(I)
آخَرِي وَأَنَا في بُرْهَةِ عَدَمْ
كَذَيْلِ ثَعْلَبٍ ذِئْبِيٍّ طَوِيْلٍ وعَريضٍ، بَرَزَ فَوْقَ أُفِقِ السَّمَاءِ الْبَعِيْدِةِ قَوسُ ضَوءٍ كَامِدِ أَبيْضَ اللَّوْنِ مُصْفَرَّهُ قَلِيْلاً، ومَعْ بُرُوْزِه، غَابَ الْقَمَرُ، وغَابَ حَدُّ الْتِقَاءِ الأَرْضِ بِالسَّمَاءِ، وتَلاشَى أُفُقُ لِقَائِهمَا الْمنْشُودِ مِنْ كِلَيْهِمَا إِذْ تَدَاخَل بَعْضُهُمَا بِبَعْضٍ، وغَابَا؛ فَغْمَرَتِ الْحُلْكَةُ السَّدِيْمِيَّةُ السَّوداءُ الْكَونَ كُلَّهُ، مُحْتَجِزَةً، بِهَذَا الْغَمْرِ، إِشْراقَ شَمْسٍ بَدَا أَنَّهَا تُكَابِدُ مَخَاضَ الإشْرَاقِ، ونَافِيَةً، بِهَذَا الاحْتِجَازِ، إمْكانِيَّةَ بُزُوْغِ فَجْرٍ أَنْبَأَتْ علاماتٌ أنَّهُ كَانَ يَتَهيَّأُ، فِي رَحْمِ الشَّمْسِ الْمُحْتَجَزَةِ، لانْبِثَاقٍ يُنْبِئُ بِطُلُوعِ نَهَارٍ آخَرَ! غَيَّبَتْ حُلْكَةُ السَّدِيمِ الْآفَاقَ والْأَبْعَادَ، مُلْتَهِمَةً، فِي أغُوارِ جَوْفِهَا الْمُعْتِمِ غَائِرِ الْقيْعَانِ، مَا قَدْ بَدا لِمُخَيَّلَتِيَ الطَّلِيْقَةِ أَنَّهُ بَصِيْصُ ضَوءٍ مَسْكُونٍ بِنُورٍ شَمْسٍ يُهَيئُ الْكَونَ لَاسْتِقْبَالِ بزوْغِ فَجْرٍ يَتَهَيَّأُ، بِدَوْرِهِ، لِإطْلَاقِ أَجْنِحَةِ نَهَارِ يَومٍ جَدِيدْ!
***
أَظْلَمَ الْكَونُ الَّذي يَضُمُّنِي والدَّانُوبَ، فتَلاشَيْنَا وشُرْفَتَيْنَا في سَدَيْمِ عَتَمٍ حَالِكِ السَّوَادِ، فَإذا بِالدَّانُوبِ يُغَطِّي شَفَتَيْهِ بِراحَةِ كَفِّه، ويَهِمْسُ فِي أُذُنِي: “إنَّهُ فَحِيْحُ الْعَدمُ”، فَهَمَسْتُ فِي أُذِنِهِ: أَليْسَ جَميْلَاً أَنْ نَكُونَ دائِمَاً مَعَاً، إِنْ فِي مَدَارَاتِ الْوجُودِ الْحيِّ، أَو فِي دَيَامِيْسِ الْمَوتِ، أَو فِي أيِّ بُرْهَةٍ مِنْ بُرَهِ الْعَدمْ؟! أَلَيْسَ جَميْلَاً أَنْ نَكُونَ دَائِمَاً مِنْ أَجْلِ بَعْضِنَا بَعْضَاً، ومَعَاً، وأَنْ نَنْشُدَ إحْيَاءَ الْحَيَاةِ الْحُرَّةِ وتَخْلِيْصَ وُجُودِنَا الْحَيَويِّ الْحَقِّ مِنْ بَرَاثِنِ أَيِّ مَوتٍ عَدَمِيٍّ يَسْتَهِدفُ اجْتِثَاثَنَا مِنْهُ، وتعْدِيْمه؟!

