بأقلامهمعربي عبد الرَّحمن بسيسو ; قَبْوٌ وَقُبَّة (10) by admin 27 أكتوبر، 2019 written by admin 27 أكتوبر، 2019 119 “يَقْبَعُ الْعَربُ فِي دَيَامِيْس أَقْبِيَة مُعْتِمَة بِلَا قَرارْ ، وَعَلى مُثَقَّفِيهِم الْحَقِيقِيِّينَ ، الْمنتْتَمِينَ الأَوْفِيَاءْ، وَاجِبُ إخْرَاجِهِم مِنْها بِجَعْلِهَا قِبَابَاً وَضَّاءةً ، وَأَسْرَاجَاً مُنِيْرَةً” قَبْو وَقبَّة (10) حينَ يَسُودُ الْجَهْلُ “قَالَ ابْنُ رُشْد:”لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْطِيَنَا الِلَّهُ عُقُولاً ثُمَّ يُعْطِيَنَا شَرَائِعَ مُخَالِفَةً لَهَا”، ونُضيفُ، تَوضيحَاً لِقَولِهِ وَاسْتِنَباطَاً مِنهُ، أَوْ يَفْرِضَ عَليْنَا أَحْكَامَاً وإِلْزَامَاتٍ، لَا تِتِأسَّسُ عَلَى شَيءٍ سِوَى إِطْفَاءِ أَنْوارِ مَنْطِقِ هّذهِ الْعُقُولِ، وَسَلْبِ حُرِّيَّتِهَا، وكَبْحِ فَاعِلِيَّتِهَا، وَإِخْمَادِ جَذَوَاتِ اشْتِعَالِهَا التَّدَّبُّريِّ، التَّأمُّلِيِّ، التَّبَصُّرِيِّ، الْاسْتِقْرَائِيِّ، الْاسْتِنْبَاطِيِّ، الْحَدْسِيِّ، الْإِدْرَاكيِّ، الْمَعْرِفِيِّ الْوَقَادْ!” *** تُؤثرُ عَنْ فَيْلَسُوفِ الْأَنْوَارِ، الْعَرَبِيّ الْمُسْلِمِ، “ابْنُ رُشُد” (1126- 1198 مِيَلادِي)، وَعَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمُفَكِّرِينَ والْفَلاسِفَةِ وَالْعُلَمَاءِ أَصْحَابِ الرُّؤَى وَالْآراءِ، وصُنَّاعِ الْوعيِّ الإنْسَانيِّ الحقِّ؛ أُولَئِكَ الَّذينَ أَعْلُوا مِنْ شَأْنِ عُقُولِهِمْ فَأَوْقَدُوا جَذَوَاتِها وَأَعْمَلُوهَا، تُؤْثَرُ عَنِ “ابْنِ رُشْدٍ”، وعَنْهُم، مَقُولَاتٌ وَخُلاصَاتٌ فِكْرِيَّةٌ وَفَلْسَفِيَّةٌ وَعِلْمِيَّةٌ، نَحْنُ أَحْوجُ مَا نَكُونُ إِلَى التَّأَمُّلِ فِيْهَا لِإِدْرَاكِ مُنْطَويَاتِهَا الْمَفْهُومِيَّةِ الْعَمِيْقَةِ، تِلْكَ الْمُؤَسَّسَةِ عَلَى إِعْمَالٍ لِلْعَقْلِ عَلى نَحْوٍ لَا يَكُفُّ مَعَهُ هَذَا الْعَقْلُ المُفَكِّرُ، الْوَقَّادُ، عَنْ تَأَمُّلِ نَفْسِهِ، وَمُرَاجَعَةِ مُدْرَكَاتِهِ، طِيْلَةَ الْوَقْتِ، لِلتَّأَكُّدِ، بِاسْتِمْرَارٍ، مِنْ مُطَابَقَةِ هَذِهِ الْمُدْرَكَاتِ مَبَادِئَ الْعَقْلِ الْإِنْسَانيِّ، وَمِنْ تَسَاوُقِهَا مَعْ مَعَايير فِطْرَتِهِ الْجَوْهَرِيَّةِ، وَذلِكَ عَلَى نَحْوٍ يُكْسِبُها الْجَدَارة الْعَقْلِيَّة، الْمَنْطِقِيَةَ، وَالْعَمَلِيَّةَ، وَيَرْفُدُهَا بالنَّجَاعَةَ الْوَظِيْفِيَّة، وَيُعَزِّزُ دَلَالَاتِهَا الْحَضَارِيَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْوُجُوديَّة الَّتِي تَتَضَافرُ لِتُؤَهِّلَ الْكَائنَ الْبَشَرِيّ لِبَدْءِ السَّعْيِّ لِأَنْ يَكُونَ إِنْسَانَاً هُوَ “الْإِنْسَانُ الإنْسَانُ”، وَلِتُحَفِّزَهُ عَلَى الشُّروعِ فِي امْتِلاكِ الِوَعيِّ الْخَلَّاقِ، وَمُتَابَعَةِ بِنَاءِ الذَّاتِ، وَغَذِّ الْخَطْوِّ، بِثَقَةٍ مَعْرِفِيَّةٍ، صَوبَ مَعْرفِةِ مَاهِيَّة هَذِهِ الذَّاتِ، وإدْرَاكِ لُبَابَ جَوهَرِهَا، وتَجْلِيةِ مُكَوِّناتِ هُوِيِّتِهَا الصَّائِرةِ الْمُتَحَوِّلةِ، فِي شَتَّى أَحْيَازِ الْعَيشِ الْمُجْتَمعيِّ، وفِي تَشَكُّلاتِ الْعَلاقَاتِ الْمَفْتُوحَةِ مَعِ الْآخَرِ مِنْ ظَوَاهِرَ طَبِيعِيَّةٍ، وَأَحْيَاءَ، وَكَائِنَاتٍ بَشَرِيَّةٍ، وَإنْسَانيَّةٍ، وَمَوْجُودَاتٍ، وَأَشْياءْ، تَمَامَاَ كَمَا فِي تَمَوُّجِ أَثِيرِ الْقَوْلِ، وَفِي مَرَايَا الْفِعْلِ، وَفِي أَنْمَاطِ التَّعَامُلِ، وَفِي مَقَاصِدِ التَّصَرُّفِ، وَغَايَاتِ السُّلُوكْ. وَلَعَلَّ واحدةً مِنْ أَبْرَزِ هَاتِهِ الْمَقُولَاتِ، وَالْخُلاصَاتِ الْفِكْرِيَّة، الَّتِي يُمْكِنُ لِاسْتِرجَاعِهَا في سيَاقِ الكْلامِ عَلَى “الْجَهلِ” والسَّعْيِّ لتَبَيُّنِ مَعَانِيهِ، وَأَشْكَالِ تَجَلِّيه، وَقَنَواتِ تَرْوِيجيِهِ، وَمَقَاصِدَ مُرَوِّجِيه، وَعَقَابِيلَ إِمْعَانهِ في الوُجُودِ، أَنْ يُلْقي عَلَى الْوَاقِع الْعَرَبِيّ الرَّاهنِ ضَوْءاً يُمَكِّنُنَا مِنَ النَّفَاذ إِلَى مَا يُفسِّر إيغَالَ الأَعَمِّ الأغْلَبِ مِنَ الْكائناتِ الْبَشَرِيَّة الْقَابِعَةِ في أقبيته ودَيَامِيْسهِ، فِي حَالٍ مِنَ الْانْغِلاقٍ وَالتَّكَلُّسٍ وَالْجَهْلٍ الَّتي لَا يُنْتجُ تَضَافُرُهَا، مَعَاً، إِلَّا العَمَاءَ، وَالْعَتَمَ، وتَعْديمَ مُمْكِناتِ الْوُجودِ الإنْسَانيِّ الحَقِّ. ومَا هَذِه الْمَقُولَةُ – الْخُلَاصَةُ إِلَّا تِلْكَ الَّتِي تَتَضَمَّنُ التَّحْذِيرَ مِنَ الْخَطَرِ الْفَادحِ الَّذِي تَبُثُّهُ مُمْكِنَاتُ الأَخْذِ بِفَحْوَاهَا: “حِينَ يَسُودُ الْجَهْلُ، غَلِّفْ كُلَّ شَيءٍ بِالدِّينِ، وَسَيُصَدِّقُكَ النَّاسُ، ويَتْبَعُونَكَ، حَتَّى لَوْ كُنْتَ شَيْطَاناً”. ورُبَّمَا لَا نَكونُ فِي حَاجَةٍ، فِي هَذَا السِّيَاقِ الْمجَرَّبِ وَالْمدْرَكَةِ مَحَاذِيرُهُ وَأَخْطَارُهُ، إِلَى إجْرَاء اسْتقْصَاءٍ يُطِيلُ آمَادَ الرِّطَانَةِ بِشَأْنِ تَشَابُكِ هَذِه الْخُلَاصَةِ مَعْ خُلاصَاتٍ أُخْرى مِنْ قبيلَ أَنَّ “التِّجارةَ في الأَدْيَانِ هي التِّجارةُ الرَّائِجةُ، والرَّابِحَةُ، فِي المُجْتَمعاتِ الَّتي فِيْهَا يَنْتَشرُ الْجَهْلُ“، وأَنَّ “الْجَهْلَ فِي الْوَطنِ غُرْبَةٌ“، وَأَنَّ “العَدوَّ الأكْبَرَ للإسْلَام”، وَلِلإنْسَانِ، إنِّمَا هُوَ “جَاهِلٌ يُكَفِّرُ النَّاسَ”! أَي “الْعَدُوَ” الَّذي مَا كَانَ لَهُ أَنْ يُوْلّدَ إِلَّا في أرحَامِ أَقْبيةِ الْجَهلِ وَدَياميسه السَّوداءِ، وَالَّذِي ما كانَ لَهُ أَنْ يُوجّدَ، وَأَنْ يُمْعِنَ في الْوجُودِ، لَوْلَا تَغْييبِ الْعَقْلِ، بَلْ وتَعْديمِ وُجُودِهِ أَصْلاً، وَلَولا الإمْعَانِ فِي التَّخَلِّي، مِنْ قِبَلِ الْجُهَلاءِ بِإِطْلَاقٍ، وَذَلِكَ تَحْتَ سَطْوةِ الْجَهلِ وَإكْرَاهَاتِ صُنَّاعِهِ وَمُروِّجِيهِ مِنْ الْجَشِعِينَ بُناةَ هَيَاكِلِ اللَّاهُوتِ، وَرُعاةِ سُلُطَاتِ الاسْتِغْلالِ وَالْاسْتِبْدَادِ والتَّوحُّشِ، وَالْجُبَاةِ الْمَأْجُورِينَ، وَالْمتَاجِرِينَ بِالدِّينِ الْمُؤَسْطَرِ والمُقَنَّعِ وَالْمُسَيَّسِ، وَبِأَرْوَاحِ مُعْتَنِقِيهِ الْمَسْكُونِينِ بِالْجَهْلِ وَزِيْفِ الْوَعِيِّ، تَخَلِّياً مُطْبِقَاً وَتَامَّاً عَنْ تَفْعِيلِ أَيٍّ مِنْ مَلَكَاتِ هَذَا الْعَقْلِ، وَعَنْ تّذَكُّرِ أَيِّ حَقِيقَةٍ مِنَ الْحَقَائِقِ الْعَقْلِيَّة الْمَنْطِقِيَّة الرَّاسِخَةِ الَّتي تَقَولُ، ضَمنَ ما تَقولُ: إِنَّ إِعْمَالَ الْعَقلِ، وَتَحْصِيلَ الْعِلْمِ، وَالتَّوافُرَ عَلى الْمَعْرِفَةِ “عِبَادةٌ للِخَالقِ الْعَظَيمِ”، وَإِيْجَادٌ لِلْإنْسَانِ الْحَقِّ، وَإِنَّ “البَحْثَ عَنِ الْحَقِيقَةِ هُوَ أَشْرَفُ الْمِهَنْ”، وَإِنَّ “الْحَسَنَ هُوَ مَا حَسَّنَهُ الْعَقلُ فِيمَا القَبَيحُ هُوَ مَا قَدْ قَبَّحَهُ”، وَإِنَّهُ “لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْطِيَنَا الِلَّهُ عُقُولاً ثُمَّ يُعْطِيَنَا شَرَائِعَ مُخَالِفَةً لَهَا”، أَوْ يَفْرِضَ عَليْنَا أَحْكَامَاً وإِلْزَامَاتٍ، لَا تِتِأسَّسُ عَلَى شَيءٍ سِوى إِطْفَاءِ أَنْوارِ مَنْطِقِ هّذهِ الْعُقُولِ، وَسَلْبِ حُرِّيَّتِهَا، وَإِخْمَادِ جَذَوَاتِ اشْتِعَالِهَا التَّدَّبُّريِّ، التَّأمُّلِيِّ، التَّبَصُّرِيِّ، الاسْتقرَائيِّ، الاستنباطِيِّ، الْحَدْسِيِّ، الْإِدْرَاكيِّ، الْمَعْرِفِيِّ الْوَقَادْ! وَمِن الْحَقِّ أنَّ مُؤَدَّى هَذِهِ المَقُولاتِ الْمَعْرِفِيَّةِ، والْخُلاصاتِ الْفِكْرِيَّةِ، الرُّشْدِيَّة، إنَّمَا يَجِدُ بُذورَهُ، وَامتداداتِ جُذُورِهِ، فِي أَنْسَاقِ الْفِكْرِ الإِنْسَانِيِّ: الدِّيني، وَالْاجِتِمَاعِيِّ، والسِّيَاسِيِّ، وَالْفِقْهِيِّ، وَالْفَلْسَفِيِّ، وَغَيْرِهَا مِنَ الأَنْسَاقِ الْمَعْرِفِيَّة الْمُؤَسَّسَةِ عَلَى قِرَاءَاتٍ عَقْلِيَّة حَصِيفَةٍ، عَمِيْقَةٍ وَشَامِلَةٍ، لِلْوَاقِعِ الْاجْتَمَاعِيِّ الْقَائِمِ، وَلِمَسَارات العَلَاقَةِ الْمُتَشَعِّبَةِ، والمتطوِّرةِ، مَا بَيْنَ الْإِنْسَان وَالْحَيَاةِ، وَذَلِكَ فِي ضَوْءِ مَنْهَجٍ عَقْلِيِّ مُتَفَتِّحٍ يُفْتَحُ الدِّين عَلَى الْحَيَاة الْإِنْسَانِيَّة، وَيُعِيدُ تَأْوِيلَ أَحْكَامِهِ بِمَا يَسْتَجِيبُ لِمُقْتَضَيَاتِ حَيَويَّةِ هَذِهِ الْحَيَاةِ، وتَسَارُعِ صَيْرورَتِهَا، وبِمَا لَا يُفَارِقُ جَوْهَرَهُ الْعَمِيقَ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا تَنْزِيْلَاً عَمَلِيَّاً لِمَقَاصِدِهِ الإِنْسَانيَّة النَّبِيْلَةِ السَّامِيَةْ. قَدْ كَانَ لهَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْمُسْتَنَيرةِ، الْفَاهِمَةِ، أَنْ تَنبثقَ عَنْ عُقُولٍ مُتَفَتِّحَةٍ وَوَقَّادةٍ، وأَنْ تَنْموَ وَتَتَواصلَ: حُضُورَاً وَفَاعِلِيَّةً، فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الْحَيَّةِ، وَفِي شَتَّى مَدَارَاتِ الأنْشِطَةِ الإنْسَانيَّةِ وَحَيَواتِ النَّاسِ، وَإنْ بِدَرَجَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ، وذَلِكَ عَلَى امْتِدَادِ أَحْقَابِ نُهُوضِ الْحَضَارَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمُمْتَدَّةِ عُصُورُها مِنْ لَحْظَة ظُهُورِ الْإِسْلَامِ، وَانْتَشَارِهِ، وَتَرسُّخِ وُجُودِهِ فيِ وعْيِّ النَّاسِ، وَتَحَوُّلِهِ، كَمَا غَيْرهِ من الأدْيَانِ السَّمَاوِيَّةِ والرُّؤي الدِّينيَّة، إِلَى مُكَوِّنٍ رَئِيسٍ مِنْ مُكَوِّنَات هَذِه الثَّقَافَة الْعَربِيَّةِ ذَاتِ التَّنَوُّعِ التَكْوِينيِّ الْخَلَّاقِ، والْمَوسُومَةِ بإِنْسَانِيَّةِ الْمُنْطَلَقِ، والْجَوهَرِ، والْمُحْتَوَى، وَالْأبْعَادِ، حَتَّى اللَّحْظَةِ التَّارِيخيَّةِ الْعَقِيمَةِ الَّتي أَنجَبَتْ تَوقُّفَ نُمُوِّها، وانْكسَارِ مُنحنى تَطَوُّرِها، وَبَدْءِ تَكلُّسِهَا، وَهيَ اللَّحظَةُ الَّتي تَزَامَنتْ، فِيْما أَحْسَبُ، مَعْ “سُقُوطِ بَغْدَادٍ” الَّتي كانتْ، قُبَيلَ أَحْقَابٍ قَلِيلةٍ مِنْ سُقُوطِهَا في يَدِ الْمَغَول (656ه – 1258مـ) وَقَبْلُ وُقُوعِهَا تَحْتَ وَطْآتِ الانْقِسَامَاتِ الدِّينيَّة، وَالتَّشَظِّياتِ الْمَذْهَبِيَّةِ، وَالنَّعَرَاتِ الطَّائِفِيَّةِ، وَالنُّزُوعَاتِ الْعِرْقِيَّةِ الْمَقِيْتَةِ، والآيدْيُولوجِيَّاتِ الْجَاهِلَةِ الصَّمَاء، الَّتي سَبَّبَتْ، مُجْتَمِعَةً، هَذَا السُّقُوطَ المُرِيْعَ، “عَاصِمَةً لِلْعَالَمِ”، وَ”مَنَارةً لِلْكَونِ”، ومَرْكَزَاً بُؤَرِيَّاً لِلثَّقافَةِ الإِنْسَانيَّةِ الْجَامِعَةِ بِأَسْرِها! فَمِنْ زَمَنٍ لَا يَبْعُدُ كَثِيراً عَنْ لَحْظَاتِ بَدْءِ الرِّسالةِ الْمحَمَّدِيَّة وُشُرُوعِ إرْهَاصَاتهِا الأُولى في الانبثاقِ، وَفِي سِيَاقٍ مَعْرِفيٍّ يَتَواصَلُ مَعْ قِرَاءَاتٍ جَنِينِيَّةٍ وتبَصُّرَاتٍ عَقْلِيَّةٍ نَمَتْ عَلَى مَدَى قَرْنَينِ مِنَ الزَّمنِ الْعُروبيِّ الإسْلَامِيِّ، كَانَ الْعَالَمُ الْفَيْلَسُوفُ “يَعْقُوب بِنْ إِسْحَاقِ الْكِنْدِي” (805 – 873 ميلادية)، قَدْ لَاحَظَ، وبَيَّنَ، وَقَالَ، وَكَتبَ، مَا مَفَادهُ أَنَّ بَعْضَاً مِنْ “رِجَالِ الدِّينِ”، وَلَعَلَّهَمْ مَا كَانُوا إلَّا قِلَّةً فِي عَصْرِهِ، قَدْ شَرَعُوا يُتَاجِرُونَ بِالدِّينِ الإسْلَاميِّ، فَيُسَلِّعُونَهُ وَيَبِيْعُونَهُ لِجُهَلَاءِ النَّاسِ الْقابِعينَ تَحْتَ وَطْآتِ الْعَوزِ والْفَقرِ والْفَاقَةِ وبُؤسِ الْحال، وَرَأَى أَنَّهُمْ إِذُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِتَحْقِيْقِ امْتِيَازَاتٍ وَمَكَاسِبَ سُلْطَوِيَّةٍ دُنْيَوِيَّةٍ تَسْتَوْجِبُهَا الْأَنَانِيَّةُ، وَيُحَفِّزُهَا الْجَشَعُ، ويُسَوِّغُهَا الرُّخْصُ، إِنَّمَا يَتَخَلّونَ عَنْ أَنْ يَكُونُوا مِلْكَاً لِلدِّينِ، فَيُصْبِحُونَ، إِذْ يَمْتَلِكُونَهُ، ويُسَلِّعُونَهُ، لِيُتَاجِرُوا بِهِ، “عُدَمَاءَ دِينٍ” لَا “عُلَمَاءَ دينٍ”! وَفِي السِّيَاق نَفْسِهِ، وبَعدَ نَحْوِ قَرْنَينِ وَنَصْفِ قَرْنٍ مِن الزَّمانِ، كَانَ الْفَقِيهُ الْفَيْلَسُوفُ الْمُتَصَوِّفُ “أَبُو حَامِدٍ الغَزَالِيِّ” (1058-1111 ميلادية) قَدْ أَشارَ إِلَى أَنَّ “رِجَالَ الدِّينِ” وَ”عُلَمَاءَ الدِّينِ”، كَانُوا، فِي الْمَاضِي الْقَرِيبِ، مَطْلُوبِينَ، وَلَكِنَّهُمْ أَصْبَحُوا، فِي الحَاضِر الْقَائِمِ فِي زَمانِه، طَالِبَينَ، أَيْ أَنَّهمْ صَاروا يَلْهَثُونَ وَرَاءَ صَاحِبِ السُّلْطَانِ والصَّوْلَجَانِ، وَالسُّلْطَةِ وَالْمَالِ وَالْحُكْمِ، لِيَعْرِصُوا عَلَيهِ صَوغِ دِينْ يُروقُ لَهُ إذْ يَحْمِي مَصَالحَهُ، ويُنَمِّي مَكَاسِبَهُ، ويُوبِّدُ هيَمَنَةَ اسْتْبْدَادِهِ، وَبَقَاءَ تَحَكُّمَهُ فِي مَقَادِيرِ الْحَيَاةِ ومَصَائرِ النَّاسِ، فَيَنالُوا، بذَلِكَ، بَعضَ رِضَاهُ، ويَحَصِّلوا عَلَى فُتَاتِ فَضْلَةٍ مِنْ فَضَلاتِ قُوَّةِ سُلْطَتِهِ الْحَاكِمَةِ وَجَبروتِ قُوَّتِهِ، ليَكونَ بِوسْعِهمْ، وقَدْ صَاروا أَقْويَاءَ بالتَّبَعِيَّةِ النَّاجِمَة عَنْ تَأْجِيرِ أنْفُسِهِم مُقَابِلَ فُتَاتِ تِلكَ الْفَضْلَة، أَنْ يَفْتَحَوا شَهِيَّتَهم عَلى وُسْعِهَا لِشُربِ كَأْسِهِ، وكَسْبِ هِبَاتِهِ، وَتَلَقِّي خِلَعِهِ، وَازْدرادِ طَعَامِهِ، وَالصَّلاةِ عَلَيهِ، والتَّسْبِيحِ بِحَمْدهِ، وَحَمْدِ عَطَايَاهُ! وَيَبْدُو أنَّ هَذِهِ الْخُلَاصَةَ، الَّتِي تَوالَى حُضُورُهَا وَتَعَزَّزَ إِدْرَاكُهَا مَعْ تَوَالي القُرُونِ، مِنْ زَمنِ الْكِنْدِي إِلَى زَمَنِ الْفَارَابِي، وَمِن زَمَنِ الْمُعْتَزَلَة (مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَفَلَاسِفَةِ إِعْمَالِ الْعَقْلِ) إِلَى زَمَنِ الْغَزَالِيِّ، وَمِن زَمَنِهِ إِلَى أَزْمِنَةِ غَيْرهِ مِنْ مُعْمِلِيْ الْعَقْلَ وَمُفَعِّلِي مَلَكَةَ الشَّكِّ الْبَنَّاءِ، قَدْ عَمُقَ تَأْصِيلُهَا، ورَسُخَ، فِي سِيَاقَاتٍ تَتَّسِمُ بتَنَامِي الْوَعْيِّ النَّقْدِيِّ الَّذِي تَابَعَ فَيْلَسُوفُ الْعَقْلِ المُتَفَتِّح الْمُسْتَنِيرِ “ابْن رُشْد” تَطْوِيرَهُ، وَتَرْسِيخَ حُضُورهِ فِي