من إنجازات تشلليني الباقية حتى زمننا هذا (غيتي) ثقافة و فنون “سيرة” بنفينوتو تشلليني الفنان النهضوي المشاكس والمقاتل الشرس by admin 23 مارس، 2024 written by admin 23 مارس، 2024 133 انتشار حكايته بين الجمهور سبق تعرف هذا على أعماله التي تأخرت في الوصول إلى الناس اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب كان الفنان النهضوي بنفينوتو تشلليني من كبار رجال النهضة ومن أكثر مبدعيها تماشياً مع عصره لكنه لم يكن من أكثر رجالاتها شعبية. فهو كان فنان قصور في المقام الأول وكان ما يبدعه لا يستدعي تلك الفرجة العامة التي كانت تتاح في الكاتدرائيات والقصور وبيوت أغنى الأغنياء من الذين لا يفتحون بيوتهم تلك، عادة لاستقبال جموع المتفرجين بل ينتج ما يمكن القول إنه تحف لا يتعدى العارفون بها والمتابعون أخبارها، الحلقات الضيقة لعلية القوم. ومن هنا احتاجت سيرته والاهتمام بالقطع التي ينتجها إلى انتظار نهايات حياته قبل أن تحقق له شعبية ما، ولكن ليس كفنان بل ككاتب. وإذا كنا نتحدث عنه كفنان فإن الأجدر بنا كان أن نتحدث عنه كحرفي مذهل رفع الحرفة إلى مستوى أرقى الفنون الجميلة، وهو أمر ما كان يمكن أن يكتشف إلا في الأزمان اللاحقة، من ناحية نتناولها هنا، بفضل كتاب سيرته الذي أصدره في ختام سنوات حياته الطويلة والمتموجة، ومن ناحية ثانية بفضل انتقال إبداعاته إلى المتاحف وتحول تلك الأعمال إلى معروضات تجتذب من الجماهير أحياناً ما يزيد عما تجتذبه أعمال كبار الرسامين والنحاتين. حياة صاخبة وهنا في استعادة لسيرة تشلليني من خلال تلك المذكرات لا بد أن يدهشنا أول الأمر كما يثير حيرة كل قارئ لها حين ينتهي من تلك القراءة فيتساءل عما يجعلها أقل شهرة بكثير من “اعترافات” جان جاك روسو، أو مذكرات كازانوفا، علماً أن هذين الكتابين هما ما يخطر على بال القارئ عشرات المرات فيما هو منكب بكل شغف وتشوق على قراءة مئات الصفحات المكثفة التي يتألف منها الكتاب المعنون “سيرة”. فالحقيقة أن هذا الكتاب يفوق نظيريه معاً من ناحية أسلوبه وامتلائه بالمغامرات ورسمه صورة رائعة ملونة إلى حد مدهش، لما كانت عليه حياة القصور والمدن في تلك الأزمان الخارجة لتوها من العصور الوسطى. ولكن أيضاً من ناحية رسمه الدقيق والمرهف لحياة فنان في تلك الأزمنة وصراعاته من أجل فنه وحياته متنقلاً بين المدن والولاءات والسادة رعاة فنه، خائضاً المؤامرات والحروب وضروب التنافس مع الفنانين الآخرين، وصولاً إلى تصويره الفنان كمشاكس ومقاتل بل حتى كمقاتل مساهم في المؤامرات بين الإمارات والأمم. بنفينوتو تشلليني (1500 – 1571) (غيتي) رواية على شكل سيرة غير أن هذا كله لا يشكل في حقيقة الأمر سوى جزء بسيط من كتاب يتسم بلغة روائية تجعل القارئ يلتهمه كأنه رواية مغامرات بيكارية فلا يكون من المبالغة مقارنته بـ”دون كيشوت” المزامن له تقريباً. والحال أن كتاباً كهذا كان من شأنه أن تملأ سمعته الدنيا… كتاب “سيرة” يبدو في ظاهره أكثر تواضعاً من الكتب التي ذكرنا. غير أن هذه ليست حال كاتبه نفسه. ولعل ما يغيظ كثراً في صفحات الكتاب وفصوله