ثقافة و فنون شاعرية وأنانية وتحليل نفسي لدى دوستويفسكي قبل سنوات من النهاية by admin 12 يونيو، 2023 written by admin 12 يونيو، 2023 185 رواية “المراهق”: سبر معمق وأخير للنفس البشرية على ضوء سلافيتها المقلقة اندبندنت عربية \ إبراهيم العريس باحث وكاتب “لقد فرغ صبري، لذلك هأنذا آخذ بكتابة قصة خطواتي الأولى في طريق الحياة. وكان يمكنني مع هذا أن أستغني عن ذلك. إن هناك شيئاً محققاً لا ريب فيه، هو أنني لن أكتب سيرة حياتي عن غير هذه الفترة، ولو قدر لي أن أعيش 100 سنة. لا بد أن يكون المرء حقيراً في شدة افتتانه بنفسه حتى يتحدث عنها بغير خجل ولا حياء”. على هذا النحو يبدأ دوستويفسكي صفحات روايته قبل الأخيرة “المراهق” التي، حتى وإن كان يمكن القول إنها أقل رواياته الكبيرة شهرة، إذ إنها لا تضاهي مقارنة، لا “الأبله” ولا “الجريمة والعقاب” ولا بخاصة “الأخوة كارامازوف”، فإنها تعتبر مفصلية في مساره الكتابي من ناحيتين، فهي من ناحية تكاد تلخص نظرته إلى الأدب في حد ذاته وإلى شخصياته التي امتلأت بها رواياته السابقة، ومن ناحية ثانية تمهد، فلسفياً في الأقل، لروايته الكبرى التي كتبها من بعدها ولم يكن يدري بالطبع أنها ستكون عمله الأخير: “الأخوة كارامازوف”. والحال أن آية ذلك هي أن في هذه الرواية بالذات وتحديداً، يحدث لدى دوستويفسكي ذلك الانتقال من التوجه النيتشوي إلى نزعة مسيحية خالصة ستكون الرواية الأخيرة – أي “الإخوة كارامازوف” – أبرز تجل لها في أدبه كما في حياته. سيرة غير ذاتية من ناحية مبدئية، قد يكون في إمكان المرء أن يعتبر هذه الرواية نوعاً من “السيرة الذاتية” للكاتب، غير أنها ليست كذلك إلا من الناحية الجوانية، أي من ناحية سبر الكاتب أغوار شخصيته الرئيسة ومحاولة كشف – هو أشبه بتعرية الذات – سمات تلك الأغوار، من دون أن تكون السمات الخارجية للشخصية على علاقة بتاريخ الكاتب نفسه. إلى حد ما يمكن القول هنا إن دوستويفسكي يبدو وكأنه استعار حياة شخص آخر، يكاد لا يشبهه في أية حال من الأحوال، ليرسم من خلالها ملامح تطوره الفكري الخاص، في لحظة مفصلية من حياته. ومن هنا إذا كان يبدو على دوستويفسكي – الذي يكتب الرواية، أصلاً، بصيغة الراوي مما يضاعف من حدة الإحساس بوجود “سيرة ذاتية” في الأمر – إذا كان يبدو عليه أنه – على الدوام – أقرب إلى إدانة الشخصية وفضح تهافتها، وفي معظم الأحيان دناءتها الأخلاقية، فإنه في الوقت نفسه يبدو وكأنه يطهرها من آثامها، وربما كفعل تطهير ذاتي. ولعل هذا يكتشف منذ الصفحات الأولى من الرواية حين نجد الكاتب/ الراوي يقول، بعد أن ينبئنا بأنه ليس أديباً و”لا أحب أن أكون أديباً”، إن “استخراج ما تنطوي عليه نفسي ومحاولة وصف عواطفي من أجل أن أعرضها في سوق الأدب هو في نظري من الأمور المعيبة التي تدل على صغار. ومع ذلك أتنبأ، على كره مني واستياء، أنه قد يستحيل عليَّ أن أتحاشى وصف عواطفي تحاشياً كاملاً، وأن أتجنب عرض تأملاتي وأفكاري ولو كانت عامية: فإلى هذا الحد يسقط العمل الأدبي بصاحبه ولو كان لا يفعله إلا لنفسه…”. فيودور دوستويفسكي (1821 – 1881) (غيتي) قناع اسمه آركادي ولكن من هو هذا الشخص الذي نكاد نقول إن دوستويفسكي يستخدمه في هذه الرواية بشكل أو آخر قناعاً يعبر من خلاله عن تحولات أساسية في حياته وأفكاره ذات لحظة؟ إنه الشاب آركادي دولغوروكي، الذي ينبئنا منذ البداية أنه ابن غير شرعي للسيد مالك الأراضي فرسيلوف من خادمة. والحال إن آركادي يخبرنا منذ البداية أن أباه الحقيقي لم يعترف به أبداً، بل عامله دائماً باحتقار كان التعويض عليه في معاملة الأب الآخر، أبيه بالتبني الذي حمل اسمه، وهو بستاني بسيط من أقنان الأب الحقيقي. والراوي يخبرنا، قبل أن يتعرض إلى رواية أحداث من حياته جرت طوال عام ونيف، وهي ما يرويها في القصة، أنه بفضل أبيه الحقيقي – الذي لم يعترف به – أدخل إلى مدرسة فرنسية راقية ونال اهتماماً ورعاية اجتماعية غير واضحي السبب، في مقابل معاملة رفاقه في الدراسة له بكل احتقار، إذ سرعان ما انكشفت وضاعة أصله. أما هو فإن ذلك كله لم يؤثر فيه بكثير من السلبية، إذ ما نعتم أن نتلمس فيه قدراً كبيراً من الطموح وحتى من الإرادة، وهو الذي