لوحة المغاربة (1913 – 1916) (موقع الفنان) ثقافة و فنون زيارتان للمغرب صنعتا فن هنري ماتيس في بساطته المطلقة by admin 4 أكتوبر، 2023 written by admin 4 أكتوبر، 2023 30 لوحة “المغاربة” الضخمة التي شكلت لحظة انتقالية حاسمة في تاريخ الفنان وأبعدته عن “الضواري” اندب بندنت عربية \ إبراهيم العريس باحث وكاتب كان الرسام الفرنسي هنري ماتيس (1869 – 1954) ومنذ شبابه المبكر قد قرأ اليوميات التي كتبها سلفه ومواطنه الرومانطيقي الكبير أوجين ديلاكروا حول المغرب والأشهر التي أمضاها فيه، وكذلك شاهد عشرات الرسوم واللوحات التي حققها الفنان عن تلك الأشهر المغربية. ومن هنا، حين نضج فن ماتيس واستقرت حياته العائلية بعض الشيء بزواجه من إميلي، كان من أول ما قرره أن يقوم بزيارة مغربية على خطى ديلاكروا. وبالفعل رأيناه عند أوائل عام 1912 يصطحب زوجته ومسطحاته البيضاء وألوانه وأقلامه لينطلق في رحلته المغربية المنشودة. غير أن الحظ لم يواته في الأيام الأولى بعد وصوله إلى طنجة، فقد عصف بالمدينة طقس مريع وحل بها طوفان مياه لا سابق له في تاريخها الحديث. ومن هنا كان من الطبيعي للزوجين الفرنسيين أن يلزما غرفتهما في “فندق فرنسا” الذي أقاما فيه في المدينة ريثما يتحسن الطقس، لكن هنري ماتيس لم يهتم بالأمر كثيراً فقد امتشق أقلامه وراح يرسم كل ما يشاهده حوله في الفندق ومن الشرفات والنوافذ. وكان يعرف تماماً أنه سيستخدم تلك الرسوم لاحقاً محولاً إياها لوحات كبيرة. ترى أفلم يفعل ديلاكروا ذلك من قبله؟ غير أن ما أثار دهشة الرسام نفسه هو أن ما راح يرسمه، ومعظمه ينتمي إلى نوع “الطبيعة الصامتة” الذي كان هجره منذ زمن بعيد، يبتعد جذرياً عن أسلوب رسم “الضواري” الذي كان قد تبناه في مرحلته الفرنسية مباشرة قبل سفره. لقد رصد لديه تبسيطية غريبة لا شك أنها سترافق فنه حتى النهاية وتوصله إلى مسطحات الأوراق الملونة التي ستميز مراحله الأخيرة، لكنه لم يكن يرى إمكانية ذلك خلال إقامته في طنجة طبعاً. قلبة في حياة فنان لم يكن ماتيس يعرف أن شمس المغرب وألوانه وبساطة ناسه وتفاصيل الحياة الصغيرة فيه – أو في الأقل ما وصل إليه منها جميعها – ستحدث تلك “القلبة الأساسية” في حياته. ومن هنا لا بد أن نقرأ ذلك المقطع من رسالة بعث بها الرسام إلى صديق له يدعى كاموان بعد عام من عودته من سفرته الأولى إلى المغرب يخبره فيها كم أن ضرباً من القلق يستبد به الآن وهو يحاول أن ينجز لوحة جديدة: “إن رأسي دائخ تماماً إزاء لوحة جديدة أريد رسمها عن المغرب وأحضر لها حالياً. إنها تمثل شرفة مقهى طنجاوي في القصبة تعرفه أنت جيداً. إنني لآمل أن أتمكن في نهاية الأمر من إنجازها على رغم المعاناة الكبيرة التي تسببها لي…”. والحقيقة أن تلك اللوحة التي يشير ماتيس إليها وسيعطيها في نهاية الأمر عنوان “المغاربة”، لم تكن أول عمل مغربي ينجزه انطلاقاً من تلك السفرة الأولى – ولسوف تكون ثمة سفرة ثانية إلى المغرب بعد ذلك بسنوات قليلة لكنه لم يصطحب فيها