المتتالية، ذلك الاعتداد المذهل بالنفس وبالنتاج الفني الذي لا يتوقف تشلليني عن التعبير عنه. فهو، وقبل أن نفاد بما سيكون عليه رأي الآخرين بأية قطعة فنية ينجزها، يتولى هو بنفسه تقريظ العمل والثناء عليه إما مباشرة أو على ألسنة الآخرين الذين صنعت من أجلهم تلك الأعمال. وهم جميعاً إما أن يكونوا من بابوات روما – مثل راعيه المحب البابا كليمان السابع، أو من العظماء أمثال الملك الفرنسي فرانسوا الأول، أو حتى الإمبراطور الألماني شارلكان، أو من الكرادلة أو الدوقات والأمراء. إن كل واحد من هؤلاء ما إن يشاهد العمل الذي أنجزه له تشلليني يصرخ، وفق ما يجيء في الكتاب: “يا الله إن هذه التحفة لا يضاهيها مضاه منذ أول التاريخ!”. غير أن معظم هؤلاء سرعان ما يحكي لنا تشلليني كيف يضطهدونه بدءاً من التقتير عليه مالياً، وصولاً إلى رميه في السجن، كما فعل البابا الذي حل مكان كليمان السابع ولم يكن يحبه. وبهذا، يتأرجح ما يرويه لنا تشلليني بين أعلى درجات تعظيم الذات، وأدنى درجات وصف الانحطاط الجسدي والنفسي الذي كان يعانيه في فترات سجنه وآلامها. … وسيرة عائلية أيضاً غير أن هذا الجانب البطولي، الذي يصور في صورة مفصلة – ومبالغ بها إلى حد الإفراط على الأرجح، ليس كل ما في الكتاب، ولا هو أجمل ما فيه، فهناك الصفحات الاجتماعية البديعة التي يصور لنا فيها تشلليني حياته الخاصة، لا سيما حبه لأبيه الذي لم يكن ينغصه سوى رغبة هذا الأخير لابنه في أن يتجه إلى الموسيقى، خصوصاً إلى عزف الناي بدلاً من الصياغة والنحت والرسم. وهي رغبة لم يكن الفتى يشاطر أباه في حملها، ومن هنا يمتعنا في الفصول الأولى من الكتاب بوصف صراعه مع أبيه في هذا الصدد، والمناورات التي يبذلها كل من الاثنين لفرض رأيه على الآخر، بيد أن الغريب هنا، هو أن عدا هذه العلاقة بين بنفينوتو وأبيه، قليلة هي الفقرات التي يخصصها لبقية أفراد أسرته، الذين غالباً ما يمرون مرور الكرام. بل إنه لاحقاً حين يصبح في الرابعة والأربعين وذا اسم كبير، فيحدثنا عن فتاة صغيرة تحمل منه وتنجب له ابنة، لا يستغرقه الحديث عن تلك الابنة سوى سطور قليلة يختمها بإخبارنا أنه عهد بالوليدة إلى خالتها “التي أعطيتها بعض المال لتنفقه عليها ثم لم أعد لرؤيتها بعد ذلك أبداً”. من الواضح هنا، أن تشلليني في ما عدا عاطفته الحقيقية المعلنة تجاه أبيه، لم يحمل أية عواطف أخرى، عائلية أو غرامية. ومن هنا سيستغرب المرء حين يشاهد الأوبرا التي لحنها هكتور برليوز بعنوان “بنفينوتو تشلليني” في القرن الـ19، وقد انبنت على حكاية غرام عاشها الصائغ النحات مع فتاة… مهما يكن لا أثر في المذكرات لهذه الحكاية. ولا لأية حكاية غرامية حقيقية مع أية امرأة أخرى، علماً أن تشلليني يحدثنا مثلاً عن امرأتين، إحداهما عشيقة الملك الفرنسي “مدام ديتامب” التي كانت تناصبه العداء وحاولت إفساد عمله وعلاقته بالملك – كما سيفعل كثر آخرون وفق روايته التي تكشف عن عقدة ارتياب يبدو أنها ملأت حياته وسببت له صعوبات وآلاماً كثيرة – والثانية عشيقة صبية له خانته مع أحد مساعديه فطردها مع أمها التي يصفها بـ”القوادة” لتوصلاه إلى المحاكم. فتش عن المرأة واضح من هذا كله أن تشلليني لم يكن محظوظاً مع النساء… ولا طبعاً مع الرجال، وهو الذي قد يحدثنا في صفحة عن علاقة له جيدة مع فلان الكريم المعطاء، ليعود بعد صفحات ويتهم فلاناً هذا بأبشع الصفات والتصرفات. ولعلنا لا نكون مغالين إن قلنا إن رصد كل هذه التناقضات يبدو من أمتع ما في هذا الكتاب، مقابل الحزن والبؤس اللذين يتركهما لدى القارئ وصف الكاتب لحظات إصابته بالأمراض أو اضطراره إلى خوض الصراعات مثل أي “أزعر” عادي، أو خيبات أمله إذ يتخلى عنه رعاة كان يأمل منهم كل خير… غير أن هذا كله لن يكون شيئاً أمام الصفحات الرائعة الأخرى الغالبة على الكتاب. تلك التي يحدثنا فيها عن عمله. فبغض النظر عن ضروب الغرور وتعظيم الذات المفرط التي تملأ سطوره، لا ريب في أن القارئ المنصف لـ”سيرة”، إذا أتيح له أن يشاهد إنجازات تشلليني الفنية، التي لم يبق منها كثير حتى يومنا هذا على أية حال، سيستنتج أن تشلليني كان محقاً في غروره و”مبالغته” في تقدير ذاته ووصف تقدير الآخرين له. فمن نصب “برسيوس” الموجود اليوم في ساحة الـ”سنيوريا” في لوجيا دي لنتزي في فلورنسا، إلى المملحة الضخمة التي حققها للملك فرانسوا الأول، مروراً بتمثال كوزيما الأول دي مديتشي (فلورنسا)، و”عروس فونتينبلو” الموجودة حالياً في متحف اللوفر، وعشرات المسكوكات والأختام والأواني الذهبية والتماثيل والابتكارات المدهشة في أنواع فنية لا تخطر لنا في بال، حقق تشلليني في الأعوام السبعين ونيف التي عاشها (1500 – 1571)، متناً فنياً لا يزال فريداً من نوعه حتى الآن، بديعاً في دقة تصاميمه وتنفيذها، إعجازياً في تركيبيته، ومذهلاً في جمالياته الاستثنائية التي أعطت المدرسة “ألمانييرية” (التنميقية) حداثة لم يتمكن أي مبدع من تخطيها، بحيث إن من يقرأ المذكرات ويغرق في تفاصيلها والصورة التي تقدمها عن حياة الرجل، يتساءل: من أين جاء بكل ذلك الصبر والوقت لتحقيق ذلك كله؟ المزيد عن: الفنان النهضوي بنفينوتو تشللينيعصر النهضةجان جاك روسومذكرات كازانوفا 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post مغاربة وأندلسيون هاجروا إلى الشام المملوكية وفقدوا هويتهم next post “أن نموت” فيلم ألماني ينسف العائلة ويترشح لـ9 جوائز You may also like براعة باخ في كونشرتوات براندنبورغ وأثرها الدائم 19 نوفمبر، 2024 في روايته الجديدة… أوبير حداد يصوّر الحرب بعيني... 19 نوفمبر، 2024 16 فيلم رعب تسببت بصدمة نفسية لممثليها 19 نوفمبر، 2024 العداوة والعدو كما فهمهما الفلاسفة على مر العصور 19 نوفمبر، 2024 قصة واحدة من أكبر الأكاذيب في تاريخ حكايات... 19 نوفمبر، 2024 أول ترشيحات “القلم الذهبي” تحتفي بالرعب والفانتازيا 17 نوفمبر، 2024 شعراء فلسطينيون في الشتات… تفكيك المنفى والغضب والألم 17 نوفمبر، 2024 “بيدرو بارامو” رواية خوان رولفو السحرية تتجلى سينمائيا 16 نوفمبر، 2024 دانيال كريغ لا يكترث من يخلفه في دور... 16 نوفمبر، 2024 جاكسون بولوك جسد التعبيرية التجريدية قبل أن يطلق... 16 نوفمبر، 2024