Digital Painting By Nabil el-bkaili
وفِيْمَا كُنْتُ أُهَامِسُهُ، كَانَتْ يَدُهُ الرَّاعِشَةِ تُلَامِسُ، فِي حُلْكَةِ الْمَوتِ الْعَدَمِيِّ، يَدِيْ، فَمَا أَنْ أَتْمَمْتُ قَولِىَ، حَتِّى شَرَعَ يَهْمِسُ، بَصَوتٍ أَشَدَّ خُفُوتَاً مِنْ ذِي قَبْلٍ، فِي أُذُنِي:
آهٍ، نِعَمْ، تِلكَ خُلَاصَةٌ مَا فَتِئَتْ جُذُورُ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ المتَجَلِّيَّةِ عَلَى ضِفَّتيَّ تَمْهِسُ بِهَا فِي أُذُنَيَّ، وَمَا انْفَكَكَتُ عَنْ سَمَاعِ رَنْيْنِهَا فِي ضَمِيْرِ أُمِّنَا الْأَرْضِ الَّتِي أَقْطُنُهَا، وفِي ضَمِيْريَ، ومَا كَفَّ أَثِيْرُ الْوُجُودِ عَنْ حَمْلِهَا إِلَّيَّ، عَلَى مَدَى الأَحْقَابِ والْمَراحِلِ والْعُصُوْرِ والْأَزْمِنَةِ، بِأَيْدِي إِنْسَانِيِّيهِ مِنَ النَّاسِ وبِأَصْوَاتِ كَلِمَاتِهِمْ وأشْوَاقِهِمْ، ومَا انْكَفَأْتُ، لِلَحْظَةٍ، عَنْ مُتابِعَةِ صَبِّهَا في آذَانِ قَاطِني ضِفَّتَيَّ مِنَ الْبَشَرِ الْمُؤَنْسَنينَ، وغَيْرِ الْمُؤَنَّسَنينَ، ولَا سِيَّمَا مِنْهُم أُوْلَئِكَ الْمأْخُوذِينَ بِكَمَالٍ ذَاتِيٍّ أَعْجَزَهُمْ تَوَهُّمُهُ فِي أَنْفُسِهِم عَنْ السَّعْيِ لإدْراكِ إِنْسَانِيَّتِهمْ، وإِكْمَالِ نَقْصِهِمْ، وخَلْقِ ذَوَاتِهِمْ الإِنْسَانيِّةِ الْحقَّة!
***
صَمَتَ الدَّانُوبُ، لِبْرْهَة، فَأَبْصَرْتُه يَجْهَدُ لالتِقَاطِ أَنْفَاسِ حَيَاةٍ وكَلَماتٍ يُقَاوِمِ بِهَا فَحِيْحَ عَدَمٍ يَغْمُرهُ وإيَّايَ، فَشَهَقَ وزَفَرَ، ثُمَّ تَنَهَّدَ وأَرْدَفَ هَامِسَاً بِصَوتٍ مُنْهَكٍ، مَجْروحِ النَّبْرِ، خَفِيضٍ: لِأَسْبَابَ ودَوافِعَ ومُحَفِّزَاتٍ وغَايَاتٍ ومَقَاصِدَ شَتَّى لَيْسَ الْجَشَعُ الغَرائِزِيُّ، والنُّزُوْعُ الْبَشَرِيُّ غُيرِ الْمُؤَنْسَنِ إلى الاسْتئْثَار، والتَّملُّكِ، والاسْتِحْواذِ التَّوحُّشِي السَّرِيْعِ عَلَى كُلِّ شَيءٍ، بِأَقَلِّهَا، لَمْ تَذُهبْ هَذِهِ الثُّلَلِ مِنَ الْبَشَر الْمَوهُومِينِ بِكَمالِ أَنْفُسِهِم، وبِتَميُّزِهِم عَنْ سِواهُم مِنَ النَّاسِ، إلِى السَّعْيِ لإِدْراكِ إنْسَانيَّةٍ وإكْمالِ نَقْصٍ، وإنِّمَا ذَهبَتْ صَوبَ كُلِّ سَعْيٍّ، وَفِعْلٍ، وتَصَرُّفٍ، وسُلُوكٍ، هُوَ عَلى النَّقِيْضِ الْجَذْرِيِّ مِنْ هَذَا، ومِنْ ذَاكْ!

