فيساريون بيلنسكي (1811 – 1848) (غيتي) ثقافة و فنون رسالة من بيلنسكي إلى غوغول كادت تتسبب في إعدام دوستويفسكي by admin 30 سبتمبر، 2023 written by admin 30 سبتمبر، 2023 136 الكاتب المتطرف يدعو صاحب “المعطف” إلى التراجع وصاحب “الجريمة والعقاب” يدفع الثمن اندبندنت عربية \ إبراهيم العريس باحث وكاتب هي من ناحية مبدئية، أو في الأقل في مظهرها، رسالة حول وظيفة الأدب ودور الكاتب. إذا كنا نعود إليها دائماً كما يعود إليها غيرنا وبإلحاح بعد أن مضى نحو قرنين على كتابتها، فما هذا إلا لأنها كانت من الخطورة إلى درجة أنها أوصلت الكاتب الروسي دوستويفسكي إلى حبل المشنقة لمجرد أن السلطات القيصرية قد عرفت أنه قرأها علناً، فمن أين أتت خطورتها؟ ولماذا قرأها دوستويفسكي؟ ومن كان كاتبها؟ أسئلة لا بد من الإجابة عنها والعودة إليها لمعرفة مكمن الخطورة في نص من المفروض أنه مرسل من ناقد إلى أديب يعاتبه فيها على تخليه عن ماضيه الكتابي داعياً إياه إلى “استعادة علاقته الحقيقية بأدبه”. ولعل الغريب في الأمر كله هو أن كاتب الرسالة كان قد مات منذ زمن حين ارتكب دوستويفسكي الذي كان شاباً حينها “جريمة قراءة” رسالته. ولعل من الحري بنا هنا أن نبدأ الحكاية من أولها، أي من تلك الليلة التي أيقظ فيها بيلنسكي نفسه مع رهط من رفاقه دوستويفسكي من نومه ليبدوا إعجابهم بروايته الكبيرة الأولى “مذلون ومهانون” وكان ذلك من أول تجليات المكانة التي سيحوزها دوستويفسكي لاحقاً في الأدب الروسي، لكن تلك لن تكون المرة الوحيدة التي يوقَظ فيها الكاتب من نومه ليلاً، ففي ذات ليلة من ربيع عام 1849 كان دوستويفسكي قد بات على شيء من الشهرة بعد تلك الليلة الأولى، طرق بابه هذه المرة رجال الشرطة وقبضوا عليه لمجرد أنه قرأ في اجتماع عام رسالة كان بيلنسكي قد وجهها علناً إلى غوغول، لقد جاءوا إذاً لاعتقاله واعتقلوه فعلاً، لتكون تلك الليلة بداية حقبة طويلة من المحاكمات والاتهامات والنفي، تخللتها عملية “إعدام مزيف” للكاتب دبرت، إذ يأتي العفو عنه في اللحظات الأخيرة وينفى إلى سيبيريا. وهو بقي في سيبيريا منفياً طوال عشر سنوات. …ويا لها من جريمة! كانت جريمته أنه قرأ بصوت عال، ووسط حلقة من الثوريين الاشتراكيين، نصاً كانت السلطات تعتبره في ذلك الحين محظوراً وخطيراً، ولم يكن ذلك النص سوى “رسالة إلى غوغول” للناقد والمفكر بيلنسكي، الذي كان سبق الآخرين في اكتشاف مواهب دوستويفسكي الروائية، وفي ذلك الحين كان دوستويفسكي ينتمي إلى حلقة ثورية يتزعمها الثوري بيتراشفسكي تعتبرها السلطات الخلية الأكثر تطرفاً ما يوجب مطاردة أعضائها واعتقالهم وطبعاً التخلص منهم بعد ذلك سجناً أو نفياً أو إعداماً، وكانت كتابات بيلنسكي على أية حال، تعد نصوصاً تحريضية على رغم ابتعادها من الفلسفة المباشرة واهتمامها بالأدب. كان بيلنسكي يرى أن الأدب وقراءته طريق إلى الثورة، ومن هنا كانت خطورته بالنسبة