PHOTO AlMajalla X FILEثقافة و فنون شخصيات ثقافية وإبداعية بارزة رحلت في 2024 by admin 30 ديسمبر، 2024 written by admin 30 ديسمبر، 2024 24 وداعا لصناع الذاكرة وحراس الحكايات المجلة / شادي علاء الدين شهد عام 2024 رحيل مجموعة من المثقفين والأدباء والفنانين الذين أثروا في مسارات الإبداع والفكر منذ النصف الثاني من القرن العشرين. عايش هذا الجيل تحولات كبرى مثل نكبة فلسطين وتداعيات الحرب العالمية الثانية والحرب اللبنانية والسورية وصعود تيارات العبث واللاجدوى، وتشظي المرجعيات الأدبية والفنية التقليدية. وفي هذا السياق المضطرب، أعادوا ابتكار أدواتهم وأساليبهم، وقدموا اقتراحات جمالية وأخلاقية وثقافية تعكس هواجس عصرهم وأسئلته وتناقشها وتعترض عليها. في مجال الفكر فقدت الثقافة العربية المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري الذي كرس حياته لقراءة أسباب الهزائم وتحليلها وتقديم اقتراحات عميقة لمسائل الفكر العربي والواقع العربي وربطها بمسارات التفكير العالمي. من ألبانيا، غادرنا إسماعيل كاداريه، الذي وثّق في رواياته مأساة شعوب البلقان، بينما كتب الأميركي بول أوستر نصوصا تنقب في عزلة الإنسان الحديث وعلاقاته بالمصادفة والقدر. عربيا، دافع اللبناني إلياس خوري عن حق المنسيين والهامشيين في سرد حكاياتهم بلسانهم ولغتهم. في مجال الشعر، فقدت المملكة العربية السعودية الشاعر الأمير بدر بن عبد المحسن الذي ترك بصمة كبرى في الشعر النبطي، دمج فيها المؤثرات التراتية والبدوية بآفاق الثقافة الحديثة ومرجعياتها. كما فقد لبنان الشاعر شوقي أبي شقرا، أحد رواد قصيدة النثر، الذي بنى عالما فريدا من سوريالية ترابية تحلق في آفاق الخيال من دون تدمير الصلة بالواقع. ومن سلطنة عمان، فتح زاهر الغافري آفاقا جديدة لتمثل الألم والاغتراب. على صعيد الفن التشكيلي، تركت الرسامة السعودية صفية بن زقر إرثا فنيا يوثق تراث المملكة في لوحات تعكس خصوصية الهوية الثقافية التراثية السعودية. في مصر، حلمي التوني كان جسد التراث الشعبي بأسلوب يمزج بين الحداثة والبساطة، بينما استلهم اللبناني حسين ماضي الطبيعة ليبتكر عالما بصريا يمزج التعقيد بالبساطة. ومن فلسطين، عرض الفنان فتحي غبن مأساة شعبه في لوحات تستحضر المشهد الفلسطيني في تاريخه وسيرورته وتحولاته وأنماطه الثقافية وأزيائه، في حين اجتهد السينمائي العراقي قيس الزبيدي في توثيق المشهد الفلسطيني الثقافي والنضالي في بنية سينمائية تضيء على العميق والغائر وتخاطب العالم بلغة سينمائية ثرية غنية وشفافة. في القصة القصيرة، رحلت الكندية أليس مونرو، التي تميزت بأسلوبها البسيط والمباشر في كشف أعماق النفس البشرية، ورصد آثار العيش المديني بتعقيداته التي تصيب النساء بشكل خاص، فبنت عالما أعاد الاعتبار الى القصة القصيرة وقدرتها على التقاط نبض الحياة الحديث القاسي برؤية نسوية استثنائية. ما يجمع كل الراحلين على مختلف توجهاتهم وأساليبهم، أنهم شكلوا حالة فكرية وجمالية ترفض السطو على أرواح الناس وذاكرتهم، وابتكروا أساليبهم الخاصة التي عكست تصدعات عصرهم وأحلامه وأوهامه. محمد جابر الأنصاري: مفكك الهزيمة والتخلف يعد محمد جابر الأنصاري أحد أبرز المفكرين العرب في العصر الحديث، وُلد في المحرق، البحرين، عام 1939، ونما في بيئة ثقافية مشبعة بالمفاهيم والقيم الإسلامية والعربية. تلقى تعليمه الأولي عند المطوع، حيث حفظ القرآن واكتسب معرفة ثرية ومعمقة باللغة العربية. التحق بالتعليم النظامي، وتابع دراسته الثانوية في مدرسة المنامة، التي وصفها بأنها عبارة عن مصهر وطني، إذ جمعت طلابا من مختلف مناطق البحرين ومدرّسين من دول عربية عدة، مما عزز عنده مبكرا حس التعددية والانفتاح. انتقل عام 1958 إلى بيروت حيث درس في الجامعة الأميركية وحصل على البكالوريوس في الأدب عام 1963، قبل أن ينال الماجستير في الأدب الأندلسي عام 1966، ليكون أول بحريني يحصل على هذه الدرجة. واصل تحصيله العلمي العالي وتوجه بحصوله على الدكتوراه في الفكر العربي الإسلامي الحديث عام 1979، مع دراسات مكملة في كمبريدج والسوربون. تقلد المفكر الراحل مناصب عدة، تشمل رئاسة الإعلام وعضوية مجلس الدولة البحريني بين عامي 1969 و1971، كما كان من مؤسسي أسرة الأدباء والكتاب البحرينية ورئيسها الأول. عمل أستاذا لدراسات الحضارة الإسلامية والفكر المعاصر في جامعة الخليج العربي، وشغل منصب مستشار ثقافي وعلمي لملك البحرين منذ عام 1989. نال العديد من الجوائز المرموقة وأبرزها جائزة الدولة التقديرية في البحرين وجائزة سلطان العويس للدراسات الإنسانية ووسام قادة دول مجلس التعاون عام 1989. في السادس والعشرين من ديسمبر/كانون الأول 2024، نعى الديوان الملكي البحريني المفكر الكبير، مشيدا بدوره البارز في خدمة الفكر والثقافة. قام مشروع الأنصاري الفكري