Digital Painting By Nabil el-bkaili
لَمْ تَسْعَ هَاتِهِ الثُّلَلُ إِلَى فَتْحِ كُوَى الإطْلالِ السَّويِّ عَلَى آخَرِيهَا وأَسْوائِهَا مِنَ الْبِشَرِ، ولا سِيَّمَا الإنْسَانِيينَ مِنْهُمْ مِنَ الْقَاطِنينَ ضِفَافِيْ، وضِفَافَ أَقْرَانِي وأَشِقَّائِيَ الْكِبَارَ، وقَرِيْنَاتِيَ وشَقِيْقَاتِيَ الْكَبِيراتِ، مِنَ الأَنْهَارِ، والبُحَيْراتِ، والجَدَاوِلِ، واليَنَابِيْعِ، والْعُيُونِ؛ أُوْلَئِكَ الأَقْدَمِ وُجُوْداً مَنِّي، والْأَعِمَقِ تَجْرُبَةً، والأَغْزَرِ عَطَاءً، حَيْثُ كَانَ لِقَاطِنِيهَا وقَاطِنَاتِهَا مِنْ الْإنْسَانِيينَ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَسْبِقُوا سِوَاهُمْ فِي إِدْرَاكِ مَسَاراتِ الْحَيَاةِ الْإنْسَانِيَّةِ الْحَيَّة، وفِي تَعَرُّفِ تَجَلِّيَاتِ التَّعَيُّنِ الْوُجُودِيِّ الْحَقِّ، والْمُمْكَنِ، وذَلِكَ بالانْخِراطِ الْوَاعي في مَسِيْرَةِ إنْهَاضِ الإنْسَانِ الْوُجُوْدِيِّ الْكَامِنَةِ بِذْرَتُهُ الأُولَى في أَعْمَاقِ ذَوَاتِهِمْ وذَواتِهِنَّ، لِلشُّروعِ، مَنْ ثَمَّ، وبِيَدِ هَذَا الإنْسَانِ الإنْسَانِ، فِي خَوْضِ تَجَاربُ الْحَيَاةِ الإنْسَانِيَّةِ الْوُجُودِيَّةِ الْمفْتُوحَةِ عَلى صَيْرورةٍ لا تَنْتَهي ولا تَتَنَاهى: بِنَاءَ حَضَاراتٍ، وإِعْمَارِ أَرْضِ، وبَلْوَرَةَ مَنْظُومَاتِ قِيَمٍ إنْسَانيَّةٍ وَثَقَافِيَّةٍ نَبِيْلَة وسَامِيَةٍ، وفَتْحَاً حَمِيْداً لِكُلِّ مسَاراتِ الْعلَاقَةِ بِيَن الْأُرُوْضِ والسَّمَاواتِ، عَلَى نَحْوٍ يُرْضِي ضَمِيْرَ الإِنْسَانِ، ويَسْتَجيبُ لأَشْوَاقِهِ، ويُجَلِّي جَوْهَرِ هُوِيَّتِهِ الصَّائِرةِ أَبَداً فِيْمَا هُوَ يُجَلِّي، فِي نَفْسِهِ وفِي شَتَّى أَنْشِطَتِهِ ومَجالاتِ حَيَاتِهِ، جَوْهَرَ وُجُودِ الْوجُودِ الْكامِنِ، مَوَّراً، فِي صُلْبِ أَصْلَابِهِ ورِحَابِ وجْدَانِهِ، فَيُثْرِي، بِثَراءِ تَعيُّنِهِ فِيه، تَعَيُّنَاتِهِ الْجَلِيْلَةِ، فَيُفْرحُ بِسُمُوِّ إِنْسَانِيَّتِهِ الْوجُودِيَّة الْعَارِفَةِ، قَلْبَ عَيْنِ الْوجُودِ الْحَقِّ، ويُرْضِي، باسْتِنَارةِ فِكْرهِ وجَسَارةِ إِقْدَامِهِ عَلَى الْفِعْلِ، عَقْلَهُ، ويُثْلِجُ، بِعَزْمِهِ الْوُجُودِيِّ الْحيَوَيِّ الْخَلَّاقِ، صَدْرَهْ.
