إلياس خوري روائي الحرب اللبنانية والملحمة الفلسطينية (أ ف ب) ثقافة و فنون عبده وازن يكتب عن: إلياس خوري المزدوج الانتماء كتب الحرب اللبنانية والملحمة الفلسطينية by admin 17 سبتمبر، 2024 written by admin 17 سبتمبر، 2024 96 الروائي المتعدد والمثقف الطليعي الذي دافع عن قضايا المظلومين والتزم مبدأ الحرية اندبندنت عربية / عبده وازن عانى الروائي إلياس خوري خلال سنة، على سرير المرض، متنقلاً بين المستشفى والبيت، ما لا يمكن أن يعانيه إنسان، حتى كاد، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، يصبح طيفاً أو ظلاً من شدة ما هزل جسده، تحت وقع الجراحات والآلام، خصوصاً عندما وقع في ما يشبه الصيام التام، لا طعام بتاتاً، بل ماء ومصل. انفجار في الشريان الذي يغذي المعدة، حل حلول الكارثة في جسد الروائي، فنجم عنه ما نجم من خراب شديد، بلغ حد القلب والرئتين. لكن إلياس خوري بدا كأنه يلعب دور “البطل” في رواية الألم هذه، فراح يقاوم المرض والجراحات التي خضع لها، وظل يقرأ ما أمكنه، كاتباً مقاله الأسبوعي في صحيفة “القدس العربي”، بجرأته المعروفة وروحه الثائرة واحتجاجه الذي عرف به. كان أيضاً يراجع مخطوط رواية له، ومسرحية عن بيروت، كان حدّث أصدقاءه عنها، منتظراً أن يحين الوقت، كي تُقدم على الخشبة، فهي عن بيروت الثورة والإفلاس وما بعد الانفجار، عن المدينة التي بلغت الحضيض بسرعة غير متوقعة. مع صديقه محمود درويش (صفحة الكاتب – فيسبوك) في هذه الأشهر المأسوية، كان إلياس خوري روائي ملحمة النزوح الفلسطيني، أشبه بجريح، يرقد على سريره، يشاهد على الشاشة الصغيرة، سقوط القتلى والجرحى، في غزة، صامتاً، دامع العينين، وعاجزاً سوى عن كتابة مقالات عن هذه الكارثة التي فاقت حدود التصور، بل التخيل. كان بعضهم يصفه بالفلسطيني واللبناني الفلسطيني، لكنه كان يصر على وصف نفسه باللبناني الهوية والفلسطيني الهوى. ومرة أزعجه جداً أن تصفه صحيفة لبنانية أنغلوفونية هي “دايلي ستار” بالفلسطيني. ولعله سيزعجه أيضاً، نعي الزعيم وليد جنبلاط له عبر منصة “إكس” قائلاً: “تفقد فلسطين وحركة التحرر العربي أحد أبرز كتابها ومناضليها، في غياب إلياس الخوري. صفحة مشرقة من النضال الأدبي والفكري يطويها القدر. أتقدم إلى مؤسسة الدراسات الفلسطينية بأحر التعازي”، لكن صحيفة الحزب الشيوعي الفرنسي “لومانيته” كتبت عنه في عدد البارحة مقالاً جميلاً، سمته فيه “روائي وطن الأرز اللبناني”. بين انتماء لبناني وفلسطيني كثيراً ما وصف إلياس خوري بـ”روائي فلسطين”، خصوصاً بعد كتابته روايته “باب الشمس” عام 1998 التي تعد من أبرز الروايات الملحمية التي تناولت قضية النزوح الفلسطيني، وقد أخرجها سينمائياً المخرج المصري يسري نصرالله، وثلاثيته الملحمية أيضاً “أولاد الغيتو”: “اسمي بحر” 2016 و”نجمة السماء” 2018 و”رجل يشبهني” 2023. وهي من أضخم الثلاثيات التي تتناول الهجرة والشتات الفلسطينيين من خلال شخصيات وقصص واقعية ومتخيلة، وعبر نسيج سردي مبني ومعقد ومتعدد الأساليب. من رواياته (دار الآداب) لعل تبني خوري القضية الفلسطينية وتكريس حياته وأدبه لها، بل انتظامه شاباً في صفوف حركة “فتح” متئاثرا بنكسة 1967، كان بمثابة انتماء وجودي ووجداني وإنسانوي، والتزام بقضية نشأ في كنفها. لم يعن هذا الانتماء يوماً في نظر خوري، اقتلاعاً من الوجود اللبناني، على رغم عدائه المعلن للأحزاب اليمينية، ورفضه الأيديولوجية اللبنانية والنظام الطائفي. كان إلياس خوري سليل الأدب اللبناني، وجذوره تضرب في أديم هذا الأدب الذي تجلى في أعمال مارون عبود وتوفيق يوسف عواد وخليل تقي الدين ويوسف حبشي الأشقر وسهيل إدريس وفؤاد كنعان وحداثة مجلة “شعر” ونثر أنسي الحاج في “كلمات كلمات كلمات” التي كان لها أثر في مقالاته الأسبوعية. صحيح أن خوري قرأ التراث العربي، وخصوصاً “ألف ليلة وليلة”، ورواد الرواية المصرية، وفي مقدمهم نجيب محفوظ وكتب عنه، ورواد الرواية الفلسطينية ومنهم غسان كنفاني وإميل حبيبي، وسواهما، عطفاً على أعلام الرواية العربية والأجنبية، لكنه ظل ابن المدرسة الأدبية اللبنانية، في الأسلوب واللغة والمناخ، مع أن الأدبين، اللبناني والفلسطيني، هما سليلا طبيعة وبيئة جغرافية ووجودية واحدة. حداثة بيروت ظل إلياس خوري حاضراً في نهضة بيروت الحداثية بدءاً من السبعينيات ولم يغترب عنها، بل شارك فيها كروائي وكاتب وصحافي، حتى خلال انضوائه تحت جناح الصحافة الفلسطينية، خصوصاً المجلات المهمة مثل “شؤون فلسطينية” التي أدار تحريرها من 1975 إلى 1979 مع الشاعر محمود درويش الذي كان من أقرب أصدقائه ورفاقه إليه، ومجلة “الكرمل” في عاميها الأولين 1981 – 1982 وقبل هجرتها إلى قبرص، وهاتان المجلتان كانتا مساحتين واسعتين للثقافة العربية الجديدة والفكر الحديث والوعي السياسي الطليعي. وانتمى خوري إلى هيئة تحرير مجلة “مواقف” التي أصدرها الشاعر أدونيس عام 1972 وكتب فيها. وتولى خوري أيضاً تحرير “مجلة الدراسات الفلسطينية” في صيغتها العربية الجديدة حتى رحيله. كان من الطبيعي أن يبرز إلياس خوري في المشهد الثقافي البيروتي بين السبعينيات ومطلع الثمانينيات ولم يغادره البتة، والذي حضر فيه الروائيون والشعراء والمفكرون الفلسطينيون والعرب الذين التزموا القضية وعاشوا في بيروت حينذاك، وشاركوا في إرساء الطابع الثقافي الحداثي العربي لمدينة بيروت، ولعلهم لم يشعروا أنهم غرباء عنها إلا عندما غادروها قسراً في ظل الاجتياح الإسرائيلي 1982. هذا الدور الطليعي الذي أداه خوري في ظل الوجود الفلسطيني في بيروت، سرعان ما استعاده بعد عودته إلى بيروت بعد زوال الإجتياح الإسرائيلي عام 1983، سواء في إدارته القسم الثقافي والملحق في صحيفة “السفير” (1983 – 1990)، ثم لاحقاً في ملحق صحيفة “النهار” الذي ترأس تحريره في التسعينيات، عطفاً على إدارته “مسرح بيروت” الذي أحدث