زوجته هذه المرة – فهو بين السفرتين ومنذ وصوله إلى فرنسا بعد السفرة الأولى حقق عدداً كبيراً من اللوحات التي تسمى عادة باللوحات المغربية وتتسم بتلك البساطة الشكلية والكثافة اللونية التي ستطبع عالمه الفني. ولنذكر هنا على أية حال أن “المغاربة” إن لم تكن الأولى بين تلك اللوحات، فإنها تبقى الأضخم (أكثر من 181 سم ارتفاعاً ونحو 280 سم عرضاً) هي المعلقة اليوم في “متحف الفن الحديث” (موما) في نيويورك. هنري ماتيس يرسم (غيتي) بعيداً من تبسيطية الموضوع لقد بدأ ماتيس رسم “المغاربة” عام 1913 لكنه لم ينجزها إلا في عام 1916 وليس ذلك لضخامة حجمها فقط، بل لأنه كان قد بدأ يدرك أنها عمل انتقالي في حياته وتحديداً في مساره الفني، وذلك لأنه كان يريد منها أن تبعده بعض الشيء عن “تبسيطية” الموضوع “المغربي” وأحاديته، التي طبعت ما رسمه مباشرة بعد عودته على غرار لوحة “زهرة على الشرفة” (1912) التي كانت واحدة من أولى اللوحات المغربية التي رسمها. هنا في “المغاربة” كان يتطلع إلى المزج بين التعددية اللونية وتركيبية الموضوع ولو استيحاء من تلك اللوحات “الثلاثية” (تربتيك) التي كثيراً ما كانت تستهويه حين يتأملها في الكنائس تمثل مشاهد دينية متنوعة على مسطحات مترابطة. والحقيقة أن السنوات الثلاث أو أكثر قليلاً التي أنفقها وهو يرسم “المغاربة”، مكنته من أن يحقق تلك التوليفة، مؤكدة له أنه بالفعل كان في طريقه للوصول إلى تلك البساطة المركبة التي كان ينشدها، لكنها أتت بالطبع مركبة على طريقته المبتكرة وليس على طريقة “الثلاثيات” الكنسية. بل إن ماتيس تمكن من أن يدمج في “ثلاثيته” هذه ثلاثية أخرى تضم على مسطح كبير واحد ما يمكننا اعتباره “طبيعة صامتة”، و”مشهداً مدينياً” و”لوحة نوع” على النمط الهولندي النهضوي. هندسة ما… فلقد قسم ماتيس اللوحة تبعاً لذلك إلى ثلاثة أقسام لم يطلب منها بالطبع أن تكون متتالية عرضاً أو طولاً بشكل محدد. فهذا التتالي لم يكن همه هنا، كان همه التجاور بين ثلاثة عناصر من مشهد واحد يتفاعل كل منها مع الآخر. ففي أسفل القسم الأيسر من اللوحة، وعلى خلفية سوداء تمثل جزءاً من الرابط بين الأجزاء الثلاثة لدينا كمية من الفواكه – وبخاصة البطيخ الذي يهيمن لونه الأخضر والشديد المغربية على جو اللوحة ككل – تبدو وكأنها تشكل في حد ذاتها لوحة طبيعة صامتة. وفوق ذلك الجزء مباشرة تكشف لنا نافذة مشرعة حياً بأكمله من المدينة، أي المشهد الخارجي الذي يطل عليه المقهى بقبابه وبيوته المجردة بشكل يوحي بحضور المدينة في المشهد الإجمالي. أما الجزء الأيمن من اللوحة بأكمله من أعلاها إلى أسفلها فإنه، وإنما في نفس البعد التجريدي يضعنا في قلب المقهى نفسه بزبائنه “المغاربة” الجالسين متحلقين متربعين على أرضية المكان في تلك الجلسة “العربية” التي من الواضح أنها استهوت ماتيس ولكن من قبل وصوله إلى المغرب، أي تحديداً من خلال افتتانه بلوحات ديلاكروا. من دون أي استشراق ولعل اللافت هنا، وهو أمر يبعد ماتيس على أية