جنود إسرائيليون قرب الحدود بين إسرائيل وغزة، يونيو 2024 (أمير كوهين/رويترز) بأقلامهم روبيرت أ. بايب يكتب عن: استراتيجية إسرائيل الفاشلة تعزز قبضة “حماس” by admin 3 يوليو، 2024 written by admin 3 يوليو، 2024 80 بعد 9 أشهر على بدء الحملة على غزة الدولة العبرية بعيدة كل البعد من تصفية عدوها اندبندنت عربية / روبيرت أ. بايب روبرت أ. بيب المتخصص في مجال العلوم السياسية ومدير “مشروع جامعة شيكاغو لدراسة المسائل الأمنية والتهديدات” في جامعة شيكاغو. لم تؤد تسعة أشهر من العمليات الإسرائيلية العسكرية الجوية والبرية في قطاع غزة إلى هزيمة “حماس”، ولم تقترب إسرائيل بعد من قهر هذه الجماعة الإرهابية. بل على العكس، فإن “حماس” وفق دلائل محددة ذات صلة، باتت اليوم أقوى مما كانت عليه في السابع من أكتوبر (تشرين الأول). منذ هجوم “حماس” الفظيع في أكتوبر الماضي، قامت إسرائيل باجتياح شمال وجنوب غزة بنحو 40 ألف جندي من القوات البرية، مشردة بالقوة 80 في المئة من سكان القطاع ومزهقة أرواح أكثر من 37 ألف شخص، وملقية 70 ألف طن من القذائف على أراضي القطاع في أقل تقدير (مما يتخطى مجموع قوة القنابل التي ألقيت على لندن ودرسدن وهامبورغ طوال الحرب العالمية الثانية)، وبذلك دمرت أو أضرت أكثر من نصف المباني في غزة، وقيدت مصادر المياه والطعام والكهرباء بالنسبة إلى القطاع، مما وضع السكان كافة هناك على شفا المجاعة. وعلى رغم إشارة مراقبين كثر إلى لاأخلاقية الأعمال الحربية التي تمارسها إسرائيل، فقد داوم القادة الإسرائيليون في الادعاء بأن هدف إلحاق الهزيمة بـ”حماس” وإضعاف قدرتها على شن هجمات جديدة ضد المدنيين الإسرائيليين يجب أن يحظى بالأولوية إزاء أية مخاوف متعلقة بحياة الفلسطينيين. إذ ينبغي قبول معاقبة سكان غزة كأمر ضروري لتدمير قوة “حماس”. لكن بفضل الهجوم الإسرائيلي هذا فإن قوة “حماس” تزداد في الواقع، ومثلما ازدادت قوة الـ”فيتكونغ” Viet Cong خلال عمليات “التعقب والتدمير” الكبرى التي شملت معظم أراضي فيتنام الجنوبية بين عامي 1966 و1967، حين أرسلت الولايات المتحدة جنودها إلى ذاك البلد لعكس مسار الحرب في مصلحتها، في محاولة أثبتت عقمها في نهاية المطاف، تبقى “حماس” قادرة على التحرك وتحولت قواها إلى فرق حرب عصابات شرسة وفتاكة في غزة، معاودة تنفيذ العمليات المهلكة من جديد في المناطق الشمالية التي يفترض أن القوات الإسرائيلية سيطرت عليها وطهرتها قبل أشهر قليلة. ولا يتمثل الخلل المركزي في الاستراتيجية الإسرائيلية هذه بفشل تكتيكات محددة، ولا بقيود مفروضة على القوة العسكرية، تماماً مثلما لم يعلل فشل استراتيجية الولايات المتحدة العسكرية في فيتنام بقلة الخبرات التقنية لدى جنودها، أو بقيود سياسية أو أخلاقية تجاه استخدام القوة العسكرية. بل إن الفشل الشامل هذا سببه سوء فهم جسيم لمصادر قوة “حماس”. إذ إن إسرائيل فشلت في إدراك أن المذبحة والدمار اللذين أنزلتهما على غزة لم يؤديا سوى إلى تقوية عدوها. مغالطة عدد القتلى وعلى مدى