***
وفِيْمَا كُنْتُ أُصْغِيَ مَهْمُومَاً، وهَاجِسَاً بِكُلِّ كَلِمةٍ تُلِامِسُ أُذُنِيَ ومُحلِّقَاً عَلى أَجْنِحِةِ مَقَاصِدِهَا، بَدَا لِيَ الدَّانُوبُ مَهْمُومَاً يَهْجِسُ بِمُسْتَقِبَلِ وُجُودهِ، مِثْلِي، فَمَا كَانَ لِكلِمَاتهِ المُتَدَفِّقِةِ، سَيَّالةً ولَاهِبَةً، فِي أُذِنِيَّ، إَلاَّ أنْ تلْتِقي رَدَائِفَهَا وأَضَّدَادَهَا الْمَائِرةَ في كَيَانِي، وإلَّا أَنْ تُوجِبَ عَليَّ إصْغَاءً هُوَ عَينُ الإصْغَاءِ، وتَأمُّلاً هُو عَيْنُ التَّأَمِّلِ. تَنَهَّد الدَّانُوبَ، بِصُعُوبَةٍ أَنْهَكَتْهُ، وأَردفَ هَامِسَاً بِصَوتٍ مَبْحُوحٍ يَتحَشْرَجُ في حَلْقِهِ ويَنْزَلِقُ عَنْ لِسَانِهِ مُرْتَداً إِلَيْهِ، فَيَذْهَبُ إلى الْتِقَاطِ أَثِيْرهِ، مِنْ فَضَاءِ حَلْقِهِ، حَدْسُ أُذُنَاي:
لَمْ يَسْعَ أَفْرادُ هَاتِهِ الثُّلَلِ مِنَ الْبَشَرِ اللَّائِذِينَ بَوَهْمِ قُوَّتِهِمْ، وفِرْيَةِ تَميُّزِهِم، وزَعْمِ كَمَالِ أَنْفُسِهم ونَقْصِ نُفُوسِ آخَرِيهِم، إِلى الانْفِتَاحِ السَّويِّ، وَلَوْ لِمَرَّةٍ، عَلَى دَوَاخِلِ أَنْفُسِهِمْ، وعَلَى تَجَارُبِ آخَرِيْهِمْ وأَغْيَارِهِمْ مِنَ الإنْسَانِيِّينَ الْعَامِرينَ، بِالْفِكْرِ الْخَلَّاقِ، وبالْفِعْلِ الإنْسَانيِّ الْجسَور، الْمُتَفَاعِل الْمُثَابِر، والدَّؤُوبِ الْمُتَضَافِرِ، شَوَاطِئَ آخَرِيْنَ مِنْ آخَرِيَّ الْعَدِيْدِينَ، كالْبِحَارِ وَالْمُحِيْطَاتِ؛ أُولَئكَ الإِنْسَانِيينَ الْعَامِرِينَ الْأرْضَ، والْمُنْخَرِطِينَ دَائِماً، وفِي تَعَالُقٍ حَمِيْمٍ وتَعَايُشٍ ثَرِيٍّ، وتَفْكِيرٍ إنْسَانيٍّ فَرديٍّ وجَمْعِيٍّ مُتَفَاعِلٍ ومَفْتُوحٍ، وتَضَافُرٍ عَمَلِيٍّ خَلَّاقٍ، وتَكافُلٍ نَبِيْلٍ، وأُثْرَةٍ مُتَبَادَلَةٍ، فِي مَسْيْراتِ إِعْمَارِ، وتَحْقيْقِ وُجُودِ، كُلَّ سَاحِلٍ، وهَضْبَةٍ، وجَبَلٍ، وبُقْعَةٍ، وحَيِّزِ مِنْ أحْيَازِ شَتَّى جِهَاتِ أُمِّنَا الأَرْضِ ومَسَاحَاتِهَا الْمَكْنُوزَةِ بِطَمْيِّ الْحَيَاةِ وبُذُوْرِهَا وجُذُوْرِهَا وأمْواَهِها؛ أُولَئِكَ الإنْسَانيِّنَ الْجَاعِلِيْنَ كُلَّ هَاتِهِ الأَحْيَازِ والْمسَاحَاتِ مَجَالَاتِ حَيَاةٍ حَيَوِيَّةٍ لِوُجُودٍ يَزْخَرُ بِمُمْكَنَاتِ إثْرَاء الْحَيَاةِ الْوُجُودِيَّة الْحيَّةِ، والْحَرِيْصِيْنَ، فِي كُلِّ حَيثٍ وحِيْنٍ، عَلَى إِفْعَامِ شَتَّى مَداراتِ الْوجُودِ الْحَقِّ بِكَدِّهِم الإنْسَانِيِّ الْجَمْعِيِّ الْمُثَابِرِ، والْمَفْتُوحِ عَلَى سَعيٍّ مَفْتُوحٍ صَوْبَ إدراكِ كَمَالٍ إنْسَانِيٍّ، حَيَاتِيٍّ وَوُجُودِيٍّ، أَجْمَل وَأَنْبَلَ، وأسْمَى وأعْلَى، وَأَكْمَلْ.
