عام بأكمله يمضيه كاتب كييف محاولاً عبثاً استكمال ونشر روايته الأولى “الحرس الأبيض”
اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب
يعرف الكاتب “السوفياتي” ميخائيل بولغاكوف بروايته الأساسية “المعلم ومرغريتا” التي عاشت مع الرقابة السوفياتية واحدة من أغرب حكايات تلك الرقابة وأطولها عمراً. والحقيقة أن تلك الرواية التي شرع بولغاكوف يكتبها منذ عام 1929 ولم ينجزها إلا في عام 1940 ولن تنشر إلا بعد ذلك بأكثر من ربع قرن، أي بعد وفاة ستالين، تستحق أن تعتبر كما حالها تماماً، أشهر روايات بولغاكوف وأقواها، لكنها بالتأكيد لم تكن روايته الوحيدة ولا أول أعماله الكبيرة.
وذلك لأنه كان سبق للكاتب الطبيب المولود في كييف بأوكرانيا – كما معظم مبدعي ما سيعرف منذ بداية عشرينيات القرن العشرين، بالاتحاد السوفياتي- عام 1891، ابناً أول لعائلة متعددة الأبناء والبنات، سبق له أن نشر العديد من النصوص ومن أشهرها قبل “المعلم ومرغريتا” رواية “الحرس الأبيض” 1925 التي يجدر بكييف نفسها أن تحتفل هذا العام، بالتحديد، بالمئوية الأولى لولادتها ولكن ليس فقط على شكل رواية ولا حتى على شكل مسرحية هي التي حوّلها الكاتب بنفسه إلى مسرحية حين عجز عن نشرها كرواية مكتملة. والحقيقة أن حكاية هذا “العجز” هي التي تهمنا هنا وربما تحديداً لأن الحكاية تعتبر أول تصادم لبولغاكوف مع الرقابة وبل حتى مع السلطات الستالينية في بلاد السوفيات، التصادم الذي سيصل إلى ذروته مع “المعلم ومرغريتا” كما نعرف وتخبرنا وثائق الحياة الأدبية في الزمن السوفياتي.
ولادة رواية “عائلية”
قبل الوصول إلى “حكاية الحكاية” لا بد أولاً من أن نقول عمّ تتحدث “الحرس الأبيض” التي كتبها بولغاكوف وكان بعد يمضي آخر سنواته متنقلاً بين مسقط رأسه كييف وموسكو التي كانت قد أضحت عاصمة للبلاد البولشفية بديلة لبطرسبرغ. ومن هنا لم يكن غريباً للكاتب الطبيب الشاب، أن يحاول في تلك الرواية أن يتناول حياته وحياة عائلته ومدينته كييف، حتى وإن كان قد وضع أقنعة على وجوه وشخصيات معظم أبطالها. فالحال أن العائلة التي يصف بولغاكوف حياة أفرادها تحمل اسم “أيام آل توربين” وهو على أية حال الاسم الأصلي لجدة عائلة بولغاكوف، تماماً كما أن البيت الذي تقطنه عائلة توربين في الرواية وتدور فيه أحداثها، هو بيت عائلة أسرة بولغاكوف بطلعة سانت أندريه في كييف- وقد تحول بعد سقوط الحكم السوفياتي إلى متحف باسم ميخائيل بولغاكوف نفسه-، علماً بأن وصف الكاتب الدقيق للبيت يجعل زائري المتحف المطلعين على أدب بولغاكوف ولا سيما “الحرس الأبيض” يتعرفون بدقة إلى الغرف والزوايا والممرات داخل بيت كان يتسع لنحو عشرين نفراً بينهم نحو عشرة أبناء وبنات، وجعل بولغاكوف للمكان في الرواية دوراً كبيراً حتى وإن كان معروفاً، وباعترافه دائماً أنه ما كتب تلك الرواية إلا في محاولة منه للسير على خطى وصف تولستوي لـ”العائلة السعيدة” في روايته “الحرب والسلام”.
ومهما يكن من أمر هنا، لا بد من القول إن بولغاكوف على رغم استلهامه تولستوي، كان مراده في “الحرس الأبيض” أن يكتب تاريخاً لعائلة روسية الجذور تعيش في كييف هي عائلته، واصفاً بالتحديد حياته وصباه هو الطبيب الذي انطلق في حياته مولعاً بالكتابة تماماً كما هي حال بطل روايته. والحقيقة أن مراد بولغاكوف، كان أن تكون “الحرس الأبيض” جزءاً أول من ثلاثية نعرف أنها لم تكتمل أبداً، وبسبب الرقابة التي وجدت منذ الجزء الأول أن عليها أن تتحرك، ما يعيدنا هنا إلى ما أسميناه أول هذا الكلام، “حكاية الحكاية”.
من الرواية إلى الخشبة
باختصار إذاً أن “حكاية الحكاية” إنما هي بالنسبة إلى ميخائيل بولغاكوف تلك الحكاية التي عاشها بدءاً من عام 1925 العام الذي بدأ فيه الكاتب بإرسال الفصول الأولى من روايته الطويلة الأولى “الحرس الأبيض” إلى مجلة “روسيا”، التي كانت ذات شأن أدبي في ذلك الحين، وذلك بالتوازي مع كتابات أخرى راحت تصنع له مكانة ولكن في الوقت نفسه ملفاً لدى الرقابة، التي رأت فيها “نوعاً من حنين إلى روسيا القديمة قد يحمل رفضاً ما للواقع السوفياتي الجديد”.