استبدت به منذ البداية فكرة ثابتة أن يصبح في ثراء روتشيلد، وفي مكانة اجتماعية تزيد على مكانة أي من معارفه. كل الوسائل ممكنة لقد آلى على نفسه للوصول إلى هذا، أن يتبع كل السبل، بما فيها الصوم عن الطعام وعن الإنفاق وادخار أي قرش يصل إلى يديه. غير أن آركادي، حتى وإن كانت إرادته تدفعه إلى هذا، وجد نفسه عملياً عاجزاً عنه. فهو بطبيعته الغريزية، وربما أيضاً بإرثه الأبوي – إذ سرعان ما سنعرف أن أباه أنفق ما لا يقل عن ثلاثة ميراثات في حياته، مما جعله نبيلاً مفلساً على الدوام ومسرفاً. وهكذا صار الصراع حاداً لديه – أي لدى آركادي – بين رغبته في الثراء ومعرفته أن هذا لا يتيسر له إلا من طريق الادخار، ونزوعه إلى الإنفاق، بل حتى إلى ممارسة القمار… من دون أن ننسى اندفاعاته الأريحية حين نراه مبذراً في سبيل المحيطين به. أما “الحدث” في حياته الذي يشكل محور العام والنيف اللذين يحدثنا عنهما في الرواية، فهو وقوعه في غرام امرأة يتبين له أنها معشوقة أبيه. وسيكون من حظه هنا أن يقع على ما يشبه الوثيقة التي من شأنها لو أذيعت أن تفضح العلاقة بين الأب والمرأة، وهكذا يبدأ ألاعيبه ومناوراته ضد أبيه وفي سبيل الحصول على المرأة، بل إنه، إذ يرى أن الأمر كله سيعود عليه بما يتوخاه من مكاسب مادية، يزيد من إنفاق المال، ويكثر من حلقة الدائنين المحيطين به. وسيكتشف بعد حين أن واحداً من أهم دائنيه إنما هو عشيق لأخته من أبيه ليزا. والحقيقة أن هذا كله يجعله يبدأ بالشعور أن ثمة كماشة تطبق عليه، في الوقت نفسه الذي نراه فيه ساعياً إلى الاستفادة من كل هذا. وما حكاية الرواية سوى حكاية هذا المسعى وقد صار، من ناحية، وسواساً يستبد به، ومن ناحية أخرى وسيلة ضمنية لخلاصه، شرط أن يتمكن من تدوير الزوايا، ومن أن يقوم بما يريد القيام به، إنما من دون إلحاق الأذى بالآخرين، بمن فيهم أبوه وأخته. صراع داخل مراهق وعلى هذا النحو تتحول “الأحداث” كلها إلى صراع جواني في ذهن – كما في روح – هذا الفتى المراهق… وينتهي به الأمر ذات لحظة إلى نوع من الانغلاق على الذات في حمأة فلسفة فردية شديدة الصرامة، يخلقها لنفسه في محاولة منه للاقتناع بأن من حقه أن يفعل كل ما يفعله. لقد أضحى الآن أنانياً خالصاً، غير أن هذا بالتحديد سيكون ما يدفع به إلى المعاناة. ودوستويفسكي يوضح لنا الأمر هنا، بكل بساطة: إن لآركادي روحاً سلافية لا لبس فيها ولا غموض. وهذه الروح هي التي تجعله غير راض على الإطلاق عن أنانيته الجديدة التي وجد نفسه يغرق فيها. ومن هنا حتى بروز الصراع الداخلي لدى آركادي بوصفه المحرك الأساس للرواية في لحظات متقدمة منها، خطوة يقطعها هذا العمل الأدبي الذي يوصل فيه صاحب “المقامر” و”الجريمة والعقاب” نزوعه الأدبي إلى التعمق في التحليل النفسي، مما يجعل من “المراهق” واحدة من أكثر روايات القرن التاسع عشر احتفالاً بالبعد النفسي في الأدب، وذلك حين تنقلب الأمور لدى آركادي، وبقلمه، في اتجاه غرق في نوع من الإحساس بالسعادة الكونية، ولا سيما حين يتيقن من أن غرقه في الأنانية قد دفعه إلى تلك المعاناة المدهشة – وذلك لأنه يجد في تلك المعاناة ذلك الخلاص المسيحي، الذي سبق أن تلمسناه لدى ميشكين في “الأبله”، وسنتلمسه في آخر روايات دوستويفسكي “الأخوة كارامازوف” بشكل أكثر جذرية. ولعل هذه “القلبة” هي ما جعل الذين يكتبون عن هذه الرواية ويحللونها، على ضوء حياة دوستويفسكي وأدبه، يرون أنه أوصل فيها إلى ذروة مدهشة، كونه شاعراً وسابراً لأغوار النفس البشرية، حتى وإن كان قد عجز عن أن يجعلها، من الناحية الأدبية الصرف، تضاهي رواياته الكبرى. المزيد عن: فيدور دوستويفسكيسيرة ذاتيةالأدب الروسيرواية المراهق 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post غياب المساواة بين الجنسين يؤذي أدمغة النساء next post “لصوص المقابر” تروي مصر بعيون الآخرين You may also like أليخاندرا بيثارنيك… محو الحدود بين الحياة والقصيدة 24 نوفمبر، 2024 مهى سلطان تكتب عن: الرسام اللبناني رضوان الشهال... 24 نوفمبر، 2024 فيلمان فرنسيان يخوضان الحياة الفتية بين الضاحية والريف 24 نوفمبر، 2024 مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024