***
وصَلتْ عِبَاراتُ الدَّانُوبِ الأخَيرةَ إلَى أُذُنيَّ مَحْمُولَةً عَلى أثيْيرِ صَوتِهِ، فَادْرَكْتُ أَنَّهُ قَدْ تَجَاوزَ بُرْهَةَ الحّشْرَجَةِ واخْتِنَاقِ الصَّوْتِ. وأَدْركْتُ، إِذْ شَرَعَ يُحدِّقُ بِرضَىً آسِرٍ في عَيْنيَّ، أَنَّهُ قَدْ أَدْركَ أَنَّ كُلَّ مَا قَالَهُ في دَخِيْلَةِ نَفْسِهِ ولَمْ يُمَرِّرهُ حَلْقُهُ الْمُلْتَهِبِ بالحَشْرَجَة إلى لِسَانِهِ، قَدْ وصَلَني، وأَنَّ كَلِماتِهِ قَدْ لاقَتْ ردَائِفَهَا الْمائِرةَ فِي كَيَانِيَ، فَتَفَاعَلَتْ مَعْهَا، وأَفْصَحتْ لَهَا عَنْ مَعَانِيْهَا، فَلمْ تلْتِحِمُ بِهَا فَحَسْبُ، بَلِ انْخَرَطَتْ وإيَّاهَا فِي حِوارٍ ضَرُوسٍ مَعْ نَقَائِضِهِما مِنَ الْكلِمَاتِ والْمَعَانِي الَّتي تَجْتَاحُ أَطْرافَ كِيَانِهِ وكَيَانِيَ آتِيَةً إِلَيْهِ وإلِيَّ مِنْ قِيْعَانِ تَوحُّشٍ بَشَرِيٍّ وعَدَمٍ مُرَاوِغٍ لا يَنِي جَوهَرُ كَيْنُونِتيَ يُبْعِدُ فَحِيْحَهُمَا، وسَوادَ اَقْوَالِهِمَا ورُخْصَ مَعَانيْهَا، وسُمُومَ فَيروسَاتِهِمَا، واسْتِطَارةِ شُرُورِ أَوْبَئَتِهِمَا، عَنْ نَفْسِهِ، وعَنِّيْ، لِيَقِيْ نَفْسَهُ، ويَقَيْنِيْ، ولِيُعِيْدَ تَأْهِيْلِيَ لِأَكُونَ، وقَدْ صَيَّرَتْني الصَّيرورةُ الدَّائِمَةُ، وتَوالي التَّجَاربِ الْوُجُودِيَّةِ النَّاجِحًةِ والْفَاشِلَةِ، والتَّأْهِيْلُ وَإِعَادَةُ التَّأْهِيْلِ، إِنْسَانَاً وُجُودِيَّاً جَوهِريَّاً كُلِيَّاً، إنْسَانَاَ يُوْجَدُ، فِي التَّوِّ واللَّحَّظَةِ وحَيْثُمَا اسْتَوجَبَ الإنْهِمَامُ الإنْسَانيُّ، هُنَا وهُنَاكَ، وفِي كُلِّ حَيْثٍ حَيَاتيٍّ وُجُوْديٍّ وحَيْنٍ؛ إنْسَانَاً قَادِرَاً عَلَى تَجْلِيَةِ كُلِّ مَا قَدْ جُبِلَ عَلَيْهِ: جَوهَراً، ومَاهِيَّةً، وهُوِيَّةً تُنْشُدُ كَمَالَهَا، ورِسَالةَ وُجُود؛ إنْسَانَاً مَنْذُوراً، مُذْ لَحْظَةِ تَحَقُّقِ وُجُودهِ، لِمَحَبَّةِ آخَرِيْهِ وأسْوائِهِ الإنْسَانِيينَ مِنَ النَّاسِ وحِمَايَتِهِم، ولِمحَبَّةِ، وحِمَايَةِ، واحْتِرامِ طَبِيْعَةِ، وغَايَاتِ وُجُودِ، كُلِّ كَائِنٍ طِبِيْعِيٍّ، وشَيءٍ، ومُوجُودٍ، وكُلِّ كَائنٍ بَشَريٍّ يتلَمَّسُ إِنْسَانيَّتَهِ، وكُلِّ مُحِيْطٍ وبَحْرٍ ونَهْرٍ وجَدْولٍ ونَبْعٍ ومَكْنَزِ مَاءٍ يَنْبِضُ بِحَيَاةٍ، ويَكْتَنزُ فِي أَعْمَاقِهِ، وفِي صُلْبِ أَصْلابِهِ، مَاءَ حَياةْ!