مع “مسرح المدينة” التي تديره الفنانة نضال الأشقر، نهضة مسرحية جديدة كانت بيروت تنتظرها حينذاك. كان إلياس خوري وجهاً من وجوه المشهد الثقافي اللبناني في الثمانينيات وما بعد، بل واحداً من المشاركين في ترسيخه. ثم لما اندلعت الثورة السورية العام سرعان ما انتقل بصفته مثقفا ملتزما وطليعياً، إلى جبهتها الفكرية والثقافية، ملتزماً خط المعارضة والنضال، وكتب كثيراً من المقالات في شأن الثورة وشارك في ندوات ومؤتمرات حولها، حتى ليمكن أن يقال إنه كان صوتاً من أصواتها. الروائي المجدد من رواياته المترجمة إلى لغات عالمية (أمازون) غير أن إلياس خوري الذي قال عنه الكاتب أحمد بيضون “لا يعد إلياس ولا يحصى” هو الروائي المجدد الذي أسهم مع أسماء لبنانية وعربية في خلق فضاء روائي حديث، وابتداع أساليب وطرائق سردية لم تألفها الرواية مع روادها نجيب محفوظ وعبدالرحمن منيف ويوسف حبشي الأشقر وفؤاد التكرلي وغالب هلسا وسواهم. عطفاً على التطرق إلى موضوعات وقضايا تصب في هموم الجماعة وأزماتها العامة والخاصة، مقدار ما تخاطب الفرد في معاناته الشخصية والإنسانية. ولئن صادفت انطلاقة خوري الروائية اندلاع الحرب الأهلية، فهو كان بحق أحد رواد رواية الحرب اللبنانية، وكتب في ميدانها روايات عدة، فهاجس الحرب شغله حتى بعد انتهاء المعارك الذي لم يضع نهاية أكيدة للحرب الأهلية. وكانت الحرب حافزاً كي يعود خوري إلى جذور المشكلة اللبنانية تاريخياً وسياسياً. ولعل روايته “الوجوه البيضاء” الصادرة عام 1981 تعد إحدى الشرارات الأولى في انطلاق رواية الحرب اللبنانية، مع أنه كان بدأ يطرح سؤال الحرب ومأساتها في “الجبل الصغير” 1977. رواية الحرب الأهلية يستهل خوري رواية “الوجوه البيضاء” متحدثاً عن جريمة قتل مروعة يذهب ضحيتها رجل في الـ50 من عمره يدعى خليل أحمد جابر. وتبدو الرواية كأنها تحقيق صحافي أو ريبورتاج، هدفه جمع شهادات شخصية تساعد في التوصل إلى معرفة هوية القاتل، لكن الريبورتاج يؤدي إلى ما يسميه خوري “خاتمة موقتة”، فالقارئ كما الراوي، لا يتمكنان من الوصول إلى اكتشاف مرتكب الجريمة في مدينة تشبه المتاهة، ويختلط فيها المجرمون والقتلة. تكتسب لعبة جمع الشهادات بعداً سردياً معقداً ومشوقاً، فالشخصيات التي تتحدث عن الضحية تشكل في اختلافها مادة سردية مهمة. في مطلع الفصل السابع والأخير وعنوانه “خاتمة موقتة”، يقول الراوي: “هذه ليست قصة. مصير السيد خليل أحمد جابر كان مأسوياً. والمشكلة الكبرى هي أننا لم نستطع معرفة القاتل. القاتل غامض”. غاندي الصغير كتب خوري إذاً عن الحرب اللبنانية أو استوحى أجواءها وتناقضاتها وآثارها الرهيبة، في روايات عدة، ومنها “رحلة غاندي الصغير” (1989) التي حولها ربيع مروة مسرحية، و”مملكة الغرباء” (1992) و”يالو” (2002) التي يعدها البعض أجمل رواياته في هذا القبيل، و”سينالكول” (2912). لكن خوري عمد في بعض روايات الحرب إلى فتح نوافذ على