أشهر كان تركيز حكومات ومحللين منصباً على عدد مقاتلي حركة “حماس” الذين قتلهم جيش الدفاع الإسرائيلي، وكأن تلك المحصلة تمثل العنصر الأهم الذي يشير إلى نجاح الحملة الإسرائيلية ضد تلك الحركة. ولا شك أن عدداً كبيراً من مقاتلي “حماس” لاقوا حتفهم فعلاً. إسرائيل تقول إن 14 ألفاً من الـ30 ألفاً أو الـ40 ألف مقاتل الذين كانوا في صفوف “حماس” قبل الحرب هم الآن في عداد القتلى، فيما تصر “حماس” على أنها لم تفقد أكثر من ستة آلاف أو ثمانية آلاف مقاتل. مصادر الاستخبارات الأميركية من جهتها تشير إلى أن العدد الحقيقي لقتلى “حماس” يقدر بنحو 10 آلاف مقاتل. بيد أن التركيز على هذه الأرقام في الحقيقة يصعب التقييم الفعلي لقوة “حماس”. إذ على رغم خسائرها تبقى حركة “حماس” مسيطرة عملياً على أجزاء واسعة من غزة، بما فيها تلك المناطق التي يتجمع فيها المدنيون. وما زالت الحركة تحظى بدعم واسع من أبناء غزة، مما يسمح لمقاتليها بوضع اليد على المساعدات الإنسانية بكل سهولة والعودة إلى المناطق التي سبق “تطهيرها” من قبل القوات الإسرائيلية. وبحسب تقييم إسرائيلي صدر حديثاً في هذا الإطار فإن عدد مقاتلي “حماس” الآن في مناطق غزة الشمالية التي سيطر عليها جيش الدفاع الإسرائيلي في الخريف وخسر مئات الجنود، هو أكبر من عدد مقاتليها الموجودين في رفح الجنوبية. وتشن “حماس” اليوم حرب عصابات (متنقلة) تتضمن نصب المكامن وزراعة العبوات (المصنوعة غالباً من مواد غير منفجرة أو ذخائر استولى عليها مقاتلوها من الجيش الإسرائيلي)، ممددة العمليات العسكرية التي رأى مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لشؤون الأمن القومي في الآونة الأخيرة أنها قد تستمر حتى نهاية العام 2024 في أقل تقدير. وما زالت “حماس” قادرة على شن هجمات داخل إسرائيل. إذ يرجح أن يكون لديها نحو 15 ألف مقاتل معبئين، أي أكثر بـ10 مرات تقريباً من عدد المقاتلين الذين نفذوا هجمات السابع من أكتوبر. إلى هذا فإن أكثر من 80 في المئة من شبكة الأنفاق التي تملكها الحركة ما زال صالحاً لوضع الخطط وتخزين الأسلحة والتهرب من المراقبة الإسرائيلية والخطف وتنفيذ الهجمات والعمليات. ومعظم قادة “حماس” الكبار في غزة ما زالوا على قيد الحياة. لذا يمكن القول باختصار إن الهجوم السريع التي قامت به إسرائيل في الخريف الماضي، أفسح المجال لحرب استنزاف طاحنة من شأنها أن تكسب “حماس” القدرة على مهاجمة المدنيين الإسرائيليين حتى لو واصل الجيش الإسرائيلي حملته في جنوب غزة. دمار مخيم جباليا للاجئين في شمال غزة، أكتوبر 2023 (أنس الشريف/رويترز) العمليات الفاشلة لمكافحة حرب العصابات في الماضي غالباً ما ركزت على عديد مقاتلي العدو. جيش الدفاع الإسرائيلي اليوم منخرط في لعبة “ضرب الخلد” المعهودة التي استنفدت القوات الأميركية في أفغانستان طوال أعوام. إذ إن الاهتمام الهوسي بعديد الخصم يميل إلى إرباك النجاحات التكتيكية والاستراتيجية، وإلى تجاهل الدلائل الرئيسة التي من شأنها إظهار ما إذا كانت قوة الخصم