على الربط الجدلي بين الفكر والواقع، إذ كان يحرص على تفسير الواقع العربي انطلاقا من الفكر، وإعادة النظر في الفكر العربي استنادا إلى ما يفرزه الواقع من إشكالات وتحولات. ركز الأنصاري على نقد الفكر الأصولي، محذرا من تأثير نزعة الترييف الأصولية في نشر التخلف وضرب الفكر المدني في كتابه “مساءلة الهزيمة: جديد العقل العربي بين صدمة 1967 ومنعطف الألفية”، قدم الأنصاري دراسة بارزة لتداعيات هزيمة 1967 على العقل العربي، ربط فيها التخلف الثقافي بالهزائم السياسية. اعتبر أن تلك المرحلة ولدت فكرا تحت الحصار، وجدت خلاله العقلانية العربية نفسها أسيرة ضغوط أيديولوجية واجتماعية يولدها الاحتلال الخارجي والنزعة الأصولية الداخلية. كتاب “العرب والسياسة: أين الخلل”، لاحق أصول الأزمات السياسية في العالم العربي وحللها ليخلص إلى نتائج مفادها أن غياب الديمقراطية والوعي السياسي أفضى إلى حالة من الشلل الفكري والسياسي. محمد جابر الأنصاري في كتاب “الفكر العربي وصراع الأضداد”، سلط الضوء على التناقضات الفكرية الحادة بين الأصولية والحداثة، وكشف كيف أدى غياب الحسم الفكري إلى إطالة أمد الأزمات. إلى جانب هذه الأعمال، ألّف الأنصاري مجموعة كبيرة من الكتب التي عالجت مسائل الفكر العربي والواقع العربي. في كتابه “تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي”، رصد التحولات الفكرية والسياسية بين عامي 1930 و1970. في “تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية”، حلل مفهوم الدولة القطرية وأهميتها في بناء الهوية السياسية العربية. أما كتاب “رؤية قرآنية للمتغيرات الدولية”، فقد طرح قراءة معاصرة للتحولات العالمية من منظور إسلامي. ركز الأنصاري على نقد الفكر الأصولي، محذرا من تأثير نزعة الترييف الأصولية في نشر التخلف وضرب الفكر المدني. أكد في أبرز خلاصات فكره أن التحديات التي تواجه العرب لا تؤدي بالضرورة إلى مصير حتمي ومغلق، لكنها تتطلب مراجعة شجاعة وحاسمة للبنى الفكرية والاجتماعية تفترض قيام إصلاحات تنموية لمعالجة الفقر والتهميش، والتركيز على بناء دولة مدنية حديثة. وصفه الشاعر غازي القصيبي بأنه كرة نار ملتهبة بالأفكار، في إشارة إلى شجاعته الفكرية والنقدية التي جعلته واحدا من أكثر المفكرين العرب تأثيرا في التاريخ الحديث. إلياس خوري: رواية المهمشين والمنسيين في الخامس عشر من سبتمبر/ أيلول 2024، رحل إلياس خوري عن عمر ناهز 76 عاما، تاركا خلفه إرثا أدبيا وفكريا استثنائيا. لم يكن خوري مجرد كاتب، بل كان راويا آلام الشعوب المهمشة، وناقلا حكايات المنسيين الذين لم ينصفهم التاريخ الرسمي. ولد في بيروت عام 1948، عام النكبة الفلسطينية، التي خلقت صدمة ثقافية وإنسانية أثرت بعمق في مجمل أعماله. من خلال رواياته، صاغ خوري من جديد العلاقة بين الفرد والتاريخ، معيدا الى الأدب دوره كأداة لتفكيك المأساة الإنسانية وإعادة بنائها. AFP / إلياس خوري شكلت الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) والنكبة الفلسطينية محوري الكتابة لديه. هذه الأحداث الكبرى حضرت في أعماله من خارج الخلفية الزمنية، وصنعت فضاء سرديا تتحرك فيه الشخصيات، وساحة تضيء على صراعات الهوية والذاكرة والتاريخ. في روايته “باب الشمس”، التي صدرت عام 1998، قدّم خوري حكاية النكبة الفلسطينية من خلال أصوات اللاجئين. استندت الرواية إلى شهادات حقيقية، مما جعلها وثيقة أدبية تروي معاناة الفلسطينيين في المنافي. اللاجئون في هذه الرواية ليسوا ضحايا فقط، بل حراس للذاكرة، وأبطال يحاولون استعادة ما سُلب منهم عبر السرد. هذه الأحداث الكبرى حضرت في أعماله من خارج الخلفية الزمنية، وصنعت فضاء سرديا تتحرك فيه الشخصيات رؤية خوري للكتابة كانت استثنائية، إذ كان يجد فيها مساحة لتفكيك السرديات الرسمية وإعادة تشكيلها. في “يالو”، تناول شخصية تعاني ذاكرة متشظية، حيث تختلط الحقائق بالأوهام. وفي “سينالكول” استخدم رمزية العناوين والشخصيات ليخلق عالما روائيا تتشابك فيه الأحلام والخيالات مع الواقع. الرواية لا تقدم إجابات نهائية عن هوية الشخصيات أو معناها، بل تترك القارئ في مواجهة مع أسئلة مفتوحة. هذه التقنية كانت جزءا من مشروعه لإعادة تعريف الأدب العربي، حيث يصبح النص مساحة للتأمل والتفكير، بعيدا من اليقينيات الجاهزة. إسماعيل كاداريه: التاريخ الملتبس والجغرافيا القلقة إسماعيل كاداريه، الكاتب الألباني الذي ودّع العالم في يوليو/ تموز 2024 عن عمر 88 عاما، كان واحدا من أعظم الأصوات الأدبية التي رصدت صراعات الإنسان مع الإمبراطوريات والديكتاتوريات. تجاوزت مسيرته الأدبية حدود الجغرافيا والسياسة، لترسم صورة متشابكة لعالم مضطرب، يقف فيه الفرد عاجزا أمام قوة التاريخ والجغرافيا. في أكثر من ثمانين عملا أدبيا مترجما إلى 45 لغة، تناول كاداريه الهشاشة البشرية وسط عالم يميل باستمرار نحو السيطرة والهيمنة. نشأ كاداريه في ظل نظام ديكتاتوري هيمن على ألبانيا بقبضة حديدية بقيادة أنور خوجا. لم تكن تلك الظروف مجرد خلفية سياسية لرواياته، بل كانت جوهر تجربته الشخصية والإبداعية. عرف كيف يستثمر النظام الذي حكمه ليجعل أعماله تعبر الحدود، ورغم ذلك لم يتوان عن فضح التناقضات الكبرى لهذا النظام. عاش حالة نادرة من الالتباس بين القرب من السلطة والابتعاد عنها، حيث استطاع تطويع أدوات القمع ليكتب أدبا يعادي القمع في جوهره. عكست أعمال كاداريه رؤية أدبية تجمع بين الرمزية والواقعية، إذ استخدم الصور الجغرافية والاستعارات المفاهيمية ليبني عالما مائلا وغير متوازن عكست أعمال كاداريه رؤية أدبية تجمع بين الرمزية والواقعية، إذ استخدم الصور الجغرافية والاستعارات المفاهيمية ليبني عالما مائلا وغير متوازن. في رواية “مدينة الحجر”، تحدث عن مدينة لا تخضع لقوانين العمارة التقليدية، حيث ينحدر البشر على سطوحها ويتعثرون في طرقاتها. هذه المدينة لم تكن سوى استعارة للعالم الذي يعيش فيه البشر دون ثبات، حيث لا معنى للأمان أو الاتزان. تجسد المدن في رواياته مزيجا من الأحلام المبعثرة والأسرار المختبئة، فهي ليست أماكن مادية بقدر ما هي تجسيد روحي لصراعات الإنسان مع ذاته ومحيطه. AFP / إسماعيل كاداريه كانت ألبانيا بالنسبة الى كاداريه أكثر من وطن. حملت في أدبه رمزية خاصة، باعتبارها هامشا يواجه مركزا إمبراطوريا يفرض تعريفاته على العالم. سعى كاداريه إلى تأكيد انتماء ألبانيا الى أوروبا، محاولا أن يجعل من أدبه جسرا بين الثقافات. لكن ذلك الجسر لم يكن خاليا من العوائق، فقد بقيت ألبانيا تعاني تصنيفات تقلل هويتها الأوروبية، معتبرة إياها امتدادا للتاريخ العثماني. هذا الصراع الهوياتي كان حاضرا في معظم رواياته، حيث عبّر عن قلق الإنسان الألباني وهو يطالب بالاعتراف، في عالم يرفضه. إرث كاداريه الأدبي لا يمكن اختزاله في تصنيف واحد. كان شاعرا وروائيا في آن، جمع بين السوريالية والواقعية، واستخدم التاريخ والأساطير ليبني عالما أدبيا فريدا. في روايته “قصر الأحلام”، صور سلطة تسعى الى السيطرة على أحلام البشر، لتكشف هشاشتها من خلال محاولاتها اليائسة لفهم ما يهددها. هذه الرمزية امتدت إلى روايات أخرى مثل “جنرال الجيش الميت”، حيث يتحول البحث عن جثث الجنود إلى رحلة لاكتشاف تاريخ العار والاستعمار. بول أوستر: العزلة والمصائر المفتوحة رحل الكاتب الأميركي بول أوستر عن عالمنا في 30 أبريل/نيسان 2024، تاركا وراءه إرثا أدبيا وفنيا يتجاوز حدود الزمان والمكان. أوستر، الذي وافته المنية عن عمر 77 عاما بعد معركة مع السرطان شُخّصت في عام 2022، كان فيلسوفا ومفكرا تجلى في أعماله شغف الغوص على تعقيدات الوجود الإنساني. يمثل أوستر واحدا من آخر الأصوات الكبرى التي حملت الأدب الأميركي إلى مستويات تتجاوز الجغرافيا والثقافة المحلية. مسيرته الإبداعية التي أثمرت 34 عملا تُرجمت إلى أكثر من 40 لغة، جعلته أيقونة أدبية عالمية. من خلال روايات مثل “ثلاثية نيويورك” و”اختراع العزلة”، رسخ مكانته ككاتب يتحدى التصنيفات. يمثل أوستر واحدا من آخر الأصوات الكبرى التي حملت الأدب الأميركي إلى مستويات تتجاوز الجغرافيا والثقافة المحلية أعمال أوستر ترفض الحتميات. أبطاله لا يسلكون طرقا تؤدي إلى نهايات واضحة، بل يتيهون في متاهات من الخيارات المفتوحة، في حياة يغلب عليها التشظي وانعدام التمركز. في “ثلاثية نيويورك”، التي تُعتبر من أبرز أعماله، تبدو الحبكة ظاهريا بوليسية، لكنها سرعان ما تخرج عن إطارها التقليدي لتغرق في الرمزية والعزلة. أبطال الرواية يلاحقون الآخرين، لكنهم يجدون أنفسهم محاصرين داخل حياة مَن يراقبونهم، يفقدون ذواتهم ويصبحون انعكاسا لشخصياتهم الملاحَقة. AFP / بول أوستر هذا التوجه السردي ليس عبثيا. بل هو انعكاس لرؤية أوستر للحياة، كحالة من اللايقين والاحتمالات غير المتناهية. امتد تأثير أوستر إلى السينما، حيث جلب رؤاه الأدبية إلى الشاشة الكبيرة. أخرج وكتب سيناريوهات لأفلام مثل “دخان” و”لولو على الجسر”، حيث تتكرر الثيمات التي تميز رواياته: الحزن، الفقد، الخيارات المستحيلة، والبحث عن معنى في عالم يفتقد الثبات. في فيلم “الحياة الداخلية لمارتن فروست”، الذي صدر عام 2007، تناول العلاقة المعقدة بين الكاتب وحكايته، وكيف يشكل كل منهما الآخر. في كتابه “اختراع العزلة”، الذي يعتبر أحد أكثر أعماله عمقا وشخصية، عالج أوستر تجربته مع وفاة والده، كاشفا عن نظرته الى العزلة كحالة وجودية شاملة. يرى أوستر أن العزلة ليست مجرد اختيار أو ظرف طارئ، بل هي جوهر الحياة المعاصرة. لطالما كان بول أوستر سابقا لزمنه. رواياته، مثل “ثلاثية نيويورك” و”1234″، استبقت الكثير من أمراض العصر الحديث. في زمن ما قبل وسائل التواصل الاجتماعي، تحدث أوستر عن