التاريخ اللبناني المضطرب الذي طالما شهد حروباً أهلية مثل حرب 1860 وحرب 1958. في رواية “رحلة غاندي الصغيرة” شاء خوري أن يجعل الرواية تبدأ من حيث تنتهي وكأن شيئاً لم يحدث، بل كأن كل شيء حدث حقاً، بينما لم يحدث شيء. فالزمن السردي العام هو زمن دائري وليس متعاقباً، والرواية، بحسب الكاتب الراوي، تنتحل طابع الذكرى، على رغم اعتمادها حيلة التحقيق الغامض الذي سيؤدي إلى تأكيد الرواية ونفيها في وقت واحد. يكتب إلياس خوري سيرة غاندي الصغير كما رواها غاندي إلى أليس وكما روتها أليس إلى الكاتب – الراوي وكأن السيرة حلقة مفقودة داخل حلقات مفقودة، لكن سيرة غاندي ماسح الأحذية هي سيرة المدينة أولاً وآخراً كما تتبدى من خلال عيني غاندي وعلاقاته البسيطة والنافلة. وتبدو ذاكرة أليس التي تستعيد خيوط الحكايات والأحداث والوجوه جزءاً من الذاكرة المفقودة للمدينة التي تتآكلها الحرب. وإذا تناثرت ذاكرة أليس وفقدت الإحساس الواضح بالزمن فلأن ذاكرة بيروت تناثرت أيضاً وفقدت القدرة على استعادة الماضي المتناثر صوراً وملامح. والرواية التي تعتمد ذاكرة أليس المهددة بالعجز والنسيان هي رواية “الذاكرة المفقودة”، كما يعبر إلياس خوري في غير سياق. هي رواية بلا ذاكرة محددة وواضحة، رواية تفقد ذاكرتها في حين تتوهم أنها وجدتها. على أن الكاتب حين ينفصل عن رواية أليس يخلق من ذاكرتها المبعثرة نسيجاً روائياً ملتحم الأجزاء، وإن بدا ممزقاً. فالذكريات التي لا يجمعها سياق زمني واحد والتي تتداعى وتتداخل عبر حالة من الفوضى الزمنية الطالعة من عمق النسيان لا تلبث أن تلتئم في سياق دلالي واحد يتجاوز زمنيته الضيقة إلى زمن وجداني – وجودي عام، هو زمن الشخصيات الضائعة وزمن بيروت التي كانت، والتي ربما لم تكن إلا وهم مدينة كانت. فبيروت “مدينة بلا تاريخ” تعترف أليس ويحاول الكاتب أن يؤرخ المدينة التي تفقد تاريخها عبر سيرة غاندي وعبر العلاقات التي جمعته بالشخصيات الأخرى التي طافت من حوله طوال حقبة من الزمن. كافكاوية “يالو” في رواية “يالو” ينطلق خوري من عالم السجن، بل من جو التحقيق العبثي وربما الكافكاوي الذي يخضع له الشاب السرياني الموقوف الذي يدعى يالو. نقرأ في مستهل الرواية: “لم يفهم يالو ماذا يجري. وقف الشاب أمام المحقق وأغمض عينيه، وكذلك كان يفعل دوماً. يغمض عينيه حين يواجه الخطر”. تجري أحداث الرواية عام 1993، تدخل عالم السجن وترصد أحوال التعذيب والمعاناة في داخله. بطل الرواية شخص من الطائفة السريانية في لبنان، يدعى يالو دانيال، يكاد يكون شبيه أبله دوستويفسكي. يتم توقيفه بتهم عدة هو براء منها، مثل اقترافه أعمال اغتصاب وسرقة، في مدينة تحصل فيها أعمال اغتصاب وذبح تطاول أعداداً من النساء والرجال. يضطر يالو الشخص المضطرب والمتضعضع إلى أن يكتب خلال التحقيق أكثر من اعتراف، وكل اعتراف يختلف عن الآخر بحسب شهادته هو، ثم شهادة المحققين وما يريدون منه أن