مشهد من الريف العماني (الوكالة العمانية) ثقافة و فنون سالم العماني يهرب من وادٍ إلى آخر بحثاً عن نفسه by admin 16 سبتمبر، 2024 written by admin 16 سبتمبر، 2024 63 محمود الرحبي يطرح سؤال الحرية والمعاصرة في “طبول الوادي” اندبندنت عربية / إبراهيم فرغلي الكاتب العماني محمود الرحبي، مثل معظم أبناء جيل التسعينيات العماني، واحد من أخلص كتاب القصة القصيرة، بين كتاب عمانيين آخرين. وقد بدأ الاتجاه للرواية أيضاً قبل سنوات وأنتج عدداً من الروايات اللافتة، وأحدثها روايته “طبول الوادي”، الصادرة عن “محترف أوكسجين”، وتدور وقائعها بين قرية نائية يمنحها الراوي اسم وادي السحتن، وهي قرية محافظة لا تتوفر فيها من سبل الحداثة شيء، وبين مسقط العاصمة، وتحديداً منطقة تعرف باسم وادي عدي، عرفت بأنها تجمع فئات اجتماعية مختلفة تنتمي أكثر إلى الطبقات التي لا تتمتع بالرفاهية الاقتصادية. تتمحور الرواية حول قصة هرب سالم من قريته، بعدما تبين أن والده الشيخ محسن، شيخ القرية أطلق من بندقيته عدة طلقات نارية، مصوباً إياها عليه شخصياً، أي على سالم الابن، بعدما ضبطه متلبساً بالتدخين. لم تصب الطلقات جسده، لكنها فتحت جرحا لا شفاء منه في العلاقة بينه وبين أبيه، وهو في صدر المراهقة، ينزح إلى مسقط من دون أن يملك شيئاً سوى الثوب الذي يرتديه. الرواية العمانية (دار أوكسيجين) تبدأ رحلة هرب سالم وتبدو في البداية كأنها رحلة هرب خوفاً على حياته، ولكن سرعان ما يتبين أنها تجسد الهرب الرمزي من منظومة قيم كاملة تمثلها طبيعة حياة سكان القرية جميعاً، وسيادة هيراركية يمثلها شيخ القرية والد البطل. وبهذا يبدو أن سؤال الرواية الجوهري، ينبثق من تأمل السلطة الأبوية بكل ما يمثله هذا السؤال عربياً، أي من مجموعة القوانين الأبوية التي تفرض نموذجاً وحيداً للأخلاق والأعراف ونمط العلاقات بين أفراد المجتمع، في مقابل سؤال الحرية. وهذا يغدو سؤال الابن عن القيم النقيضة لقيم القرية التي يمثلها الأب، واختبارها من خلال حياة الفرد، بعيداً من تلك المنظومة في حياته الجديدة في مجتمع وادي عدي، أو مجتمع هامش المدينة. خصوصاً أنه مجتمع يتمتع بأبرز ما لا يجده سالم في قريته، وهو التنوع. ففي وادي عدي يجد العماني ذو الأصول الزنجبارية، والبلوشي، وكثير من الطوائف وبينهم الوافدون الهنود وغيرهم، وحيث لغة التواصل خليط من عدة لغات عربية وأفريقية وآسيوية وأجنبية. العلاقات الجديدة يكشف النص في التفاصيل عن العلاقات التي تتكون في هذا المجتمع الجديد، مع الجيران من هذه الفئات المختلفة، وأثرها في مسار بطل الرواية الذي يريد أن يثبت لنفسه أن خروجه من القرية كان وسوف يظل، قراراً صائباً طالما تمكن من تدبير أموره ووجد مصادر الرزق التي تدبر له ذلك. يقدم النص وصفاً للمكان في كلتا البيئتين، أي في قرية وادي السحتن بطابعها الجبلي الزراعي، وبما قد تتضمنه من كهوف أو آبار وأفلاج ووديان وسخاء الطبيعة بالثمار، وموسيقى الماء أو غير ذلك، إضافة إلى جانب اجتماعي. نرى زوجة الأب، التي