إلى السلطات التي حظرت كتاباته وعلى رأسها تلك “الرسالة” التي إذ منعت من النشر في روسيا، نشرت أول الأمر في لندن، في إحدى المجلات المعارضة، ثم تم نسخها وتداولها “تحت المعاطف” في شتى أنحاء روسيا لتصبح إنجيل المثقفين الثوريين في ذلك الحين، ولتتسبب لدوستويفسكي في الابتعاد عشر سنوات من الحياة العامة، بعد القبض عليه بتهمة قراءتها. فيودور دوستويفسكي: حياته كلها ثمن لقراءة رسالة (غيتي) قطيعة مدهشة ولكن، ماذا في الرسالة حتى تثير كل ذلك القدر من غضب السلطات، وحتى تتسبب في نفي دوستويفسكي وفي إحداث تلك القطيعة المدهشة، بالتالي، بين كتابات شبابه وتلك التي تعد كتابات مرحلة النضوج لديه أي رواياته الكبرى؟ أول الأمر لا بد من التأكيد أن “الرسالة” لم تكن (كما قد يوحي عنوانها) نصاً في النقد الأدبي وحسب، على رغم أنها موجهة إلى نيقولاي غوغول أحد أساطين الأدب الروسي (بل مؤسسه) في ذلك الحين (وهو كما نعرف صاحب “المعطف” الذي سيقول دوستويفسكي دائماً، إن الرواية الروسية خرجت منه)، ولم يكن همها الأساس تحليل أعمال لغوغول مثل “المعطف” و”الأرواح الميتة”، بل كانت تنطلق من هذا، وتحديداً من تاريخ غوغول الأدبي وثورية نصوصه الواقعية الاجتماعية، لتحاول تثوير المجتمع من خلال تثوير آدابه، ثم بخاصة من خلال تذكير غوغول بماضيه المجيد بعدما بدأ يلوح عليه شيء من المهادنة للسلطات، وهنا بيت القصيد. رسالة ترد على كتاب جاء نص “رسالة إلى غوغول” في الأساس، نوعاً من الرد على كتاب كان غوغول أصدره بعنوان “رسائل حول الفن والفلسفة والدين”. ومن الواضح أن بيلنسكي المتمرد والراغب في اندلاع ثورة إصلاحية تعم البلاد، انتهز فرصة صدور هذا الكتاب لغوغول، ليشن من خلال الرد عليه، هجوماً حاداً ضد “العدالة الفاسدة المفسدة”، كما ضد القنانة والرقابة، وفي شكل إجمالي ضد كل المساوئ والشرور التي كانت روسيا تعانيها، في ذلك الحين، وقبل ظهور إصلاحات ألكسندر الثاني الكبرى. والحقيقة أن نيقولاي غوغول كان يبدو في “رسائله” كما لو أنه يدافع، بعض الشيء، عن النظام القديم، ولا يتطلع إلى الإصلاح بصفته الترياق الذي يخلص روسيا من تلك المساوئ. وهذا ما جعل بيلنسكي، يعبر عن آرائه بعنف، مذكراً غوغول بما “يمثله الكاتب حقاً في المجتمع الروسي”، قائلاً له في الرسالة إنه “في ظل نظام قمعي يمكننا، في الأدب فقط أن نعثر على الحياة وعلى حس التقدم، ولهذا وحده يحظى الكاتب بكل هذا التكريم وكل هذا التمجيد في روسيا، وليفهم الكاتب أن هذا الشرف الذي يسبغ عليه من جانب الشعب هو الذي يجبره على أن يتصدى للقمع”. ولذلك “يا سيد غوغول، ثمة في رسائلك أمور لا يمكن التسامح معها، إذ تأتي من مؤلف “المفتش العام” و”الأرواح الميتة”…”. مهام الكاتب الاجتماعية وإلى هذا يضيف بيلنسكي طالباً من غوغول إذا كان قد سهل عليه أن يتنكر لأعماله القديمة العظيمة، أن يتنكر الآن لرسائله البائسة، وفقط عبر انكبابه على