الاستراتيجية في حالة تصاعد حتى لو كانت الخسائر المباشرة عند هذا الخصم في حالة تراكم. فمصدر القوة الأساس عند الجماعات الإرهابية أو الميليشياوية لا يتمثل بعدد مقاتلي جيلها الراهن، بل بإمكانية كسبها للمؤيدين مستقبلاً في أوساط مجتمعها المحلي. مصادر القوة قوة الجماعات المقاتلة كـ”حماس” لا تتأتى من العوامل المادية النمطية التي يعتمدها المحللون لتقدير قوة الدول، والتي تتضمن حجم اقتصاداتها ومقدار التطور التكنولوجي لجيوشها ومدى التأييد الخارجي الذي تحظى به وقوة أنظمتها التربوية والتعليمية. بل على العكس من ذلك كله، فإن المصدر الأهم للقوة بالنسبة إلى “حماس” وغيرها من الكيانات المسلحة التي لا تشكل دولاً، والتي يشار إليها عموماً على أنها جماعات “إرهابية” أو “ميليشياوية”، يأتي من قدرتها على التجنيد وبخاصة من قدرتها على جذب أجيال مقاتلين وناشطين جديدة تتولى تنفيذ حملات تنظيماتها المميتة، وتظهر استعداداً للموت من أجل القضية. وهذه القدرة على التجنيد تعود في الأصل إلى عامل واحد هو مقدار الدعم وكثافة التأييد اللذين تحظى بهما الجماعة من مجتمعها. والدعم المجتمعي للجماعة الإرهابية يسمح لها بإعادة تنظيم صفوفها واكتساب المصادر وتفادي الانكشاف والاستحواذ عموماً على مزيد من المصادر البشرية والمادية اللازمة لتجريد حملات العنف المميتة واستدامتها. معظم الإرهابيين وذاك يشمل الجماعات الإسلامية (المسلحة) في الشرق الأوسط هم مقاتلون متطوعون، قادمون مباشرة من الشوارع وهم في الغالب إما غاضبون من خسارة أصدقاء أو أفراد من عائلاتهم، أو أن غضبهم صادر عموماً من تعرض بيئاتهم لحملة عسكرية كبيرة شنتها دولة قوية. وغالباً ما يسعى أولئك الأفراد إلى مجندين بوسع هوياتهم الانكشاف للسلطات الأمنية لولا استعداد أفراد المجتمع الأكبر لحمايتهم. وتميل الجماعات الإرهابية للقتال بأسلحة إما جرى ابتكارها وتحويلها باستخدام أدوات مدنية (أي مواد وأدوات الحياة المدنية العادية)، أو تم الاستيلاء عليها من قوى الدولة الأمنية، وذاك غالباً ما يحصل عبر معلومات استخباراتية ومساعدة قدمها أفراد من المجتمع المحلي. لا يوجد حل وحيد عسكري لإلحاق الهزيمة بـ”حماس” والأهم من ذلك أن الدعم المجتمع ضروري لتعزيز نزعة الاستشهاد. إذ إن الأشخاص يظهرون ميلاً أقل للتطوع في المهام ذات الخطورة العالية لو مرت تضحياتهم من دون أن ينتبه إليها أحد. المجتمع الذي يكرم قتلى الجماعات الإرهابية يسهم في استدامة هذه الجماعات. فالشهادة تضفي الشرعية على الأفعال الإرهابية وتشجع تطوع أشخاص جدد لمتابعة تلك الأفعال. الإرهابيون سيقومون بما هو مناسب بالنسبة إليهم، أما المجتمع فهو من سيقرر بنهاية المطاف إن كانت التضحية التي قام بها فرد من الأفراد ستمنح مكانة رفيعة، أم ستعد بدل ذلك غير عقلانية وإجرامية تستأهل الازدراء. ومن غير المفاجئ في هذا الإطار أن تبذل الجماعات الإرهابية عموماً جهوداً كبيرة بغية كسب ود مجتمعها المحلي. إذ من خلال الاندماج في المؤسسات الاجتماعية كالمدارس