المراقبة والعزلة كجزء لا يتجزأ من حياة الإنسان المعاصر. وفي روايته الأخيرة “1234”، التي تجاوزت صفحاتها 800، استعرض حياة شخصية واحدة من زوايا متعددة، مستكشفا كيف تؤدي خياراتنا البسيطة إلى تشكيل مصائر متناقضة. أليس مونرو: سحر المآسي اليومية أليس مونرو، الكاتبة الكندية التي منحت فن القصة القصيرة بعدا جديدا، أمضت مسيرتها في استكشاف الأعماق الإنسانية من خلال تصوير التفاصيل اليومية والتجارب البسيطة التي تشكل نسيج الحياة. ولدت في العاشر من يوليو عام 1931 في مقاطعة أونتاريو الكندية وتوفيت في 13 مايو/ أيار 2024، وكانت كرست مشوارها الأدبي لتطوير القصة القصيرة كفن قادر على مواجهة تعقيدات الحياة البشرية، وقد توج عملها بنيلها جائزة نوبل للآداب عام 2013. يصفها البعض بأنها “تشيخوف العصر” لقدرتها على التقاط مكونات الحياة الريفية والإنسانية في نصوص غنية بالتفاصيل والأفكار مونرو لم تكن فقط أول كندية تفوز بجائزة نوبل، بل أيضا أول من جعل القصة القصيرة تصل إلى هذا التكريم بعد غياب استمر 112 عاما. عند إعلان الجائزة، وصفت الأكاديمية السويدية أعمالها بأنها “تمنح دقة وحكمة وعمقا لكل قصة، وتجعل من قراءة أعمالها تجربة تعلمنا شيئا جديدا في كل مرة”. رغم موهبتها القصصية، ظلت مونرو تحلم بكتابة رواية طويلة، لكنها لم تستطع تحقيق هذا الحلم. في مقابلة معها، أوضحت أنها حاولت مرات عدة الدخول إلى عالم الرواية، لكنها واجهت صعوبات كبيرة، أبرزها انشغالها كأم لثلاث فتيات، مما جعل الكتابة تطفلا على واجباتها الأسرية. قالت مونرو: “لم أكن أملك الوقت للتفكير في ما يحتاجه الآخرون. كانت الكتابة بالنسبة لي معجزة إن استطعت إنجاز شيء ما”. AFP /أليس مونرو أولى مجموعاتها القصصية، “رقصة الظلال السعيدة”، التي صدرت عام 1968، وضعتها على خريطة الأدب الكندي بحصولها على جائزة الحاكم العام، أرفع الجوائز الأدبية الكندية. قصص مونرو تدور دائما في المدن الصغيرة في كندا، حيث تتشابك العلاقات الإنسانية مع الأزمات الأخلاقية، وتتصارع الأجيال مع مشاريع حياتية متناقضة. أبطالها هم غالبا نساء يعشن حياة عادية في ظاهرها، لكنهن يواجهن محنا عميقة مثل التحرش أو الفقد أو متاعب الشيخوخة. ما يميز كتابتها، أنها تأخذ تلك التفاصيل اليومية التي تبدو بسيطة، وتمنحها عمقا يجعلها قادرة على معالجة مسائل وجودية كبرى. ابتكرت مونرو أسلوبا سرديا غير خطي يقفز بين الحاضر والماضي والمستقبل، كانت تصف هذا الأسلوب بأنه “طبيعي”، لكنه لم يكن يأتي بسهولة، إذ كانت تخضع كتاباتها لعملية تنقيح مكثفة لالتقاط دقة الحياة وتعقيدها. يصفها البعض بأنها “تشيخوف العصر” لقدرتها على التقاط مكونات الحياة الريفية والإنسانية في نصوص غنية بالتفاصيل والأفكار. حينما سُئلت عن الأثر الذي تود تركه لدى قرائها، قالت ببساطة “أريد للناس أن يستمتعوا بقراءة كتبي، وأن يشعروا أنها مرتبطة بحياتهم بشكل أو بآخر”. بدر بن عبد المحسن: شاعر الخيال المتجدد بدر بن عبد المحسن بن عبد العزيز، شاعر التفاصيل، غادر عالمنا في 4 مايو/أيار 2024 عن عمر 75 عاما، تاركا وراءه إرثا شعريا حفر اسمه في قلب الثقافة السعودية والعربية. لم يكن بدر مجرد شاعر يكتب القصيدة العامية، بل كان مهندسا ساهم في صياغة شكل جديد للأغنية السعودية من خلال بنية تركيبية لغوية تجمع بين الحنين والحب والفخر، وتلامس القضايا الوطنية والاجتماعية. وُلد بدر في الرياض في 2 أبريل/ نيسان 1949، في بيتٍ تنبض فيه أصداء الأدب والثقافة. كان والده، الأمير عبد المحسن بن عبد العزيز، شاعرا محبا للأدب وصاحب مكتبة غنية. تأثرت نشأة بدر بهذا المناخ الثقافي، كما تأثرت بوالدته الأميرة وضحى الحمود آل رشيد التي كتبت القصص، مما أتاح له منذ طفولته التعرف إلى عوالم رحبة من الفنون. أمضى بدر مراحل تعليمه في السعودية ومصر وبريطانيا والولايات المتحدة، وهو ما ساهم في تشكيل رؤيته الإبداعية وفتح أمامه آفاقا جديدة للتعبير الشعري. على مدار نصف قرن، ساهم بدر في تطوير الأغنية السعودية بشكل غير مسبوق، وأصبح اسمه مرتبطا بأبرز الأصوات في العالم العربي بدأ بدر كتابة الشعر في سن مبكرة، وفي البداية كان متأثرا بتجارب الكبار من شعراء الجزيرة العربية، لكن سرعان ما طور أسلوبه الخاص، ليصبح أحد رواد الحداثة في القصيدة المحكية. تميزت قصائده بتفردها، حيث اعتمد على خيال خصب وصور بصرية مبتكرة. التقط تفاصيل الحياة الصغيرة برؤية شاعر يتجاوز الواقع ليخلق عوالم جديدة، كما في قوله: “يطيح جفن الليل واهز كتفه”. على مدار نصف قرن، ساهم بدر في تطوير الأغنية السعودية بشكل غير مسبوق، وأصبح اسمه مرتبطا بأبرز الأصوات في العالم العربي. مع طلال مداح، أحد أعمدة الأغنية السعودية، كتب أغنيات خالدة مثل “زمان الصمت” و”مقادير”، التي أسست لمرحلة جديدة في الذائقة الغنائية السعودية. تعاونه مع محمد عبده أفرز أعمالا استثنائية مثل “أبعاد” و”البرواز”. بدر بن عبد المحسن تجاوزت كلمات بدر الحدود الجغرافية للسعودية. غنى له كاظم الساهر، المطرب العراقي الشهير، أغنيات مثل “يا عيون”، التي حملت بصمته الخاصة في المزج بين العاطفة والخيال. مع راشد الماجد، قدم أغنيات ذات بعد شعبي وعاطفي عميق مثل “المسافر”، بينما أضفى عبد المجيد عبد الله بصوته العذب عمقا على كلماته في أغنيات مثل “يا طيب القلب”. عبادي الجوهر وعبد الله الرويشد وغيرهما من نجوم الغناء العربي قدموا كلماته بأساليب مختلفة، مما وسّع دائرة تأثيره في المشهد الفني العربي. لم يكن تأثير بدر مقتصرا على الأغنية العاطفية فقط؛ بل كان له دور بارز في الأغاني الوطنية. في أوبريت “وقفة حق”، التي كتبها إبان تحرير الكويت، قدم ملحمة شعرية وطنية تتحدث عن الصمود والتضحية. أما في أوبريت “فارس التوحيد”، التي كتبها لمناسبة مرور مئة عام على تأسيس المملكة، فقد أعاد سرد تاريخ السعودية بأسلوب شعري ملحمي مزج بين الحماسة الوطنية والعمق الإبداعي. شوقي أبي شقرا: لغة جديدة في العاشر من اكتوبر/ تشرين الأول 2024، غادر شوقي أبي شقرا عالمنا عن عمر 89 عاما، تاركا خلفه إرثا شعريا وثقافيا لا يشبه إلا ذاته. كان شاعرا أعاد تشكيل اللغة العربية لتصبح مساحة للدهشة والانفلات من القيود التقليدية. بفضل لغته التي أضاءت العادي والمألوف ومنحته بعدا جديدا، أصبح أبي شقرا رمزا للحداثة الشعرية وصوتا مؤسسا لقصيدة النثر العربية. شوقي أبي شقرا ولد أبي شقرا في عام 1935، وشهدت طفولته المبكرة تجربة مؤلمة بفقدان والده العسكري في حادث سير عندما كان في العاشرة من عمره. هذا الحدث شكل نقطة مفصلية في حياته، حيث غرس في وعيه فكرة السقوط والارتطام التي تحولت لاحقا إلى بنية أساسية في شعره. بدأت مسيرته الشعرية مع ديوانه الأول “أكياس الفقراء” الصادر عام 1959، وهو عمل أحدث صدمة في المشهد الشعري آنذاك. كان الديوان بداية لتحول كبير في مسار الشعر العربي، حيث حمل ملامح قصيدة النثر التي تبناها أبي شقرا لاحقا كمشروع شعري متكامل. قصائد مثل “المضحك العجوز” في هذا الديوان تظهر قدرة الشاعر على التلاعب بالمفارقات والصور، حيث يخلق عوالم تبدو مألوفة لكنها تنطوي على عمق رمزي يفتح أفق التأويل. قصيدة النثر عنده لم تكن تقليدا أو ترجمة لتأثيرات خارجية، بل اختراعا ذاتيا نابعا من تجربته لم تكن لغة أبي شقرا مجرد أداة لنقل المعاني، بل كانت كيانا قائما بذاته. قصيدة النثر عنده لم تكن تقليدا أو ترجمة لتأثيرات خارجية، بل اختراعا ذاتيا نابعا من تجربته الحياتية والثقافية. ديوانه “ماء إلى حصان العائلة” الصادر عام 1962 والحائز “جائزة مجلة شعر”، أكد مكانته كأحد رواد قصيدة النثر. هذه القصائد جمعت بين السرديات الريفية والبنية السوريالية الترابية، حيث نجح في ربط الخيال بالواقع بطريقة لم تكن مألوفة في الشعر العربي. كان أبي شقرا يؤمن بأن الشكل الشعري هو حامل التجربة الشعرية، وبأن البنية الشكلية هي ما يمنح النص قوته ودلالته. خلال عمله كمحرر ثقافي في صحيفة “النهار” اللبنانية لمدة 35 عاما، ساهم في اعادة صياغة النصوص وتجويدها، مما جعله شريكا غير معلن في تشكيل المشهد الشعري العربي الحديث. تعديلات أبي شقرا طالت أعمالا شعرية مهمة مثل “أنشودة المطر” لبدر شاكر السياب، مما يعكس فهمه العميق لدور الشكل في بناء التجربة الأدبية. ديوانه الأخير “أنت والأنملة تداعبان خصورهن” الصادر عام 2022 يمثل خلاصة مسيرته الشعرية، حيث نجد التكثيف العالي والتوازن بين العفوية والعمق. هذه القصائد تعكس مشروعه الشعري الذي لم ينقطع عن جذوره لكنه ظل يتطور ويتجدد مع كل نص جديد. إضافة إلى دوره كشاعر، كان أبي شقرا جزءا أساسيا من المشهد الثقافي العربي الحديث. ساهم في تأسيس مجلة “شعر” التي كانت منصة لرواد الحداثة الشعرية، وترك بصمة لا تمحى من خلال دوره كمحرر ثقافي وكاتب وصانع ثقافة. زاهر الغافري: شاعر الترحال زاهر الغافري، الذي رحل في الحادي والعشرين من سبتمبر/أيلول 2024، كان أحد أبرز شعراء قصيدة النثر في الخليج العربي وصوتا شعريا يمتلك خصوصية لافتة في مشهد الحداثة الشعرية العربية. وُلد عام 1956 في قرية سرور بسلطنة عمان، حيث تشكلت طفولته بين حكايات البحر ورحلات والده التاجر إلى الهند والبصرة. هذه النشأة منحت الغافري أفقا مفتوحا على الترحال والتأمل، مما انعكس في نص شعري يجمع بين الحميمي والكوني. زاهر الغافري بدأ الغافري رحلته الأدبية في بغداد، حيث تأثر بشعراء مثل بدر شاكر السياب وسعدي يوسف. لكنه سرعان ما تخلى عن الوزن الشعري التقليدي وانحاز إلى قصيدة النثر كاختيار جمالي وفكري. كان انتقاله إلى بغداد بداية تجربة حياة مترحلة قادته إلى المغرب، حيث درس الفلسفة في جامعة محمد الخامس وعاش في طنجة، ثم إلى باريس ونيويورك وأخيرا السويد. هذه