يقول. يخضع يالو للتعذيب الذي يبدو عبثياً ولا إنسانياً، فالمحققون ما لبثوا أن أخلوا سبيله بعدما اكتشفوا المجرم الحقيقي. عالم رحب لا يمكن حصر عالم إلياس خوري الروائي بسهولة، عالمه الرحب والمتعدد القضايا والأساليب والمقاربات، والذي تلتبس فيه الحقائق وتتراوح الحكايات بين الواقعي والمتخيل، يحتاج إلى قراءة شاملة، كي يتم وصل مركزه بأطرافه في المعنى السردي. يعتمد إلياس خوري “الموضوعية الذاتية” كي يبني عالماً روائياً لا بداية له ولا نهاية، ليس لأنه عالم متجه نحو المطلق أو المثال الغائب، وإنما لأنه عالم يقوم على أنقاضه. فالأشياء تتداعى والعناصر تتساقط وتبتعد عن نظامها الخارجي. والواقع يكاد يفقد ذرائعه كواقع قائم بذاته، لكثرة ما يحاصره الوهم والذكرى معاً. كأن الزمان والمكان السرديين ينتميان لديه إلى “ضاحية الواقع” لا إلى صميمه، كما يعبر ألان روب غرييه، إلى صورة الواقع التي تعكسها مرآته المكسورة. و”الموضوعية – الذاتية”، كما يفترضها إلياس خوري تدفعه إلى رؤية الأشياء والأحداث رؤية غير محايدة. فهو لا يلبث أن يمنح الأشياء والأحداث كثيراً من المعاني المفترضة. فيبدو المكان والزمان حقيقيين بمقدار ما يبدوان وهميين. وكذلك التفاصيل الكثيرة التي تدل على الواقع وتنفيه. وكذلك الشخصيات الطالعة من الواقع تؤكد واقعيتها وتنقضها. رواية إلياس خوري هي “تجربة منهجية” كما يقول ألان روب غرييه. فهي لا تستسلم للسرد إلا كي تعيد النظر في معطياته، كما تعيد النظر تماماً في الواقع الذي تنطلق منه في قراءة جديدة و”منحرفة” لعناصره. وهي رواية تعتمد البحث عن الخبر والحدث والشخصية لا لترويها فقط أو لترسمها، وإنما لتخلق فضاءً، متقلباً ولجوجاً في وقت واحد. ولعل لعبة المرايا في بعض رواياته تتوضح أبعادها شيئاً فشيئاً، كأن الحدث لا يكتمل إلا في الحدث الذي يقابله، وكأن الشخصية لا تجد ملامحها الضائعة إلا في الشخصية الأخرى. الفرد والجماعة رواية “باب الشمس” (دار الآداب) يتداخل اللاوعي الفردي في اللاوعي الجماعي في روايات إلياس خوري ويصبح الفرد الذي يعيش (أو يموت) ضمن هامش ضئيل من المجتمع، صورة عن جماعة تعيش بدورها أزمنتها الهامشية. فالجماعة هي مجموعة أفراد مشتتين لا يدركون الوحدة التي تجمعهم ولا يحاولون أن يفسروا لقاءاتهم الثابتة أو العابرة. والفرد يحس فردانيته أو وحدانيته بعمق، وهي الوجه الوجودي للوحدة التي يعانيها داخل الجماعة. فالفرد لا يلتقي الفرد الآخر إلا عبر اختلافه عنه. والاختلاف هو الجوهر الخفي لحركة الانفصال التي تجعل الفرد قلقاً في بقعة لا تلتحم أجزاؤها. ولا غرابة أن يتحول المكان في رواية إلياس خوري إلى ما يشبه الفسيفساء المهددة دوماً بالتفتت والتمزق. فالمدينة بيروت التي تحضر في معظم رواياته، هي النموذج الأرقى لارتجاج المكان وتبعثره. وهي البقعة النموذجية للطابع الفسيفسائي الذي يسم وطناً بكامله. أما خصائص إلياس خوري الروائي