والجامعات والجمعيات الخيرية والتجمعات الدينية تغدو الجماعات الإرهابية جزءاً من نسيج مجتمعها المحلي، بالتالي تصبح أكثر قدرة على استمالة المجندين واكتساب عطف السكان المدنيين وتأييدهم. حالات ونماذج عديدة عرفناها تظهر هذه الديناميكيات. “حزب الله” مثلاً ازدهر مع تنامي الدعم الشعبي له في الأوساط الشيعية (اللبنانية) إبان الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان من 1982 إلى 1999، إذ تطور من جماعة إرهابية سرية إلى حزب سياسي رئيس بجناح عسكري يضم اليوم زهاء 40 ألف مقاتل. كذلك وعلى المنوال ذاته أسهم الدعم القوي الذي أمنته البيئات الاجتماعية في تعزيز الحملات الإرهابية المديدة لجماعات “نمور التاميل” في سريلانكا، و”الدرب المضيء” في البيرو، و”حزب العمال الكردستاني” في تركيا، وحركة “طالبان” في أفغانستان، وما يعرف بتنظيم “داعش” وتنظيم “القاعدة” في عديد من البلدان. وفي هذا الإطار يمكن لخسارة الدعم المجتمعي أن تمثل خسارة كارثية للجماعات الإرهابية. فإثر الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 كان ارتفع عدد مقاتلي الميليشيات السنية من خمسة آلاف مقاتل في ربيع 2004، إلى 20 ألف مقاتل في خريف العام ذاته، ووصل إلى 30 ألف مقاتل خلال فبراير (شباط) 2007، وفق تقديرات أميركية. إذ كلما تصاعد عدد الذين يقتلهم الأميركيون، ازدادت سرعة نمو الجماعات المسلحة. وهذه الجماعات لم تنهار فعلاً إلا عندما تحولت الولايات المتحدة إلى اعتماد مقاربة جديدة في سياستها بالعراق، مقدمة عبر تلك المقاربة محفزات سياسية واقتصادية تشجع العشائر السنية على معارضة الإرهابيين. وقد أدى ذاك التحول في نهاية المطاف إلى القضاء على التمرد المسلح، إذ أسهم انتهاء الدعم المجتمعي في تعزيز حركة انشقاقات واسعة وتوفير المعلومات الاستخباراتية المفيدة وصعود قوى سنية معارضة تحت مسمى “صحوة الأنبار”. ومع حلول عام 2009، انهار التمرد المسلح نتيجة أمر أساس واحد هو انتهاء الدعم المجتمعي الذي جعل من مهمة الإرهابيين لإعادة تنظيم صفوفهم مهمة مستحيلة. اتجاهات التأييد والدعم هذه الديناميكيات في الواقع تساعد في تفسير بقاء سلطة “حماس” في ظل الحرب مع إسرائيل. ولفهم القوة الحقيقية لهذه الحركة على المحللين الانتباه إلى أبعاد الدعم المختلفة التي تحظى بها “حماس” في أوساط الفلسطينيين، وذاك يتضمن قوة شعبيتها مقارنة مع ضعف شعبية منافسيها السياسيين، ومقدار القبول الذي يبديه الفلسطينيون تجاه عنف “حماس” ضد المدنيين الإسرائيليين، وأعداد الفلسطينيين الذين فقدوا أفراداً من عائلاتهم خلال الاجتياح الإسرائيلي الراهن لغزة. هذه العوامل تحديداً أكثر من العوامل المادية، توفر المقياس الأمثل لفهم قدرة “حماس” على المضي في تنفيذ حملة إرهابية مطولة. ويمكن لاستطلاعات آراء الفلسطينيين في هذا السياق الإسهام في تبيان مقدار الدعم الاجتماعي المتوافر لـ”حماس”. ومن هنا، ومراعاة لتحديات استطلاع آراء سكان غزة منذ السابع من أكتوبر، فإن “المركز الفلسطيني