يسميها الراوي العمة، والأم معاً، يقومان بأعمال البيت أو بالتشارك في الغسيل أمام أفلاج المياه، إضافة إلى دور الأب في متابعة مطالب سكان القرية وما يقتضيه ذلك من التزامات الضيافة، والأعراف المرتبطة بهذه الالتزامات، أو جولات المرور على الحارات والمساكن لتفقد مشكلات أهل القرية، أو حتى زيارة الوالي التي يصحب فيها الابن باعتباره وريث شيخ القرية. الكاتب محمود الرحبي (دار أوكسيجين) يمثل وادي عدي حياً سكنياً ينتمي إلى العاصمة، لكنه يعبر عن طبقات أقرب إلى الطبقات الشعبية وليس الطبقة الوسطى العليا أو البورجوازية. ويكشف لنا عن التغيرات السلوكية التي تطرأ على البطل وفق خبراته التي تتشكل في العاصمة، إذ يتنامى إحساسه بالفردية والإصرار على أن يحيا حراً بعيداً من القرية وقيمها وسلطتها الأبوية، التي كان يختزلها في وصفه لحياته بأنها حياة فقيرة رتيبة لا تصلح له خصوصاً، وأنه منذ يفاعته أبدى شغفاً بممارسة الحيوات السرية للمراهقين، بعيداً من سلطة الأب وتسلق النخيل أو التسلل إلى الكهوف أو الآبار لممارسة التدخين. وبينما يتبين سالم طبيعة حياته الجديدة كانت أشباح القرية تلاحقه، في هيئة الأب، أو الأم، أو في استدعاء شخصيات مثل “عيسى” الغريب الأطوار، الذي أحب فتاة وتزوجت، فظل بقية حياته مكرساً للوفاء لها، برسم القلوب التي تخترقها سهام على الأرض الترابية بينما ينفث دخان سيجارته. وكانت هذه المقاربات هي ما يمثل الخبرة الجديدة لسالم في وادي عدي، بعدما تعرف على زهران، صاحب الدكان الذي سيغدو شريكاً لسالم في وقت لاحق. وهو كان يمكن أن يتحدث بلا انقطاع، فإن لم يجد من يسمعه فقد يحادث الشجر، بسبب حياته الخالية من أي معنى. فقد هربت زوجته وكبرت ابنته، ولم يعد يجد ما يفعله بين الصلوات سوى الصمت والضجر. يتبين سالم أيضاً أن الناس يأتون ليعيشوا في العاصمة وخلفهم أسرار، أو إشاعات، وهي تتغذى على النمائم والأخبار باعتبارها حقائق، حتى يتبين مدى كذبها أو صدقها إذا ما تم الاقتراب منهم. هذا ما حدث في الأقل مع زهران الذي راجت عنه إشاعات بالتزوير وخداع الدولة بتدبير حريق لدكانه، لكنه يؤكد أنه، مثله في ذلك مثل الراوي، يسمع عن نفسه أشياء لم تحدث. تزاحم على الفرص قد تبدو الحياة في البيئة الريفية بيئة حرة ليس فيها التزاحم والتكالب على الفرص كما هو شأن العواصم، لكنها من وجهة نظر الراوي بيئة مسورة بالمعرفة اللصيقة لجميع سكان القرية بعضهم بعضاً، وما يقتضيه ذلك من ضرورة الالتزام بقيم عامة، تمثل أعرافا لا يمكن تجاوزها. أما العاصمة فعلى رغم زحامها وقسوة الحياة فيها، فقد تبدو سجنا حقيقيا لشخص اعتاد الحياة الهادئة في القرية، أو حتى لوافد جديد مثل سالم الذي يضطر إلى السكن في غرفة بلا سقف، وسرقة الطعام من المطاعم في بداية رحلته للعاصمة، لكنها تدعم فكرة الفردية والحرية، وكذلك المقاهي لاحقاً، ثم المراقص التي سيكتشفها مع ابن خالته حين يلتقيه في مسقط، والأهم أن لا أحد من سكان العاصمة يعرفه. لا تذكر تواريخ في الرواية، لكن ثمة بعض الإشارات إلى