشهده العالم اليوم من عنف متسائلاً عما إذا كان قتل الأطفال من على الأرض “حرباً قذرة” بينما قتلهم من أعالي السماء يدخل في إطار “الحروب النظيفة”، كما يروج لذلك الكثير من المحللين الغربيين، إنه ينتقد موقفهم في تصنيف الحروب. يقول في هذا الصدد “وفي رأيهم تحديد طبيعة الحروب لا ينبغي أن يتم بمعرفة نتائجها وما يتمخض عنها، من قتل للأبرياء وتشريد للأسر وتدمير للعمران، وإنما بالوسائل التي توظفها، وأساساً بطبيعة العلاقة بين الجندي وأهدافه، هذا ما يحدد في نظرهم الفرق بين الحرب الطاهرة ونظيرتها القذرة”. يجنح المفكر المغربي إلى الشِّعر وهو يقارن بين صورة الجندي الذي يقتل وهو على الأرض وصورة الجندي الذي يمارس قتلاً أفظع وهو أمام شاشة إلكترونية في طائرة بعيدة عن الأرض، و”حتى سماؤه التي يُنزل من فوقها وابل قذائفه ليست هي السماء التي نتوجه نحوها نحن، سماء الإله الغفور الرحيم”. تحذير من التفاهة يطرح بنعبد العالي سؤالاً إشكالياً “هل الحقيقة بعدد الذين يؤمنون بها؟”، ويستشهد في هذا المضمار بفاجعة تفجير مستشفى المعمداني في غزة، لقد انشغل الصحافيون والمحللون وما يسمى “الرأي العام” بالسؤال المتعلق بمن كان وراء هذه الفاجعة، وصرفوا النظر عن الفاجعة نفسها، بحيث لم يعد يعرف المتلقي عدد الضحايا ومصير المصابين والمرضى والنازحين، وانقسم الناس إلى فريقين وفق اختلافهما بخصوص الجهة التي كانت وراء هذه الكارثة، وصار المعيار في معرفة الحقيقة هو معرفة عدد الذين يؤمنون بها. إن الوسائط الجديدة هي التي “تجعلنا نخلط، بكل سهولة، بين المعلومة والمعرفة، فنعتبر أن ما تتناقله الوسائط الجديدة من معلومات هو معارف، بل معارف حقيقية”. في شتاته يقف عبد السلام بنعبد العالي عند تيمة العمل ومفهوم الثروة وثقافة الاختلاف والكتابة بين الذاكرة والنسيان وإعادة الترجمة وثنائية اليمين واليسار في الحقل السياسي ومفهوم الزمن الجميل، كما يعرج على مواضيع لا تخلو من خفة وطرافة مثل علاقة الفلاسفة بالتغذية وعطلة المثقفين وموضة النحافة ودلالات قصات الشَّعر وبروتوكولات الهيبة عند رؤساء الدول. غير أنه وهو يتناول هذه المواضيع المتفرقة يجعلنا نتذكر على الدوام بأن ثمة عنصراً ناظماً يجمعها ويسبكها وهو نظرة الفيلسوف والمفكر، وهي نظرة آهلة بالحكمة ومحفوفة على الدوام بالأسئلة التي تنبهنا إلى القيم الإنسانية وتحذرنا من الانجراف في أنهار التفاهة والاجترار. المزيد عن: عبد السلام بنعبد العاليالمغربكتاب شتاتفرنساالذكاء الاصطناعي 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post تسليم سلاح فلسطيني بلبنان “ممكن” لكن “عين الحلوة” معضلة next post عندما أحرق النازيون كتاب فرانتز بواس لنفيه التمييز العرقي You may also like مارك توين في مرآة تشيرنو… الوجه الآخر للكاتب... 1 يونيو، 2025 “لعنة لبنان”: كتاب ينكأ الجرح القديم الذي لم... 1 يونيو، 2025 المغرب يودع نعيمة بوحمالة “سيدة الدراما القوية” 1 يونيو، 2025 لفظوه للحب واستعادوه للحرب… الإيطاليون وفيردي 1 يونيو، 2025 وداعا نغوغي وا ثيونغو: لن تنساك أفريقيا 1 يونيو، 2025 إيمانويل مونييه… فيلسوف الأزمنة المضطربة 31 مايو، 2025 العرض المغربي “حياة وحلم” يستعير تقنيات السرد الروائي 31 مايو، 2025 عندما أحرق النازيون كتاب فرانتز بواس لنفيه التمييز... 31 مايو، 2025 ندى حطيط تكتب عن: «الغريبة» ناهد راشلين… رائدة... 31 مايو، 2025 كيف تقوم الصورة بإعادة خلق المكان؟ 30 مايو، 2025