للسياسات والأبحاث الاستقصائية”، وهو مركز استطلاعات الرأي الذي أنشئ عام 1993 بعد اتفاقات أوسلو والذي يتعاون مع المؤسسات الإسرائيلية، قام بتضمين استطلاعاته مقابلات مع لاجئين موجودين في ملاذات موقتة، وقام تقريباً بمضاعفة العدد المعتاد للمتجاوبين مع استطلاعاته، وذلك نظراً للتوزيعات السكانية غير المؤكدة والمتبدلة في القطاع. وجاءت الاستطلاعات الخمسة التي أجراها هذا المركز، أولها في يونيو (حزيران) 2023، وآخرها الاستطلاع المكتمل في يونيو 2024، لتظهر نتائج صادمة: في كل مجال تقريباً اليوم تحظى “حماس” بدعم الفلسطينيين بمعدل يفوق ما كانت تحظى به قبل السابع من أكتوبر 2023. لقد ازداد الدعم السياسي لـ”حماس” خصوصاً بالمقارنة مع منافسيها. إذ مثلاً على رغم أن “حماس” ومنافستها الأساس حركة “فتح” تمتعتا بمعدلات دعم متساوية تقريباً في يونيو 2023، فإن الاستطلاع الجديد الذي قام به المركز الفلسطيني أظهر أن معدل داعمي “حماس” في أوساط الفلسطينيين سجل ارتفاعاً مضاعفاً (40 في المئة مقارنة بـ20 في المئة لحركة “فتح”). الهجوم الإسرائيلي لا يحشد الفلسطينيين ضد “حماس” عملية القصف والاجتياح البري لغزة من قبل الإسرائيليين لم تسهم في تقويض الدعم الفلسطيني للهجمات ضد المدنيين الإسرائيليين داخل إسرائيل، ولم تقلل كثيراً من التأييد الفلسطيني لهجوم السابع من أكتوبر بحد ذاته. ففي مارس (آذار) 2024 رأى 73 في المئة من الفلسطينيين أن “حماس” كانت محقة في تنفيذ هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. وهذه الأرقام بالغة الارتفاع ليس فقط بعد أن استدعى هجوم السابع من أكتوبر حملة وحشية من إسرائيل، بل أيضاً إزاء حقيقة أن عدداً أقل من الفلسطينيين، 53 في المئة، كانوا في سبتمبر (أيلول) 2023 أيدوا تنفيذ هجمات مسلحة على مدنيين إسرائيليين. وتتمتع “حماس” اليوم بلحظة “إجماع وطني” وذاك يفسر تمنع أبناء غزة عن تزويد القوات الإسرائيلية بمعلومات عن أمكنة وجود قادة “حماس” والرهائن الإسرائيليين. وقد بدا التأييد للهجمات ضد المدنيين الإسرائيليين في حالة ارتفاع خصوصاً في أوساط فلسطينيي الضفة الغربية، إذ بات معدل هذا التأييد في الضفة الآن مساوياً تماماً لمعدل مؤيدي هذه الهجمات المرتفع دوماً في غزة، مما يظهر المكاسب الكبيرة التي حققتها “حماس” في أوساط المجتمع الفلسطيني منذ السابع من أكتوبر. كذلك تظهر نتائج الاستطلاع كيفية تأثير الحملة العسكرية الإسرائيلية في الفلسطينيين. وقد بدا الثقل المتوقع للحرب على الفلسطينيين شديد الأعباء اعتباراً من مارس 2024. فأفاد 60 في المئة من الفلسطينيين بقطاع غزة بمقتل فرد من أفراد عائلتهم خلال الحرب الراهنة، فيما أفاد أكثر من ثلاثة أرباعهم بمقتل أو إصابة فرد من عائلتهم، وهذان الرقمان مرتفعان على نحو ملحوظ مقارنة بالمعدل الذي كان سائداً في ديسمبر (كانون الأول) 2023. على أن هذا العقاب (الجماعي) لا يردع الفلسطينيين وهو يفشل في تقليص تأييدهم للهجمات المسلحة ضد المدنيين الإسرائيليين ودعمهم