المجدد والتجريبي فتكمن في أفقه السردي المفتوح على التقنيات والاختبارات القائمة داخل النص والنابعة منه ومن هاجس أو هواجس الكاتب نفسه. الحكاية تتداخل في الحكاية، كي تؤكدها وتنفيها في وقت واحد، والرواية تجري داخل رواية في ما يشبه لعبة الإثبات والإنكار. الرواة يتعددون وكل راوٍ يفرض وجهة نظره حتى لتتداخل وجهات النظر وتتعدد زواياها في ما يسمى “لعبة التبئير”. الأقنعة تحضر لتحل محل الوجوه فتصبح هي الوجوه. السينما تحضر في سرديات خوري عبر التقطيع المشهدي والإيقاعي خصوصاً فتنقل المعطى اللغوي إلى بعد مشهدي مفتوح. وتأخذ لعبة التأخير والاسترجاع والتكرار والتدوير حجمها فتجعل مادة السرد متحركة، حية ونابضة. عرفت روايات خوري طريقها الى العالمية وترجمت إلى لغات عدة، وتم دخولها إالى الجامعات في أوروبا والولايات المتحدة وكانت مادة دراسات أكاديمية. ورحبت الصحافة والنقد بها وكتب عنها الكثير خصوصاً في فرنسا. ولقيت رواياته الفلسطينية ترحاباً كبيراً في الأوساط الأدبية العالمية. وأوردت مرة جريدة “لوفيغارو” اسم خوري كمرشح إلى جائزة نوبل. وكتب عنه إدوارد سعيد مقالاً مهماً اعتبره فيه رائد الرواية العربية الجديدة بعد نجيب محفوظ. غداة رحيل إلياس خوري نكتشف كم أننا في حاجة إلى أن نعيد قراءته، روائياً لبنانياً و”فلسطينياً” وكاتباً طليعياً وملتزماً وإنسانوياً، ومثقفاً إشكالياً ومعارضاً، واجه السلطات كافة ودافع عن المضطهدين والمقهورين والمنفيين. كتب إلياس خوري رواية الحرب اللبنانية ورواية بيروت في الحرب وبعدها، كما كتب ملحمة الشعب الفلسطيني، وكان خير شاهد على أزمات عصر يتخبط بين ماضٍ وحاضر مضطربين ومستقبل مجهول تماماً. المزيد عن: روائي لبنانيالحرب الأهليةالقضية الفلسطينيةالحداثة الروائيةبيروتالإلتزامالحريةالتجريب السرديمحمود درويشإدوارد سعيد 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post Police charge relative with second-degree murder in Devon Marsman case next post سبب انفجار “البيجر”: ارتفاع حرارة البطارية أم شريحة مزروعة؟ You may also like مهى سلطان تكتب عن: جدلية العلاقة بين ابن... 27 ديسمبر، 2024 جون هستون أغوى هوليوود “الشعبية” بتحف الأدب النخبوي 27 ديسمبر، 2024 10 أفلام عربية وعالمية تصدّرت المشهد السينمائي في... 27 ديسمبر، 2024 فريد الأطرش في خمسين رحيله… أربع ملاحظات لإنصاف... 27 ديسمبر، 2024 مطربون ومطربات غنوا “الأسدين” والرافضون حاربهم النظام 27 ديسمبر، 2024 “عيب”.. زوجة راغب علامة تعلق على “هجوم أنصار... 26 ديسمبر، 2024 رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري… الراسخ في... 26 ديسمبر، 2024 محمد حجيري يكتب عن: جنبلاط أهدى الشرع “تاريخ... 26 ديسمبر، 2024 دراما من فوكنر تحولت بقلم كامو إلى مسرحية... 26 ديسمبر، 2024 يوسف بزي يتابع الكتابة عن العودة إلى دمشق:... 26 ديسمبر، 2024