هاينريخ وتوماس مان (1871 – 1950)- ضغوط الأخ الأكبر (غيتي) ثقافة و فنون رواية “خيالية” عن الأيام الثلاثة الأصعب في حياة توماس مان السياسية by admin 10 فبراير، 2024 written by admin 10 فبراير، 2024 256 عندما قطع صاحب “الموت في البندقية” جسوره مع النازيين تحت ضغط من أخيه الذي لن يغفر له تردده اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب قبل أن يتذكر القارئ وهو يبدأ الغوص في رواية الكاتبة الهولندية بريتا بوهلر المعنونة “القرار” والصادرة قبل نحو عقد ونصف العقد، سيبدي شيئاً من الدهشة حين يحلو له أن يراجع يوميات الكاتب الألماني توماس مان باحثاً عما يذكره في تلك اليوميات حول الأيام الثلاثة التي تدور فيها الأحداث التي ترويها بوهلر في كتابها. وهي تلك الواقعة بين الـ31 من يناير (كانون الثاني) 1936 والثاني من فبراير (شباط) من العام نفسه. فلئن كان القارئ قادراً على أن يتلمس وبقلم مان نفسه أهمية ما لتلك الأيام من خلال القرارات الصعبة التي وجد نفسه مجبراً على اتخاذها، لن يخيل إليه أبداً أن الموقف يمكنه أن يملأ الـ200 صفحة التي يستغرقها في حياة توماس مان تفكيره حول القرار الذي اتخذه يومها مريحاً ضميره (أو بالأحرى خاضعاً للضغوط التي راح يمارسها عليه أخوه هاينريخ بين آخرين، كي يقرر مقاطعة السلطات النازية أسوة بمئات المبدعين والمفكرين والمناضلين الألمان وغير الألمان الآخرين). ولعل صعوبة الأمر أتت ناتجة من أن مان كان حينها يقيم في سويسرا وليس في وطنه الألماني الذي كان قد بات تحت رحمة هتلر ونازييه، مما يعني بالطبع أن قراره سيكون نابعاً من ذاته لا من حصار سياسي مفروض عليه في وقت كان النازيون يحرقون الكتب واللوحات الفنية، “المنحطة” في نظرهم، ويمنعون الأفلام المفسدة ويدمرون العروض المسرحية وكان هو في مأمن بخاصة أن النازيين لم يضايقوه أو يمسوا أعماله. توماس مان (1875 – 1955)- 3 أيام من الحيرة (غيتي) نحو القرار الأصعب في ذلك الحين كان توماس مان يتنعم وسط مناخ الحياد المهيمن على سويسرا ويستمتع بمشاهدة الأفلام الأجنبية وتباع كتبه وتترجم في كل مكان، فيما تأتي الأنباء من ألمانيا المجاورة مسهبة في الإشارة إلى أخطار الحكم النازي بخاصة أن الفوهرر راح يتحدث عن ثلاثي يخلفه في منصبه بشكل لا يتضمن أي قسط من الجدية وذلك تحت قعقعة الجزم العسكرية والأسلحة المصنعة لدى “كروب” بصورة تدعمها وتيرة متسارعة تتضافر مع “استيراد” كميات هائلة من الكاوتشوك الذي يستخدم عادة لصناعة إطارات السيارات العملاقة، سيستنتج الكاتب الفرنسي إريك أورسينا، في روايته “المعرض الكولونيالي” الصادرة بعد ذلك بنصف قرن بأن المراقب الحصيف كان في إمكانه أن يخمن في تلك الفترة المبكرة أن ثمة حرباً كبرى تلوح في الأفق. صحيح أن مان كان في مأمن من ذلك كله ولكن ها هي ذي رواية “القرار” تخبرنا أن الكاتب الكبير كان مدفوعاً خلال تلك الأيام بالذات إلى اتخاذ قرار سيبدو لاحقاً، الأصعب في حياته، لأنه سيتخذه تحت ضغط أخيه هاينريخ كما تحت ضغط عدد من أفراد أسرته على الضد مما ستراه كاتيا زوجة الكاتب التي كان لسان حالها يقول: “ما دمنا في مأمن، فلنتريث إذ يمكن لكل هذا أن يتبدل فنخرج من المعمعة سالمين وبأقل الخسائر الممكنة!”