لـ”حماس”. صلاة بين أنقاض مسجد في خان يونس، غزة، يونيو 2024 (محمد سالم/رويترز) وقبل السابع من أكتوبر 2023 كانت “حماس” استقرت قوة سياسية، وهي بالمناسبة بدت في حالة تراجع. وخشيت الحركة من أن يتم تهميش قضيتها – ومأساة الفلسطينيين عموماً – على ضوء اتفاقيات إبراهيم، وهي تفاهمات سعت إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل والبلدان العربية. وقبل هجومها السافر على إسرائيل في السابع من أكتوبر، راحت “حماس” تفكر بمستقبل غير مرغوب، تتضاءل فيه أسباب دعم الفلسطينيين لها يوماً بعد يوم. لكن بعد السابع من أكتوبر تصاعد دعم الفلسطينيين لـ”حماس” على نحو يضر بأمن إسرائيل. أجل، لقد قتلت إسرائيل عدة آلاف من مقاتلي حركة “حماس” في غزة بيد أن هذه الخسائر التي أنزلت بجيل المقاتلين الراهن يعوض عنها سلفاً بتصاعد التأييد لـ”حماس”، بالتالي في قدرة الحركة على تحسين أنشطة تجنيد الجيل اللاحق. وفي الأثناء، وإلى أن يصل دور أولئك المجندين الجدد تشير كل المعطيات إلى أن مقاتلي “حماس” اليوم هم على الأرجح أكثر حرصاً من أي وقت مضى على المضي في حرب عصابات طويلة الأمد ضد كل الأهداف الإسرائيلية التي يمكن الوصول إليها. قوة الدعوة العقاب الهائل الذي أنزلته إسرائيل بقطاع غزة يدفع فلسطينيين كثر بالتأكيد لمضاعفة عدائهم تجاه الدولة اليهودية. لكن لماذا تستفيد “حماس” من ردة الفعل هذه؟ إذ إن هجومها في نهاية المطاف كان السبب المباشر للحرب التي سوت أنحاء شاسعة من غزة بالأرض وقتلت كثيراً من الناس. جزء كبير من الجواب عن هذا السؤال يكمن في الحملة الدعائية المتطورة التي تعتمدها “حماس”، والتي من خلالها تضع تأويلاً للأحداث بحسب مصلحتها، وتنسج سرديات تساعدها في اكتساب مزيد من المؤيدين. إذ إن الدعاية السياسية (البروباغندا)، وفق المحلل النفسي الأميركي إدوارد بيرنيز، لا تعتمد كثيراً على اختراع وترسيخ الخوف والغضب بمقدار اعتمادها على إعادة تصويب هذه المشاعر وتوجيهها نحو أهداف ملموسة ومحددة. جهود “حماس” في هذا الإطار تشكل مثالاً رئيساً على هذا التكتيك. فالحركة منذ أن بدأت الحرب قامت بنشر كمية هائلة من المواد على الإنترنت في الغالب، سعياً إلى حشد الشعب الفلسطيني حول قيادتها وخلف محاولتها تحقيق النصر على إسرائيل. وفي هذا الإطار قام “فريق تحليل البروباغندا العربية” – الذي يضم مجموعة من اللغويين العرب المتخصصين في جمع وتحليل البروباغندا العربية التي تنشرها الجماعات المسلحة – ضمن “مشروع جامعة شيكاغو لدراسة المسائل الأمنية والتهديدات”University of Chicago Project on Security and Threats بمراجعة البروباغندا العربية الصادرة من “حماس” و”كتائب القسام”، جناحها العسكري، والمنشورة على القناة الرسمية لهذه الكتائب على “تيليغرام” في أعقاب هجوم السابع من أكتوبر. هذه القناة على “تيليغرام” التي يتابعها أكثر من 500 ألف شخص تنشر رسائل وصوراً ومقاطع فيديو ومواد دعائية أخرى كل يوم تقريباً منذ هجمات السابع من أكتوبر. وقد عمل تقرير وضعه رئيس