***
كُنْتُ، وشَرِيْكِيَ فِي الْبَحْثِ عَنْ الْحِيَاةِ فِي بُرْهَةِ عَدَمٍ مُراوغٍ لا يَخْلِقُهُ مِنْ شِيءٍ سِوى تَوحُّشِ بَشَرٍ مِنَ الْبَشَرِ، نُفَكِّرُ مَعَاً فِي كُلِّ هَذَا الَّذي تُبْلُورهُ كَلِماتٌ حيَّةٌ تَمُورُ فِي فَضَاءِ الْوِجْدانِ، وتَتَردَّدُ أَصْداؤهَا فِي سَديْمِ الْعَدِمِ الْمُراوغِ الَّذي يَجْمَعُنَا، فَتَمْحُوهِ، وتُعَدِّمُ وُجُودَهُ إِلَى حِيْنٍ، ومَعَ امِّحَاءِ هَذَا السَّديْمِ، شَرعَ الدَّانُوبُ فِي الْكلامِ، فَأَرْدَفَ هَامِسَاً فِي أُذِنَيَّ:
وَإِنِّي لأَصْدُقكَ القَوْلَ إِنْ قُلْتُ لَكَ، فِي خِتَامِ قَوْلِيَ فِي هَاتِهِ الْجَوْلَة مِنْ حِوَارِنَا الَّذي أَرْجُوهُ مَفْتُوحَاً، أَنَّنِي قَدْ دَأَبْتُ عَلَى بَثِّ الْخُلاصَةِ المُركَّزَةَ الَّتِي هَامَسْتَني بِهَا فِي مُسْتَهَلِّ لِقَائِنَا الثَّريِّ هَذَا، كَمَا قَدْ دَأَبْتُ عَلَى تَحْديْثِهَا، وتَجْدِيْدِ بَثِّهَا، فِي أُذِنَيِّ، وذَاكِرَةِ، وَخَزَائِنِ تَكْوِيْنِ وَعْيِّ، كُلِّ كَائِنٍ كَانَ قَدْ قَطَنَ ضِفَّتَيَّ، أَو مَرَّ بِهِمَا، أَو وَقَعَ عَلَيَّ، أَوِ عَلِيْهِمَا مَعَاً، أَو عَلَى أَيٍّ مِنْهُمَا، بَصَرُهُ، أَوْ كَانَ قَدْ لَامَسَ بِأَطْرافِ أَصَابِعَهِ ذَرْةَ طَمْيٍ مِنْ طَمْيِيَ، أَوْ شَربَ قَطْرَةَ مَاءٍ مِنْ مَاءِ مَجْراي الْجَاريَ، دَافِقَاً سَيَّالاً، بِيْنَ ضِفَّتَيَّ، أَوْ كَانَ لَهُ أَنْ يُلَامسَ بِجَسَدِهِ الْيَافِعِ مَائِي، أَوْ أَنْ يَمْخُرَ عَلَى جِذْعِ شَجَرةٍ مَالَتْ عَلَيَّ، أَو عَلى مِحَفَّةٍ مِنْ خَشَبٍ اقْتُطِعَتْ مِنْهَا، أَوْ عَلَى مَتْنِ مَرْكَبِ شَمْسٍ شَكَّلَتْهُ أَصَابِعُ بَشَرٍ تَاقُوا إلى مُلَاقَاةِ شُعَاعِ نُورٍ يَضِيءُ فِي أَعْمَاقِ نُفُوْسِهِمْ شُمُوسَ إنْسَانيَّتَهِمْ، عُبَابَ أَيِّ مَسَارٍ مِنْ مَسَاراتِ مَجْرَايَ، أَو كَانَ قَدْ تَنسَّمَ، ذَاتَ لَحْظَةٍ أَو شَهْقَةَ، هَوَائِيَ، فَاشْتَمَّ فِيْهِ رَائَحةَ الْحَيَاةِ وشَرَعَ يِتَنَفَّسُهَا ويَشْتَمُّهَا فِي أَنْفَاسِهِ وهُوَ يَتَنَسَّمُ هَوائِيَ، كَمَا وهُوَ يَشَهَقُ، طِيَلَةَ الْوَقْتِ، مُدْخَلاً إِلى صَدْرهِ أَنْفَاسِيَ، ومُشْتَمَّاً فِيْهَا أَرِيْجَ عِطْرٍ يَمْزِجُ رائِحَةَ نَهْرِ حَيَاةٍ بِرائِحَةِ إنْسَانِ وُجُودٍ، فَيَشْتَمُّني فِي أَنْفَاسِهِ، وأَشْتَمُّهُ أَنَا، فِي التَّوِّ نَفْسِهِ، فِي أَنْفَاسِيْ!