. والحقيقة أن توماس يخبرنا في يومياته أشياء كثيرة عن الإطار العام لذلك الصراع الذي بدا في نهاية الأمر، صراعاً في داخله يتسم بقدر كبير من الصعوبة لمجرد أنه كان حراً في اتخاذ قراره بنفسه. ويقيناً أن هذا الجانب “الشكسبيري” من الحيرة التي يسببها التفكير لصاحب العلاقة، هو ما وجدته الروائية الهولندية جديراً بأن يشكل موضوعاً روائياً حقيقياً لأنه في النهاية ينتمي إلى تيار وعي يشتغل على سيكولوجية الكاتب أمام قرار يتعين عليه اتخاذه بنفسه. مجموعة من كتب توماس مان (أمازون) بين الحدث والموقف منه والحقيقة أن ذلكم بالذات ما كمنت فيه صعوبة التأقلم مع رواية “القرار” التي عرفت فيها الكاتبة ليس بالطبع كيف تخلق “الحدث” استقاء من الظرف الحقيقي الذي وجد توماس مان نفسه فيه: إن روايته المعنية التي كان الكاتب قد أنجز كتابتها منذ أيام وصلت إلى ناشره الذي سره في رد أول على رسائل مان أن تكون محايدة بصورة أو بأخرى مما يسهل طباعتها وانتشارها في ألمانيا النازية من دون عقبات، بل يمكنها أن تنال رضا السلطات النازية باعتبارها من تحبير الكاتب الألماني الأكبر الذي على رغم وجوده في المنفى السويسري، لم يستغل ذلك كي يساير أخاه وكثراً من المبدعين الألمان الملتزمين سياسياً في معركتهم ضد النازية، من ثم يمكن لهذه الأخيرة أن تواجه العالم به باعتباره في أضأل الحالات “لا يبدي عداءً حيالها مما يجعل العالم يستنتج أن المعادين لها إنما هم عملاء للخارج سخروا مواهبهم للنيل منها، وما هكذا موقف مان”. وطبعاً، كما أشرنا أعلاه، لم يكن هاينريخ يرى ذلك، ومن هنا راحت ضغوطه على أخيه تتفاقم. وهي الضغوط التي تشكل حيرة توماس إزاءها موضوع تلك الرواية الهولندية التي ستظهر بعد نصف قرن ونيف جاعلة من توماس مان بطلها ومن حيرته حبكتها. من مان إلى الموقف السياسي والحال أن قراءة الكاتبة الهولندية سطوراً قليلة جاءت ضمن إطار ما خطه توماس مان حول نشاطاته في تلك الأيام السويسرية الثلاثة، كانت كافية لها لتكتب روايتها من دون أن يكون ثمة ما يضمن في الأصل أن يكون ما ملأت به صفحات “القرار” حقيقياً. فهنا بالطبع يأتي تدخل الكاتبة تدخلاً يعود إلى الموقف العام للمبدعين، وغيرهم من المناضلين السياسيين الألمان، وربما في العالم الخارجي أيضاً، من النازية، وبصرف النظر عما كان توماس يفكر فيه حقاً. ففي الرواية، التي لا شك لا يمكن القول إنها تبدو في فكرانيتها شديدة البعد عما حدث حقاً – وبالتحديد، عما نجد إرهاصاته وتفسيراته المنطقية مع التبدل الذي سيطرأ على موقف توماس نفسه من هتلر ونازييه، في كتابات هذا الروائي اللاحقة والتي، وربما لا نستبق الأمور و”الأحداث الروائية” كثيراً هنا لنقول إنه في نهاية الأمر سيكتب تلك الرسالة التي كان أخوه، في الواقع التاريخي كما في الرواية الهولندية، يتمنى عليه كتابتها ليبعث بها إلى ناشره الممالئ للنظام، طالباً منه عدم نشر الرواية كموقف معلن وعنيف ضد السياسة السائدة في البلد. هاملت على الطريقة الألمانية في الرواية إذاً، تمكنت الكاتبة من أن تنشر على مدى فصول وصفحات رائعة تصوراً يغوص عبر 400 أو 500 كلمة لا أكثر حول الموضوع دونها توماس مان في يومياته، تلك الحيرة “الهاملتية” التي استبدت به تجاه ما ينبغي أن يقرره. فهل تراه سيقطع آخر الجسور التي تربطه بالسلطات الألمانية، تاركاً روايته تنشر مع ما يعنيه ذلك من مسايرة ما لبرلين مستفيداً من اتساع مقروئيته لدى القراء الألمان الذين ينتظرون أعماله عادة بلهفة، أم سيوقف نشرها مكتفياً بالراحة التي يؤمنها له منفاه المريح في بلد اللجوء، غير المعلن؟ والحال أن تلك الحيرة التي نصفها بـ”الهاملتية الشكسبيرية” بدت هنا في الرواية إبداعاً حقيقياً. ومن هنا، كما تقترح الروائية الهولندية، تلك “الفرضية” التي تضفي الأهمية الكبرى على الأيام الثلاثة التي غرق خلالها الكاتب وهو يقلب الأمور من كل جوانبها، ليس فقط بحثاً عن جواب، وإنما كذلك بحثاً عن هويته الخاصة متسائلاً، وغالبا بينه وبين نفسه: ترى هل بات عليَّ أن أختار بحسم بين السياسة والأدب، وهل يمكن للأدب أن يبقى محايداً في ظروف كتلك التي نعيشها؟ وأين أنا بين الحرب والسلام يتساءل الكاتب الذي تخبرنا الكاتبة ما كنا على أية حال، نعرفه منذ سنوات من أنه في عام 1914 اختار جانب الحرب، لكنه الآن يشعر أن الحرب ليست حربه (وربما سيشعر بأنه لا بد له أن يكون ضد هذه الحرب المقبلة؟) بل هل هو معاد للسامية مناصر لليهود؟ رسائل كثيرة لزمن قليل إذاً خلال تلك الأيام الثلاثة سيتبدل موقف توماس مان مرات عديدة، بل إنه حتى حين يقرر أخيراً بعث الرسالة التي يأمل منه أخوه إرسالها إلى ناشره يتعمد أن تكون غامضة، لكن الأمر ينتهي به إلى استعادتها ثم إرسالها مرتين أخريين خلال تلك الأيام نفسها، وذلك قبل أن يطلب لاحقاً من ناشره انتظاره بعض الوقت “لأسباب تقنية” كما يؤكد في برقية بعث بها إليه، بل إنه لم يتردد في أن يراسل السلطات النازية طالباً منها انتظار نشر روايته بعض الوقت لنفس تلك “الأسباب التقنية”. وطبعاً في نهاية الأمر نعرف أن الكاتب الكبير حسم أموره واحتفظ بروايته معلناً، ببطولة لن يدرك أحد أنها مفتعلة حينها، أن هتلر يجب أن يزول من الوجود لأن الشعب الألماني يستحق أن يعيش في ديمقراطية مطمئنة لا يمكن للنازيين تأمينها. ونعرف طبعاً أن أخاه هاينريخ كان من الذين أرضاهم موقف توماس لكنه سيأخذ عليه دائماً ذلك القدر من “التردد” الذي أبداه، وفي الأقل كما تفيدنا الكاتبة بوهلر في خاتمة روايتها. المزيد عن: توماس مانالأدب الألمانيالنازية 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post تحفة نادرة اختفت لعقود وظهرت في ناد للتعري في ليتوانيا next post Découvrez les lauréats des Sony World Photography Awards 2024 You may also like جواد الأسدي يسجن شخصياته المقهورة في “سيرك” 21 ديسمبر، 2024 عندما انبهر ترومان كابوتي بالمجرم في “بدم بارد” 21 ديسمبر، 2024 كاتبات يابانيات “متغربات” يتحدين تقاليد السرد العريق 21 ديسمبر، 2024 محمد أبي سمرا يكتب عن: حسن الصباح والإسماعيلية…... 20 ديسمبر، 2024 بعد عقد على رحيله… ماركيز الحاضر برواية “جديدة”... 20 ديسمبر، 2024 فيلم عن مأساة الأجيال الفلسطينية يفتتح “أيام قرطاج... 19 ديسمبر، 2024 الروائية الإيطالية المجهولة إيلينا فيرانتي تكشف آراءها للقراء 19 ديسمبر، 2024 فروسية رولان في حروب شارلمان الملحمية 19 ديسمبر، 2024 “مائة عام من العزلة”… ماكوندو ماركيز على الشاشة... 19 ديسمبر، 2024 سجالات بيرانديللو المسرحية الأخروية عند بوابة المقبرة 18 ديسمبر، 2024