هذا الفريق البحثي محمد الجوهري على تحليل أكثر من 500 مقطع دعائي من السابع من أكتوبر 2023 إلى الـ27 من مايو 2024. ومن غير المعروف كم هو عدد الفلسطينيين الذين يستهلكون هذه المواد المنشورة على الإنترنت، لكن غزة والضفة الغربية متصلتان يومياً بالإنترنت، ولو على نحو متقطع أحياناً. وتعكس هذه المواد الرقمية التي تنشرها “حماس” على الإنترنت جهودها الدعائية المشابهة في الشبكات الاجتماعية المحلية. وتتركز المواد على ثلاثة موضوعات، لا خيار للشعب الفلسطيني سوى القتال لأن إسرائيل عازمة على ارتكاب فظائع لا توصف بحق جميع الفلسطينيين حتى غير المشاركين في عمليات وأنشطة عسكرية، ويمكن للفلسطينيين أن يلحقوا الهزيمة بإسرائيل على أرض المعركة، والمقاتلون الذين يسقطون في المعارك لهم المجد والخلود. ونشرت “حماس” عدداً كبيراً من مقاطع الفيديو والبيانات وغيرهما من المواد كي تظهر أن الهجوم على إسرائيل في السابع من أكتوبر كان رد فعل ضرورياً ومشروعاً على الاحتلال الإسرائيلي وعلى الفظائع وعمليات القمع المرتكبة ضد الشعب الفلسطيني، ومن بينها عمليات الاقتحام المتكررة لحرم المسجد الأقصى في القدس من قبل قوات الأمن الإسرائيلية وجماعات الناشطين والمستوطنين الإسرائيليين. خذوا مثلاً على هذا بياناً لـ”حماس” نشر في الأصل يوم الـ22 من يناير (كانون الثاني) وعمم على نطاق واسع حتى في الإعلام الإسرائيلي. وهذا البيان المسهب يفسر بالعمق مسوغات حركة “حماس” في مهاجمة إسرائيل، مركزاً على ما يصفه بالمعاناة طويلة الأمد جراء تصرفات الحكومة الإسرائيلية والمستوطنين، والتي تتضمن اقتحامات إسرائيلية للمسجد الأقصى في القدس وقيوداً مفروضة على المصلين الفلسطينيين هناك، والتوسع المستمر للمستوطنات في الضفة الغربية، وزعماً عن معاملة فظيعة بحق المعتقلين الفلسطينيين في إسرائيل، وحصاراً وطوقاً تفرضه إسرائيل على قطاع غزة، وسياسات مفروضة في الضفة الغربية تحاكي سياسات الفصل العنصري. هذا البيان هو واحد فقط من عشرات المنشورات التي تعدد النقاط ذاتها. وعديد من مقاطع الفيديو والصور والملصقات (التي تنشرها “حماس” ضمن حملاتها الدعائية) تبرز قوة الحركة العسكرية، فتستعرض هجمات ناجحة على أهداف إسرائيلية، خصوصاً عربات عسكرية ودبابات. وتهدف هذه المنشورات إلى إبراز قوة حركة “حماس” وفعاليتها، وتشير إلى أن الحركة قادرة على إلحاق ضرر كبير بعدوها المتفوق تكنولوجياً. ويظهر المقاتلون الحمساويون في هذه المواد الدعائية بكامل عتادهم العسكري وبذلاتهم التكتيكية، مجهزين بالخوذات والنظارات الواقية والأسلحة المتطورة، مما يشير إلى جهوزيتهم لتنفيذ المهام. كذلك فإن منشورات دينية رمزية كالمقاطع والآيات القرآنية تقدم بكثافة ضمن المواد الدعائية كي تضفي على ما تقوم به “حماس” بعداً روحياً. وتسهم الدعاية السياسية هذه في رفع المقاتلين المقتولين إلى مصاف الشهداء الذين سقطوا في مواجهة إسرائيل وفي سبيل قضية نبيلة ومقدسة. ويلهم تمجيد شهادة أولئك المقاتلين متطوعين جدد