وإِنِّي لأَصْدُقُكَ الْقَوْلَ إذْ اُسِرُّ لَكَ الآنَ أَنِّي قَدْ دَأَبْتُ، بِصِيَغٍ وَوسَائِلَ وهِيْئَاتٍ وأَشْكَالٍ وتَجَلِّيَاتٍ شَتَّى، عَلَى بَثِّ الْخُلَاصَةِ الْجَوْهَرِيَّةِ الَّتِي عَقَّبْتَ بِهَا عَلَى عَبارتي: “إِنَّهُ الْعَدَمُ” فَدَشَّنْتِ بِهَا مَسَارَ حِوارِنَا، وذَلِكَ عَلَى مَدَى مَسَاراتِ مَجْرَايَ وجُزُرِهَا وسُهُوْلِهَا وَوِدْيَانِهَا وبُحيْرَاتِها، وفِي تُفرُّعَاتِ دِلْتَايَ، وفِي حَواسِّ النَّاسِ، وحُدُوْسِهِمْ، غَيرَ أنَّ أغْلَبَ قَاطِني ضِفَّتَيَّ مِنَ الْبَشَرِ الَّذِينَ لَمَّا تَلْتَقِطُ حَواسُّهُمْ وحُدُوسُهُمْ بِذْرَةَ إِنْسَانيِّتِهمِ الْكَامِنَةِ فِيْهِمْ، لَم يُصْغِ، لِسَبَبٍ أَوْ لآخَرَ مِمَّا أَحْسَبُ أَنَّهُ قَدْ بَاتَ جَلِيَّاً ومَعْلُومَاً، إلَى قَوْلِيَ، بَلْ إِنَّ واحِدَهُمْ لَمْ يَبْذُلْ ذَرَّةَ انْتِبَاهٍ، أَوْ لَفْتَةَ سَعْيٍ لالْتِقَاطِ مَغْزاه، فِيمَا عَمَدَتْ ثُلَّةٌ قَلِيْلَةٌ زَعَمَتْ لِنَفْسِهَا تَمَايُزَاً جَوْهِرِيَّاً يَعْلُو بِها صَوبَ سَامِقٍ يُخْرِجُهَا، مَاهِيَّةً وَهُوِيَّةً ورِسَالةَ وُجُودٍ، عَنْ سِوَاهَا مِنَ النَّاسِ، ويَجْعَلُهَا عَلَى يَقِينٍ مُنَزَّلٍ مِنْ أعْلَى سَمَاءٍ، أُوْ صَاعِدٍ مَنْ قَاعِ أَدْنَى سَعِيْرٍ، يَقولُ لَهَا إِنَّهُمْ مَحْضُ سَوادٍ أَعْظَمٍ مُسَخَّرٍ لِتَلْبِيَةِ حَاجَاتِها، والْتزامِ أَوامِرِهَا، وخَدْمَتِهَا، وأَنَّهُ مَا خُلِقَ، أَوْ وُجِدَ فِي الْوُجُودِ كَسَوَادٍ أَعْظَمٍ، أَصْلَاً، إلَّا لِتسْتَعْبِدهُ، وتَسْتَلِبَهُ، وتَنْعَمُ بِسَرِقَةِ ثَمَارِ جَهْدِهِ، وتَعَبِهِ، وعَطَاءَاتِ عَمَلِهِ الدَّؤوبِ، وإِبْدَاعِهِ الْخَلَّاقِ فِي بِناء بُيوتِ الْحَيَاةِ، وإِعْمَارِ الأَرْضِ، وإثْراءِ الْوجُودْ!