كتابة أعمال عظيمة جديدة. وإذ يتوجه بيلنسكي إلى الكاتب الكبير على هذا النحو يضيف أن “المهام الاجتماعية التي تواجه روسيا اليوم تكمن في هدم أشكال الحياة الأبوية المقدسة المرتكزة على ملكية الأقنان، وتشريع عدد من الإصلاحات الديمقراطية البورجوازية”. وإذ كان بيلنسكي “يعتبر النزعة التاريخية جوهر الفن وخاصيته في تقديم الملامح الخاصة بالواقع من خلال الصور المتخيلة”، نراه “يقف ضد الرومانسية الرجعية والرواية التعليمية” داعياً إلى مبادئ الواقعية المتضمنة في أعمال بوشكين و”المدرسة الطبيعية” التي كان قادها غوغول بنفسه. وإذ نوه بيلنسكي بالعلاقة بين مفهومي “الالتحام بالشعب” و”الواقعية في الفن”، فإنه حدد قضايا مهمة تتعلق بالدلالة الاجتماعية للأدب، مركزاً على قدرته على تجسير الهوة بين “المجتمع المثقف” و”جماهير الناس” وعلى التعاطف مع الروح العصرية، أي مع التقدم الذي يعده صفة جوهرية للفنان الصادق ويتساءل، “كيف يغيب هذا كله الآن عن غوغول الذي كان في أعماله الكبيرة رائداً فيه؟”. حكاية الرسالة وصاحبها من الواضح، إذاً، أن بيلنسكي إنما استخدم غوغول كمجرد ذريعة لعرض أفكاره الثورية لا أكثر. وهذا الأمر طبعاً لم يغب عن السلطات، ومهما يكن من أمر فإننا نعرف أن بيلنسكي كتب هذا النص في سالزبرون في بروسيا الألمانية، وليس في روسيا، ونشره أول الأمر في صحيفة “النجم القطبي” (بولارنايا زفيسدا) المعارضة التي كانت تصدر في لندن ويحررها الثوري هرتزن. ونشر النص كاملاً هناك في عام 1855، لكن ما عرف منه في روسيا، وحوكم بسببه دوستويفسكي، كان أجزاء جرى تداولها منذ عام 1847، أما النص الكامل فإنه لم ينشر داخل روسيا نفسها، إلا في عام 1905، علماً بأنه حين قرأ دوستويفسكي الرسالة علناً كان بيلنسكي نفسه فارق الحياة. وبيلنسكي (واسمه الكامل فيساريون غريغوريفتش بيلنسكي) المولود عام 1811، رحل في عام 1848، بعد أن عاش حياة صاخبة حافلة بالتحريض الثوري ضد النبلاء والقصر، وهو كان على أية حال، ابناً لأسرة موسرة، درس الأدب في جامعة موسكو، وكان في الـ21 حين بدأ ينشر نصوصه النقدية في مجلة “تلسكوب”. ثم تولى تحرير مجلة “موسكوفسكي نابليوداتيل” قبل أن ينتقل إلى سانت بطرسبرغ وإلى مجلات أخرى، ولقد أصابه داء السل باكراً وقضى عليه ليضع حداً لحياة وكتابات حافلة، ستظل “رسالة إلى غوغول” من أبرزها وأكثرها خطورة. المزيد عن: فيساريون بيلنسكيفيودور دوستويفسكينيقولاي غوغولالأدب الروسي 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post ما خطر الأفلام المقتبسة عن القصص المصورة على الثقافة؟ next post الحياة الرائعة والغريبة للشاعر البريطاني ويستان هيو أودن You may also like مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 عبده وازن يكتب عن: فيروز تطفئ شمعة التسعين... 21 نوفمبر، 2024 “موجز تاريخ الحرب” كما يسطره المؤرخ العسكري غوين... 21 نوفمبر، 2024