محتملين. وتتماشى هذه الدعاية السياسية التي تعتمدها “حماس” منذ السابع من أكتوبر تماشياً تاماً مع النتائج التي توصلت إليها استطلاعات “المركز الفلسطيني للسياسات والأبحاث الاستقصائية” عن مواقف الفلسطينيين وآرائهم. إذ إن ما تظهره هذه الاستطلاعات من تناسق شديد بين مواد “حماس” الدعائية والتأييد المتنامي لها خصوصاً وللكفاح المسلح ضد إسرائيل عموماً يبين نجاح “حماس” في تحفيز هذا التأييد، أو تمكن دعايتها من أن تعكس الأسباب الرئيسة له. وفي الحالتين تراهن “حماس” على تصاعد الحرب لتشدد الروابط بينها ومجتمعها. الحقيقة الصارخة لقد آن الأوان اليوم بعد تسعة أشهر من الحرب الطاحنة لمواجهة الحقيقة القاسية، لا يوجد حل وحيد عسكري لإلحاق الهزيمة بـ”حماس”. فهذه الحركة ليست فقط العدد الراهن لمقاتليها. وهي أيضاً أكثر من مجرد فكرة تستدعي التعاطف. “حماس” حركة سياسية واجتماعية يكمن العنف في صلبها، ولن تضمحل في أي وقت قريب. إن استراتيجية العمليات العسكرية المكثفة والراهنة التي تعتمدها إسرائيل قد تقتل بعض مقاتلي “حماس” لكن هذه الاستراتيجية لا تسهم إلا في تقوية الروابط بين “حماس” ومجتمعها المحلي. لقد واصلت إسرائيل على مدى تسعة أشهر عملياتها في غزة من دون أية قيود فعلية ومع القليل من التقدم الواضح باتجاه أهدافها المعلنة، بيد أن “حماس” لم تنهزم وليست على وشك الهزيمة، وقد باتت قضيتها تحظى بتأييد أكبر، وغدت دعاويها أقوى مما كانت عليه قبل السابع من أكتوبر. فمع غياب أية خطة لمستقبل غزة والشعب الفلسطيني يمكن للفلسطينيين أن يقبلوها، سيستمر الإرهابيون بالعودة، وبأعداد أكبر. إنما يبدو أن القادة الإسرائيليين ليسوا أكثر استعداداً مما كانوا عليه قبل السابع من أكتوبر لوضع مثل هذه الخطة السياسية القابلة للتطبيق. وليس في الأفق أي ملمح لنهاية المأساة التي ما زالت تتكشف في غزة. الحرب ستستمر، وسيموت مزيد من الفلسطينيين، وسيتصاعد التهديد لأمن إسرائيل. مترجم عن “فورين أفيرز”، الـ21 من يونيو 2024 المزيد عن: فورين أفيرزحماسحرب القطاعإسرائيلقطاع غزة 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post الشرطة الدنماركية تعثر على نحو طن من المتفجرات next post سكاي نيوز عربية : سيناريو مرعب لحرب لبنان You may also like ساطع نورالدين يكتب عن: “العدو” الذي خرق حاجز... 24 نوفمبر، 2024 عبد الرحمن الراشد يكتب عن: شالوم ظريف والمصالحة 24 نوفمبر، 2024 حازم صاغية يكتب عن: لبنان وسؤال الاستقلال المُرّ 24 نوفمبر، 2024 مها يحيى تكتب عن: غداة الحرب على لبنان 24 نوفمبر، 2024 فرانسيس توسا يكتب عن: “قبة حديدية” وجنود في... 24 نوفمبر، 2024 رضوان السيد يكتب عن: وقف النار في الجنوب... 24 نوفمبر، 2024 مايكل آيزنشتات يكتب عن: مع تراجع قدرتها على... 21 نوفمبر، 2024 ما يكشفه مجلس بلدية نينوى عن الصراع الإيراني... 21 نوفمبر، 2024 غسان شربل يكتب عن: عودة هوكستين… وعودة الدولة 19 نوفمبر، 2024 حازم صاغية يكتب عن: حين ينهار كلّ شيء... 19 نوفمبر، 2024