صُلْبِ الثَّقَافَةِ الْعَرَبِيَّةِ، الإِسْلَامِيَّةِ، الإِنْسَانيَّةِ: مُنْطَلَقاً، وَجَوهَراً، وَمَقْصَداً، عَبْرَ مَا قَدَّمَهُ مِنْ رُؤَىً، وتَبَصُّرَاتٍ، وَخُلَاصَاتٍ جَوهَرِيَّةٍ: فِقْهِيَّةٍ، وَفِكْرِيَّةٍ، وَفَلْسَفِيَّةٍ، ذَاتِ صَلَةٍ عَمِيْقَةٍ بِفَهْمِ الدِّينِ، وَبتَأْوِيلِ أَحْكَامِهِ، وَبِإِعَادَةِ تَأْوِيلِهَا بِمَا يَتَمَاشَى مَعْ صَيْرُورَة الْأَزْمِنَةِ ويَسْتَجِيبُ لِتَنَامِي حَاجَاتِ الْحَيَاةِ وَأَشْوَاقَ الإنْسَانيينَ مِنَ النَّاسِ، ولا يُغْلِقُ أُفُقَاً مِنْ آفَاقِ سَعْيِهِمَا اللَّاهِبِ لِإِدْرَاكِ كَمَالٍ وُجُوديٍّ مُمْكِنٍ! وَلَعَلَّ للنَّقْد الصَّارمِ، واللَّاذِعِ، الَّذي وجَّهه “ابْنُ رُشْدٍ” إِلَى “رِجَالِ الدِّينِ” وَمَنْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمُ “عُلمَاءُ دِينٍ”، أَلَّا يَتَكَثَّفَ فِي دَلَالَاتِ الْمَقُوْلَةِ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا أَعْلاهُ، فَحَسْبُ، وَإِنَّمَا هُوَ يَتْضحُ، وَيَزْدَادُ جَلَاءً، عَبرَ اقْتِرانِ هَذِهِ الْمَقُولةِ ومُسَبِّبَاتِ انْبِثَاقِهَا، وتَوابِعِهَا، بِالْوَاقِعِ الْفِعْلِيِّ الَّذِي كَانَ “ابْنُ رُشدٍ” قَدْ عَايَنَهُ، وعَانَى وَطْآتِهِ، وَضَرَاواتِ عَقَابِيلِهِا، فِي زَمَانِهِ، فَجَعَلَهُ يُلَاحُظُ، ويَكْتُبُ، ويَصَوغُ مَقْولَاتٍ وخُلَاصَاتٍ يَعْقِلُهَا الْعَقْلُ، لِيُقَارِعَ بِهَا وطْآتِ واقِعهِ الْقَائِمِ، وَلِيَتْركَ لِلأَجْيَالِ اللَّاحِقَة أَنْ تَتَأمَّلَ فِي مَا كَانَ قَدْ لاحَظَهُ فِي سُلُوكِ “رِجَالِ الدِّينِ” وَتَصَرُّفِهِم الْحَيَاتِيِّ الْعَمَلِيِّ، مِنْ تَنَاقُضٍ صَارِخٍ بَيْنَ مَا يَقُولُونَ وَمَا يَفْعَلُونَ؛ بينَ مَا يُسَلِّعُونَهُ وَيَبِيعُونَهُ لِلنَّاسِ ومَا يَحتفِظُونَ بِهِ لأَنْفُسِهِمْ الْمَسْكُونَةِ بالْقُبْحِ الْمُحَفَّزِ بالمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ الأَنَانِيَّةِ الْجَشِعَةِ؛ فإذا كَانَ الدِّينُ يحثُّ عَلَى الْالْتِزَامِ بِالْأَخْلاقِ الْحَمِيدَةِ، وَالْإِعْلاءِ مِنْ شَأْنِ الْفَضَائِلِ الإِنْسَانِيَّة، وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، كَالْمَحَبَّةِ والْحَيَاءِ وَالإيْثَارِ والصِّدقِ والْكَرَمِ وَقَولِ الحَقِّ وَالتَّرَاحُمِ والْبَسالَةِ والْقَنَاعَةِ وَالْعَمَلِ الْمُنْتِجِ، سَواءٌ فِي أعْمَاقِ النُّفُوسِ أَوْ فِي السُّلُوكِ اليَومِيِّ، الْفَرْديِّ وَالاجْتِمَاعيِّ، فَإِنَّ بَعْضَ “رِجَالِ الدِّين”، مِنْ “عُدَمَاءِ الدِّينِ”، لَا يُلْزِمُونَ أَنْفُسَهُم بِشَيءٍ مِنْ ذَلِكَ، ولا يَفْعَلُونَ شَيْئَاً مِنْهُ، بَلْ إِنَّهُمْ لَيُمْعِنُونَ فِي مُمَارَسَةِ نَقِائِضِهِ، وَذَلِكَ عَلَى نَحْوٍ لَا يُعَتِّمُ الدِّينَ الَّذِي أَوَّلُوهُ، فَزَيَّفُو جَوهَرَهُ ونَاقَضُوا مَقَاصِدَهُ، وَأَعَادُوا صَوْغَهُ ليُنَاسِبَ مَصَالِحِهِمْ، فَحَسْبُ، وَإِنَّمَا يُسَوِّدُ وَجْهَ الْحَيَاةِ فِي وُجُوهِ النَّاسِ، وَيُجَافِي حَقِيقَةَ الْإِنْسَانِ، وَلَا يُحَفِّزُ سَعْيَهُ اللَّاهبَ إِلَى مُتَابَعَةِ تَجْلِيَةِ وُجُودِهِ الْحَقِّ فِي الْوُجُودِ عبْرَ مُتَابَعَةِ إِدْرَاكِ مُكَوِّنَاتِ جَوْهَرِهِ الْإنْسَانِيِّ الْأَعْمَقِ، وَالْأَصْفَى، وَالْأَبْعَدِ غَوْراً، وَالْأَعْلَى سُمُوَّاً، وَجَمَالَاً، وَاسْتِنَارةً، وكَمَالَا! 1 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post Céline Dion dévoile deux photos inédites de ses jumeaux (qui ont bien grandi) next post لبنان : يد واحدة من صور جنوباً إلى طرابلس شمالاً، You may also like ساطع نورالدين يكتب عن: بيروت- دمشق: متى تُقرع... 5 يناير، 2025 حازم الأمين يكتب عن: حزب الله يتظاهر ضد... 5 يناير، 2025 حازم صاغية يكتب عن: على هامش سؤال «النظام»... 5 يناير، 2025 عبد الرحمن الراشد يكتب عن: بشار في دور... 4 يناير، 2025 رضوان السيد يكتب عن: سوريا الجديدة والمؤشرات المتضاربة 4 يناير، 2025 ساطع نورالدين يكتب عن: رئيسٌ للبنان..بالتوافقِ الأميركيِ الفرنسيِ... 2 يناير، 2025 كاري أي. لي تكتب عن: مفارقة الردع بين... 2 يناير، 2025 أسلحة سوريا الكيماوية لا تزال في مخازنها 2 يناير، 2025 مايكل هوروفيتز يكتب عن: إسرائيل في الشرق الأوسط... 1 يناير، 2025 حسام عيتاني يكتب عن: الناس بعد تغيير الخرائط 1 يناير، 2025 1 comment badge for police 13 أغسطس، 2024 - 4:42 م This post really resonated with me. Keep up the good work. Reply Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.