بِلْ إنَّ هَذِه الثًّلَّةِ الْمُتَوحِّشّةُ الْجَشِعَةُ، لَتَفْتِرضُ أنَّ أصَواتَ أَعْلَى سَمَاواتِ الْوُجُودِ لَتَتَمَازَجُ بزَعيْقِ أَدنَى سَعَائِرِ الْعَدم، لِتَقولَ لَهَا، إنَّ هَذَا السَّوادَ الأعْظَمَ مِنَ الأشْيَاءِ والأحْيَاءِ والْكائِنَاتِ والنَّاسِ، لِيَنْتَظِرُ بِتَلَهُفٍ عَارِمٍ، طِيلَةَ الوَقْتِ، أَنْ تَسْتَلِبَهُ، وتُسَخِّرَهُ، وتَسْتَعْبِدَهُ، لِتُحَقِّقَ لَهُ شُعُوراً بِإِشْبَاعِ غَايَةِ وُجْودِهِ، فَتُسْعِدُهُ؛ ومَا هَذَا إِلَّا لِكَوْنِهِ لا يَسْعَدُ، ولَا يَكُونُ عَلى حَقيْقَةِ نَفْسِهِ، إلَّا إِنْ هِي تَفَضَّلَتْ عَلَيْهِ، بِكَرَمِهَا النُّخْبَوِيِّ السَّخِيِّ، فَسَخْرَتْهُ لِخِدْمَتِهَا، أَو إِنْ هِيَ أَشْفَقَتْ عَلَيْهِ مُنْزَعِجَةً مِنْ بُؤْسِ حَالِهِ، فَآسْتَعْمَرَتْهُ، وسَرَقَتْ أَرْضَهُ واسْتَوطَنَتْهَا، واسْتَعِبَدتُهُ، أَوْ أَشْفَقَتْ عَلَيْه أَكْثَرَ مِمَّا يَنبَغي، فَأَبَادَتْهُ!
هَكَذَا لَمْ تَذْهَبْ هَاتِهِ الثُّلَةِ الْمُتَوحِّشّةِ الْجَشِعَةِ إِلَى السُّخْرِيَةِ مَنِّي، ومِنْ نَصَائِحِيَ وأَفْكاريَ، فَحَسْبُ، بِلْ ذَهَبَتْ إِلَى اسْتِعْلَاءِ وكِبَرِ، مُعَنْصَرَيْنِ وِفْقَ تِلكَ الرُّؤيَةِ، فَنَظَرَتْ إِليَّ بِاحْتِقَارٍ امْتَهَنَ وُجُودي، وعَامَلَتْني بِدَّنَاءَةِ جَشَعٍ وشَراسَةِ تَوحُّشٍ، انْتَهَكَانِي بِجَسَامَةٍ مُنْقَطِعَةِ النَّظِيرَ والْعَقَابِيْلَ، فَأَنْهَكَانِي، وأَفْسَدَا يَنَابِيْعي، وجَفَّفَا حَلْقِي، وأَعْطَشَانِي، وجَعْلَانِيَ، لِشِدَّةِ مَاَ تَعرَّضْتُ إِلَيْهِ مِنَ امْتِهَانٍ وتَوحُّشٍ وانْتِهَاكٍ وإِنْهَاكٍ، أَحُسُّ أَنِّيَ مَحْضِ شَيءٍ يَسْتأْثِرُونَ لِأنْفُسِهِمْ بِهِ دُونَ سِوَاهُمْ مِنَ النَّاسِ، بَلْ وأحُسُّ أَنِّيَ مَحْضَ ضَرْعٍ يَمُتَصُّونَ طَمْيَهُ، ومَاءَهُ، ودَمَهُ، وكُلَّ شَيءٍ فِي أعْمَاقِهِ، وعَلَى ضِفَافِهِ، وفِي فَضَاءاتِهِ، وفِيْه، لِإِشْبَاعِ جَشَعِهمْ الْبَشَرِيِّ الشَّرِهِ الَّذِي لَا يُشْبَعُ، ولِإطْفَاءِ حَرائقِ اشْتِعَالِهِمْ الشَّهْوَانِيِّ التَوَحُّشِيِّ الشَّرِسِ الَّتي لا تُطْفَأُ، ولإِرْوَاءِ غَلِيْلِ عَطَشِهِمْ الْهَجِيْرِيِّ غَيرِ الْقَابِلِ لِتَرْطِيْبٍ، أَو إرْوَاءٍ، أَوْ تِسْكيْنٍ، أَوْ إِشْفَاءٍ، أَبَداً!
4 comments
722281 308571I adore your wp internet template, wherever would you obtain it by means of? 968631
428426 176677So funcy to see the post within this weblog. Thank you for posting it 825370
848582 35650Good read, I just passed this onto a colleague who was doing some research on that. And he actually bought me lunch as I identified it for him smile So let me rephrase that: Thank you for lunch! 713113
377878 250893Was koche ich heute – diese Frage stellen sich tag fuer tag viele Menschen. Und wir haben tag fuer tag die perfeckte Antwort darauf! Besuchen Sie uns auf unserer Webseite und lassen Sie sich von uns beraten . Wir freuen uns auf Sie! 828059