حال، من تأثيرات ديلاكروا المباشرة عليه، هو أن الرسام قد حرص على أن يفصل مشهده عن أي بعد استشراقي. فهو في نهاية الأمر، رسم مشهداً مغربياً خالصاً حتى وإن بدا لون السواد الذي شكل مساحات الربط بين أجزاء اللوحة الثلاثة دخيلاً فيه شيء من الأوروبية هنا، لكن هذه تبقى على أية حال رؤية الفنان الخاصة التي لا يمكن مطالبته بأن يتخلى عنها في سبيل “مغربة” كاملة لفنه. وفي المقابل لا بد من التنبه إلى أن ماتيس قد تمكن على أية حال من أن يخلق من حول تلك “الفواصل” السوداء والتي أضفت على فنه، في تلك المرحلة في الأقل، خصوصية كان من نتائجها أن شكلت نوعاً من لحظة انتقالية بين أسلوب “الضواري” القديم الذي طبع معظم لوحات مرحلته الـ”ما قبل مغربية” ومرحلته الجديدة، وتلك الانتقالية كانت كما يبدو ضرورية بالنسبة إليه كي يضمن نوعاً من وحدة أسلوبية في مساره الفني لولاها لما كان ماتيس ما كان عليه. تماماً كما يمكننا أن نقول في سياق مشابه كم أن الرحلة المغربية كانت حاسمة بالنسبة إلى فنان بدايات القرن الـ20 هذا حتى يصل إلى ما وصل إليه من فرادة. ومهما يكن هنا، لا بد من ناحية أخرى من أن نشير أن في مقدورنا أن نفهم عبر إعادة قراءة رسالة ماتيس إلى صديقه كاموان التي أشرنا إليها أول هذا الكلام وعبر فيها عن معاناته العميقة خلال رسم هذه اللوحة بالذات، كيف أن المعاناة نفسها إنما كانت ناتجة من الصراع الذي كان يعتمل لديه في تلك المرحلة بالذات تبعاً لرغبته في أن يبسط فنه إلى أقصى حدود التبسيط، ولكن من دون أن يذعن لنوع من تجريد كان يراه من السهولة بمكان، بل بشكل قد يدمر فنه… ومن هنا ما سنلاحظه لديه دائماً وربما بدءاً من لوحة “المغاربة” هذه، من ذاك الذي سماه مؤرخو فنه “الرفض المطلق لذوبان أشكاله في عواطفية ترتبط بالجو العام للوحة”. المزيد عن: هنري ماتيسفن تشكيليأوجين ديلاكرواالمغربالاستشراقالرحلة المغربيةلوحة المغاربة 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post كيف يرتبط تنظيف الأسنان بخطر الإصابة بالخرف؟ next post اتفاق على الحرية وجدل حول فرسانها… من يفوز بـ”نوبل” للآداب؟ You may also like بودلير وهيغو… لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم... 27 نوفمبر، 2024 شوقي بزيع يكتب عن: شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد... 27 نوفمبر، 2024 محمود الزيباوي يكتب عن: ماجان القديمة …أسرارٌ ورجلٌ... 27 نوفمبر، 2024 «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد 27 نوفمبر، 2024 محمد خيي ممثل مغربي يواصل تألقه عربيا 27 نوفمبر، 2024 3 جرائم سياسية حملت اسم “إعدامات” في التاريخ... 27 نوفمبر، 2024 سامر أبوهواش يكتب عن: “المادة” لكورالي فارغيت… صرخة... 25 نوفمبر، 2024 محامي الكاتب صنصال يؤكد الحرص على “احترام حقه... 25 نوفمبر، 2024 مرسيدس تريد أن تكون روائية بيدين ملطختين بدم... 25 نوفمبر، 2024 تشرشل ونزاعه بين ثلاثة أنشطة خلال مساره 25 نوفمبر، 2024