وما إن أطل العام التالي وأنجز الكاتب فصولاً إضافية من الرواية، حتى قررت تلك الرقابة أنها لا يمكنها أن تصبر عليه أكثر من ذلك، فتفجرت علاقته بها في الوقت نفسه الذي كان هو قد قرر الالتفاف على الأمر، بتحويل الرواية إلى مسرحية تحمل هذه المرة عنوان “أيام آل توربين” لتقدم على خشبة مسرح الفن الشهير في خمسة فصول و13 لوحة، وهو عمل انكب عليه منذ نهاية صيف عام 1925 على أية حال. ومنذ البداية كانت الرقابة بالمرصاد ولكن ليس وحدها بل شراكة مع مجمل المطبوعات الرسمية، التي اهتمت بالرواية اهتماماً استثنائياً جعل معظم المقالات التي تتناول عمل بولغاكوف منددة بالعمل. وكذلك لاحقاً حين تحولت إلى مسرحية حرص الكاتب على التخفيف من غلواء بعض شخصياتها على أية حال.
والحقيقة أن المسرحية عرضت بقدر لا بأس به من النجاح الذي فاقم منه إمعان “النقاد” في مهاجمة العمل ورجعيته حتى وإن كانوا قد عجزوا عن جعله يمنع مسرحياً. ففي ذلك الحين، ومقابل التشدد في الرقابة على الأعمال المطبوعة، كان ثمة نوع من التهاون مع الأعمال المسرحية باعتبارها نخبوية “ولا يمكنها أن تفسد أخلاق الطبقة العاملة”. ومن هنا على رغم ما سيقوله بولغاكوف في نص لاحق له من أنه رصد 298 مقالة تهاجم المسرحية مقابل 3 مقالات تمتدحها، واصل “مسرح الفن” عرض المسرحية شهوراً طويلة (وربما لسبب سنذكره بعد سطور). كانت من أكثر الشهور في مسيرة بولغاكوف المهنية إيلاماً له.
رسالة إلى ستالين
من هنا نجده وقد أضنته الحكاية كلها، يقرر أنه لم يعد في إمكانه أن يحتمل أكثر مما فعل فيكتب إلى “الرفيق ستالين” رسالة يحاول فيها الحصول من هذا الأخير على إذن خاص بمبارحة الاتحاد السوفياتي برفقة زوجته ولو مطروداً!… ولكن يبدو أن سيد الكرملين لم يجب على الرسالة أو لم يقرأها. وبالتالي ها هو بولغاكوف وفي مستهل ربيع العام التالي يكتب هذه المرة رسالة موجهة إلى “حكومة الاتحاد السوفياتي” يقول فيها– وعلى الأرجح كرد على نصيحة ما، كانت قد وجهت إليه– أنه وعلى رغم النصائح الكريمة “غير قادر على أن يكتب مسرحية شيوعية”، مذكراً بمجموع الشتائم التي وجهت إليه على صفحات الصحافة الرسمية ومنها ما كانت “البرافدا” قد نشرته قبل حين من أن “هذا الكاتب يبدو أعجز من أن يسمم بأفكاره الطبقة العاملة ماسخاً مثلها العليا البولشفية”، واصفة مسْرَحَته لـ”الحرس الأبيض” بأنه “عمل تفوح منه رائحة القذارة”.
ولئن كان يبدو أن ثمة في الأمر تناقضاً غريباً، إذ كيف يعقل أن يستمر عرض المسرحية طول كل تلك الشهور فيما يتواصل الهجوم الصحافي عليها؟ هنا يأتي الجواب المدهش: لقد أحب ستالين تلك المسرحية إلى درجة يقول جورج نيفا مؤرخ الأدب الروسي في فرنسا إن سيد الكرملين قد شاهد “أيام آل توربين” خمسة عشر مرة وكان في كل مرة يضحك كما لو أنه يشاهدها للمرة الأولى. ومن هنا بقيت تعرض وبقيت تهاجم. أما بالنسبة إلى بولغاكوف فإنه لم يهاجر بل بقي ولو أنه لم يخلد إلى الصمت هو الذي قال ذات مرة وقد أدرك أنه قادر على الاستفادة من تناقضات موقف ستالين: “إن النضال ضد الرقابة، وكل أنواع الرقابة وفي ظل أية سلطة من السلطات، هو الواجب الذي نذرت له نفسي ككاتب كما آليت على هذه النفس أن تدافع عن حرية الصحافة…”.
وفي النهاية إذ أدرك بولغاكوف أنه بدوره سوف يعيش ذلك التناقض، راح يسعى للحصول على عمل يمكنه من البقاء والعيش، كمساعد مخرج مسرحي أو ممثل ثانوي أو حتى عامل ديكور وأكسسوار. وواصل الكتابة فيما واصلت الرقابة المنع وواصل ستالين الاستمتاع وربما مشبهاً نفسه بالقيصر نيقولاي الأول، الذي كان قبله من كبار المصفقين لمسرحية غوغول “المفتش العام” على رغم ما تحمله من انتقاد حاد لحكومته وإدارته… بل وربما لما تحمله من ذلك الانتقاد!
المزيد عن: الأدب الروسيكييفبولغاكوفستالينالشيوعيةأوكرانياروسياالاتحاد السوفياتي