المدن لم تكن مجرد محطات عبور، بل مختبرات لصقل رؤيته الشعرية. كان الترحال بالنسبة اليه حالة وجودية يمكن تلمس أصدائها في قصائده التي أصبحت أكثر انفتاحا على العالم. تميز شعر زاهر الغافري بأنه جزء من تيار الحداثة الثانية الذي ظهر في أواخر سبعينات القرن الماضي. هذا التيار انحاز إلى اللغة اليومية المتحررة من البلاغة والصراخ، وشكل منطلقا لقصيدة تقارب التجربة الحياتية الواقعية بصدق وشفافية. انحاز إلى اللغة اليومية المتحررة من البلاغة والصراخ، وشكل منطلقا لقصيدة تقارب التجربة الحياتية في مجموعته الأولى “أظلاف بيضاء” (1983)، كان ميالا إلى كسر القواعد التقليدية وإعادة تشكيلها بطريقة مبتكرة. في دواوينه اللاحقة مثل “عزلة تفيض عن الليل” (1993) و”أزهار في بئر” (2000)، كتب قصائد تقارب مواضيع الزمن والذاكرة والترحال. في إحداها: “في بلد بعيد/ أسمع مرثية عن نفسي/ كأنما القدر يعود إلى الوراء/ إلى أرض العواصف”. اختار قصيدة النثر كمساحة للتجريب والتحرر، معبرا عن روح التمرد على الأشكال التقليدية والانغلاق على أي قالب ثابت. في سنواته الأخيرة، خاض الغافري معركة طويلة مع المرض، تضمنت عملية زراعة كبد. ورغم ذلك، ظل متمسكا بشغفه بالحياة والشعر. اختار السويد لتكون محطته الأخيرة، حيث وجد هدوءا يناسب روحه القلقة الهائمة. قبل أيام من وفاته، كتب على صفحته في “فيسبوك” ما يشي بخيانة، لكنه بقي وفيا للكتابة كملاذ أخير. قيس الزبيدي: عراب الأفلام التسجيلية في الأول من ديسمبر/ كانون الأول 2024، رحل قيس الزبيدي، المخرج والكاتب العراقي الذي شكّل علامة فارقة في تاريخ السينما العربية. بموته عن عمر ناهز 85 عاما، انتهت حياة امتدت بين بغداد وبرلين. قيس الزبيدي وُلد الزبيدي في بغداد عام 1939، وبدأ اهتمامه بالسينما حينما درس المونتاج في معهد بابلسبيرغ السينمائي في ألمانيا، حيث حصل على دبلوم في المونتاج عام 1964 ثم دبلوم في التصوير عام 1969. هذا التكوين الأكاديمي كان بوابة لصقل رؤيته السينمائية التي جعلت المونتاج بالنسبة إليه بمثابة فلسفة لبناء المعاني وترتيبها. قدم الزبيدي أكثر من 12 فيلما وثائقيا، من أبرزها “بعيدا عن الوطن” (1969)، و”وطن الأسلاك الشائكة” (1980)، و”فلسطين سجل شعب” (1984). هذه الأفلام قدمت توثيقا بصريا وإنسانيا للقضية الفلسطينية، حيث استخدم الكاميرا كوسيلة لنقل شعور الصمود والألم معا. في فيلمه الأول “بعيدا عن الوطن”، جسّد معاناة المخيمات الفلسطينية بلغة بصرية شفافة وحميمية، حيث رفع الكاميرا إلى مستوى عيون الأطفال، لتقترب من تفاصيل حياتهم اليومية وآلامهم وآمالهم. كما شكل فيلمه الروائي “اليازرلي” (1974)، المقتبس عن قصة قصيرة لحنا مينة علامة فارقة في مسيرته. قدم توثيقا بصريا وإنسانيا للقضية الفلسطينية، حيث استخدم الكاميرا كوسيلة لنقل شعور الصمود والألم معا أسس “الأرشيف السينمائي الوطني الفلسطيني” بالتعاون مع الأرشيف الاتحادي في برلين، حيث وثّق تاريخ السينما الفلسطينية كجزء من النضال الثقافي. كتاباته النقدية والأكاديمية مثل “فلسطين في السينما” (2006) و”الفيلم التسجيلي: واقعية بلا ضفاف” (2017)، شكلت مراجع أساسية لفهم العلاقة بين السينما والسياسة. فيلمه “واهب الحرية” (1987)، الذي أعيد عرضه أخيرا في نسخة مرممة، قدم شهادة على نضال المقاومة الفلسطينية واللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي. صفية بن زقر: أيقونة الفن التشكيلي السعودي وُلدت صفية بن زقر عام 1940، وغادرتنا في 12 سبتمبر/أيلول 2024، في حارة الشام بجدة القديمة، حيث شكلت المدينة العتيقة ذاكرة بصرية وروحية أثرت على أعمالها طيلة حياتها. في طفولتها، التقطت تفاصيل الحياة اليومية، واستلهمت من أزقة جدة وبيوتها الحجرية وشبابيكها المزخرفة رؤيتها الفنية التي لازمتها طوال حياتها. انتقالها إلى القاهرة عام 1947 مع عائلتها ساهم في تعميق ارتباطها بالتراث الذي سيصبح محور إبداعها. أكملت بن زقر تعليمها المدرسي في القاهرة، ثم التحقت بمدرسة “فنشنك” في بريطانيا قبل أن تنضم إلى “كلية سانت مارتن للفنون” في لندن، حيث درست الرسم والغرافيك. هذه التجربة صقلت أدواتها الفنية، من دون أن تفقدها صلتها بأصولها. عندما عادت إلى جدة عام 1963، وجدت مدينتها تحيا حالة تغيير متسارع فقررت أن تجعل من الفن وسيلتها لاستعادة الزمن المتلاشي وتوثيق تراث المدينة. صفية بن زقر في عام 1968، أقامت بن زقر أول معرض شخصي لها في مدرسة دار التربية الحديثة بجدة. في زمن كانت فيه صالات العرض شبه معدومة، أظهرت شجاعة وإصرارا على تنظيمه بنفسها، فحقق نجاحا كبيرا، مما مهد الطريق لعشرات المعارض المحلية والدولية. عرضت أعمالها في الرياض وجدة والظهران وأبها، كما شاركت بمعارض في باريس وجنيف ولندن، حيث لفتت الأنظار إلى التراث السعودي من خلال لوحاتها التي وثقت