دكان الرجل المدعو نجيم وفيه يكتب الرسائل لمن يرغب، إضافة إلى بيعه بعض المؤن، وإشارة الراوي أنه بعد عقدين من العمل في البحرين في الستينيات، تمكن من توفير هذا المحل، إضافة إلى وصف شرائط الكاسيت التي كانوا يستمعون إليها هو ورفاق مراهقته من أقارب زوجة أبيه، أو الشرائط التي في سيارة الرجل الذي أوصله من القرية إلى العاصمة، فنفهم أن الأحداث تدور في الثمانينيات من القرن الماضي تقريباً. يظل سؤال الحداثة سؤالاً رئيساً في النص، لأن الحداثة لا تقتصر على مظاهر التمدن والعمارة وتنوع فرص العمل، حتى لشخص لم يتلق سوى التعليم الأساس، بل تمتد إلى الدهشة التي توفرها المدينة من خلال تنوع الشخصيات التي تسكنها، من العمانيين والوافدين معاً. وكذلك في الفرص التي توفرها وتجعل من شخص مثله يشارك بائعاً جوالاً هندياً يبيع الزلابية، قبل أن يغدو شريكاً في محل لرجل عماني، وهو زهران، ترك زنجبار وقت قيام الثورة هناك في الستينيات هرباً من أهوال ما فعله البريطانيون بأصحاب الدشاديش البيضاء، وجاء إلى مسقط، لكنه يختتم حياته معالجاً شعبياً وشخصاً يتبرك به الناس، بينما الراوي يرى فيه الوريث المناسب لأبيه، ليكون شيخ القرية بعدما عرف بوفاته. سؤال الحداثة يقتضي أيضاً نوعاً من الصراع بين منظومتي قيم، قد يكون بينهما بعض أو كثير من التعارض، خصوصاً لشخص بطل الرواية سالم، فقد امتلك منذ طفولته فرصة أن يرث مشيخة القرية من بعد أبيه، الذي عمل على ذلك بكل قوة وقسوة، لكن الهرب الذي أتاح له أن يعيش ما اعتبره “الحرية”، كان كفيلاً بأن تتغير المصائر على نحو غير متوقع. وأيضاً لتبينه أن الثقل الاجتماعي لوالده جعل منه رمزاً له مهابة، بينما لا يحمل منها هو شيئاً، بل قد لا يمثل لمجتمع القرية إلا الخفة. بينما زهران الذي يرافقه في عزاء أبيه يرى في القرية جنة وفردوساً افتقده في كل حياته. وهي المفارقة التي تختتم بها الرواية كسؤال من دون حسم. سؤال معلق يدعو إلى التأمل. المزيد عن: روائي عمانيروايةالمدينةالريفالأفلاجالتمدنالحريةالمعاصرةالمجتمع التقليديالبيئة 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post ماذا حملت زيارة الوفد المصري إلى إريتريا من رسائل؟ next post لماذا توقف بوتيتشيلي عن الرسم في ذروة عطائه؟ You may also like كيف تستعيد الجزائر علماءها المهاجرين؟ 12 نوفمبر، 2024 مثقفان فرنسيان يتناقشان حول اللاسامية في “المواجهة” 12 نوفمبر، 2024 مكتبة لورين غروف تتحدى حظر الكتب في أرض... 12 نوفمبر، 2024 800 صفحة تتسلل إلى مجاهل العقل النازي 12 نوفمبر، 2024 أنطونيو سالييري… بين العبقرية المظلومة والغيرة القاتلة 12 نوفمبر، 2024 رسائل تنشر للمرة الأولى… حب مستحيل لأراغون 8 نوفمبر، 2024 سامر أبوهواش يكتب عن: في “معا في الجنون”... 8 نوفمبر، 2024 مهى سلطان تكتب عن: بعلبك… آن لروح الشعراء... 8 نوفمبر، 2024 من “المراهق العزيز” الذي صاغ نصوص دا فنشي... 8 نوفمبر، 2024 “آخر المعجزات” يعيد سجال السينما المصرية وعيون الرقيب 8 نوفمبر، 2024