تفاصيل الحياة اليومية. من بين أعمالها الشهيرة، تعد لوحة “الزبون” واحدة من الأهم في مسيرتها، تصور امرأة ترتدي الزي الحجازي التقليدي، فأصبحت أحد أبرز رموز التراث الثقافي الحجازي. رسمتها صفية أربع مرات، محاولة الوصول إلى الكمال في تصوير وجه امرأة تجمع بين الهيبة والتواضع. إلى جانب “الزبون”، برزت لوحاتها التي توثق الرقصات الشعبية في المملكة، والتي عملت عليها كجدارية بطول 12 مترا مستوحية من جدارية “كنيسة سيستينا” لميكال أنجلو. أعمالها التي استلهمت التراث ليست تقليدا جامدا، بل إعادة صياغة تنبض بالمشاعر والحياة إلى جانب معارضها وجوائزها، أسست “دارة صفية بن زقر” عام 1995، فكانت مركزا ثقافيا يحتضن مرسمها ومكتبتها ومقتنياتها الفنية. من خلال الدارة، نظمت ورش عمل ومسابقات فنية للأطفال والنشء، مثل مسابقات “السنبوك” و”القنديل” و”الشربة”، التي شجعت الأجيال الشابة على التفاعل مع التراث. أصدرت صفية بن زقر كتابين رئيسين، “المملكة العربية السعودية: نظرة فنانة إلى الماضي” و”رحلة عقود ثلاثة مع التراث السعودي”، اللذين يوثقان تراث المملكة من منظورها الفني. كما عملت لعشر سنوات على كتابها الأخير “درزة”، الذي يوثق الأزياء السعودية بكل تفاصيلها الدقيقة، وصدر بثلاث لغات (العربية والإنكليزية والفرنسية). بفضل جهودها، أصبح للفن النسائي حضور قوي في المشهد التشكيلي السعودي. أعمالها التي استلهمت التراث ليست تقليدا جامدا، بل إعادة صياغة تنبض بالمشاعر والحياة. أسلوبها الذي يمزج بين الواقعية والخيال جعل منها رمزا لحداثة موصولة بجذورها. حسين ماضي: البحث عن الأصل في 17 يناير/كانون الثاني 2024، غادر عالمنا الفنان اللبناني حسين ماضي عن عمر ناهز 86 عاما، تاركا إرثا فنيا نادرا استمد عناصره من طبيعة قريته شبعا في جنوب لبنان ورحلاته مع جده التي منحته علاقة خاصة بالطبيعة. هذه العلاقة لم تكن مجرد ارتباط بالمكان، بل أسست لفلسفة إبداعية ترتكز على أن الفن حركة اكتشاف لما تضمره الطبيعة من أبعاد وأنماط وعلاقات. ماضي، الذي آمن بأن الفنان لا يخلق بل يكتشف، امضى حياته في إعادة تشكيل ما تبوح به الطبيعة وفق رؤية فريدة تجمع بين البساطة والتعقيد. حسين ماضي نشأته في بيئة غنية بالألوان والقسوة الطبيعية، شكلت أساسا لتجربته الفنية التي بقيت وفية لتلك اللحظات الأولى من الدهشة. درس الفنون في الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة بين 1958 و1962 قبل أن ينتقل إلى روما حيث عاش لعقدين، انفتح خلالها على تجارب فنية وتقنيات متنوعة في الرسم والنحت والفريسك والموزاييك والغرافيك، وأجرى أبحاثا مستفيضة حول التراث الثقافي العربي والإسلامي والحضارات الشرقية القديمة. هذه الفترة صقلت أدواته الفنية ومكّنته من إدخال بعد عالمي في أعماله، دون أن تفقد جوهرها المحلي والشرقي. عاد إلى بيروت في أواخر الثمانينات ليواصل مسيرته التي أغنت المشهد الفني اللبناني والعربي. تأثره بفنانين عالميين مثل بيكاسو وماتيس لم يكن استسلاما لتقليدهم، بل كان عملية صهر لعناصر متعددة في بوتقة شرقية عربية محلية تتداخل فيها الشكلانية مع القيم الجمالية، لكن دون انفصال عن الجذور الطبيعية والروحية التي استمد منها رؤيته. هذه الخصوصية جعلت أعماله تحظى بتقدير عالمي، حيث عُرضت في متاحف كبرى مثل المتحف البريطاني في لندن، ومتحف أينو الملكي في طوكيو، ومتحف سرسق في بيروت. أسس لفلسفة إبداعية ترتكز على أن الفن حركة اكتشاف لما تضمره الطبيعة من أبعاد وأنماط وعلاقات تعامل ماضي مع الطبيعة كمرجع دائم، لكنه لم يكن يكتفي بتسجيلها، بل يعيد اكتشافها عبر عملية فنية شاقة تنطوي على الصبر والجهد والتعلم المتواصل. بالنسبة إليه، الطبيعة ليست عشوائية كما تبدو، بل هي نظام دقيق من الأنماط والتراكيب التي تحتاج إلى استكشاف متجدد. هذه الرؤية انعكست في أعماله التي تتسم بالتكرار غير الممل، حيث كان يعيد تشكيل عناصره الأساسية بطرق مبتكرة تحافظ على روح الأصل وتضيف أبعادا جديدة. حلمي التوني: ذاكرة الفن المصري برحيل الفنان التشكيلي حلمي التوني في سبتمبر/أيلول 2024، فقدت مصر والعالم العربي أحد أبرز رواد الفن التشكيلي الذي امتد أثره ليشكل وجدان أجيال متعددة. التوني، المولود في بني سويف عام 1934، بدأ رحلته الفنية منذ شبابه، مؤمنا بأن الفن وسيلة لحفظ الهوية وإبراز القيم الثقافية المصرية. بأسلوبه الذي يجمع بين التراث والحداثة، قدم التوني مشروعا مميزا جعل أعماله بمثابة تمثيل جمالي لروح المجتمع المصري وخصوصيته. تميز التوني بمسيرة فنية متعددة الأوجه. بدأ بالتصوير الزيتي والديكور المسرحي، حيث درس في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة وتخرج عام 1958. عمل رساما صحافيا في مؤسسة “دار الهلال”، قبل أن يصبح المدير الفني لها. خلال هذه الفترة، قدم أكثر من أربعة آلاف غلاف كتاب، منها غلف لأعمال أدبية كبرى، أبرزها رواياتل نجيب محفوظ. كانت أول تجربة له مع محفوظ في غلاف “زقاق المدق”، حيث نجح في تقديم رؤية بصرية مميزة. facebook / حلمي التوني إلى جانب غلف الكتب، قدم التوني مئات اللوحات التي استلهم فيها التراث الشعبي المصري، معبرا عن مفردات الحياة اليومية بأسلوب يدمج الرموز الشعبية مع خيال بصري خصب. اهتم في أعماله بالمرأة المصرية، فظهرت كرمز للحب والخصوبة والقوة، في إحالات تستحضر شخصيات تاريخية مثل المرأة الفرعونية. استخدم رموزا مثل السمك والسيف والورد للتعبير عن شبكة عريضة من المواضيع، مما جعل لوحاته غنية بالبنى الرمزية. استلهم التراث الشعبي المصري، معبرا عن مفردات الحياة اليومية بأسلوب يدمج الرموز الشعبية مع خيال بصري خصب امتدت تجربته الثرية إلى رسومات الأطفال وتصميم الكتب والمجلات. شارك برسوماته في مجلات مثل “سمير” و”ميكي”، وعمل مخرجا صحافيا لمجلة “المسرح والسينما”. كما قدم أعمالا في مسرح العرائس”” مع صلاح السقا. أقام التوني العديد من المعارض المحلية والدولية. من أبرزها معرض “يحيا الحب”، الذي أقيم في غاليري “بيكاسو” بالقاهرة في مارس/ آذار 2024، ومعارض أخرى في بيروت وجنيف ولندن. تقتني متاحف كبرى لوحاته، أبرزها متحف الفن المصري الحديث بالقاهرة. فتحي غبن: الهوية الفلسطينية ولد الفنان التشكيلي الفلسطيني فتحي غبن في قرية هربيا شمال قطاع غزة عام 1947، ليشهد مع عائلته تهجيرا قسريا إثر نكبة 1948، ويجد نفسه طفلا يكبر بين أزقة مخيم جباليا. من خيمة اللجوء الأولى إلى خيمة أخرى كانت شاهدة على وفاته، عاش غبن حياة تجسد النكبة الفلسطينية بكل معانيها، وجعل فنه وسيلة لمقاومة الطمس وإحياء الهوية. فتحي غبن رغم قسوة الظروف وحرمانه من التعليم الأكاديمي الكامل، اكتشف غبن موهبته الفنية في سن مبكرة، مستخدما الفحم للرسم على جدران المخيم. موهبته التي نشأت وسط الفقر والمعاناة، سرعان ما تطورت، مستمدة الإلهام من السينما والطبيعة المحيطة به. لم تكن البداية سهلة، فقد اعتمد على الرسم التجاري لتأمين لقمة العيش، ولكنه سرعان ما تحول إلى فنان فطري يصقل موهبته بالتجربة الذاتية والشغف. ارتبطت لوحات غبن بتفاصيل الحياة الفلسطينية، حيث صوّر المخيم والقرية والوجوه التي تعكس معاناة اللاجئين ارتبطت لوحات غبن بتفاصيل الحياة الفلسطينية، حيث صوّر المخيم والقرية والوجوه التي تعكس معاناة اللاجئين. في عام 1978، أطلق لوحته الأولى “مأساة فلسطين”، التي وثقت مشهدا مروّعا من احتلال غزة عام 1967، حيث صوّر طفلا يرضع من والدته التي استشهدت تحت الأنقاض. كانت هذه اللوحة فاتحة سلسلة من أعمال جعلته عرضة للتحقيق والاعتقال على يد قوات احتلال وجد في فنه تحريضا على المواجهة. لوحة “الهوية” التي رسمها عام 1983 رسخت رمزية أدوات المقاومة الشعبية مثل المقلاع والكوفية، واعتبرت لاحقا بمثابة نبوءة سبقت انتفاضة الحجارة التي اندلعت بعد سنوات قليلة. حصل غبن خلال حياته على العديد من الجوائز والتكريمات، منها وسام الثقافة والعلوم والفنون من الرئاسة الفلسطينية، ووسام هيروشيما، ووسام اتحاد الجمعيات العالمي بطوكيو. كما حصل على لقب “فنان فلسطين” عام 1993، وجائزة بيت الصحافة التقديرية الفلسطينية عام 2023. هذه الجوائز جاءت تتويجا لمسيرته الفنية التي امتدت لعقود، حيث شارك في مئات المعارض العربية والدولية، وكان أحد مؤسسي جمعية التشكيليين الفلسطينيين. مأساة غبن لم تكن فقط في الاحتلال، بل في الحصار الذي منعه من تلقي العلاج خارج غزة. في أواخر أيامه، ظهر في مقطع فيديو يطلب فقط أنفاسا ليعيش، قائلا: “بدي أتنفس”. ورغم قيام حملة تضامن محلية ودولية لإنقاذه، بقي محاصرا في غزة حتى وفاته في فبراير/ شباط 2024. رك المزيد عن:القضية الفلسطينية الرواية العربية فن تشكيلي الشعر النثر نوبل للآداب فيلم وثائقي قصة فكر حصاد 2024 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post مغامر سعودي يحقق “إنجازا تاريخيا” في صحراء الربع الخالي next post أفضل 15 فيلما لعام 2024 You may also like تولستوي الصغير يكتب روايته بعيدا من الأرض الروسية 2 يناير، 2025 مأساة أميركا الخفية: سجناء أبرياء وعدالة مشوهة 2 يناير، 2025 أي علم اجتماع عربي بعد ابن خلدون؟ 1 يناير، 2025 كالديرون الكاتب والقسيس الإسباني النهضوي يحير جمهوره 1 يناير، 2025 استعادة تفكير الفيلسوفة هانا أرندت في ما يحدث... 1 يناير، 2025 حقوق الملكية الفكرية تسقط عن أعمال فوكنر وهمنغواي... 1 يناير، 2025 ميكائيل أنجلو أمل رفض شروطه لرسم سقف كاتدرائية... 1 يناير، 2025 أسواق 2024: الكتب الأكثر مبيعاً… الخاسرون والرابحون 1 يناير، 2025 محمود الزيباوي يكتب عن: قطع أثرية يونانية من... 1 يناير، 2025 مئات المسارح والمتاحف تواجه خطر الإغلاق في بريطانيا 30 ديسمبر، 2024