ثقافة و فنونعربي “ذكريات الطفولة” لمارسيل بانيول من مجد الوالد إلى قصر الأم by admin 18 مارس، 2023 written by admin 18 مارس، 2023 10 قراؤه يتساءلون: من أين تمكن كاتب الجنوب أن يأتي بكل الطيبة ليزرعها في أدبه وفنه؟ اندبندنت عربية \ إبراهيم العريس باحث وكاتب يعرف الكاتب الفرنسي مارسيل بانيول بكونه واحداً من كبار كتاب منطقة الجنوب في فرنسا، فهو جعل تلك المنطقة عالمه الإبداعي الأثير، بل حتى عالمه السينمائي، وهو الذي كان ومنذ نهايات ثلاثينيات القرن العشرين قد أغراه خوض العمل السينمائي كاتباً وأيضاً مخرجاً من خلال تحقيقه على التوالي ثلاثيته “ماريوس” و”فاني” و”سيزار” التي حققت من النجاح لدى جمهور صالات السينما العريض أضعاف ما حققته كثلاثية روائية، بل وصل نجاحها إلى حد اقتباس هوليوود لها على شاشة أميركية حاولت أن تقلد بانيول، كاتباً ومخرجاً، خطوة خطوة. وهو ما عادت السينما الفرنسية وقامت به خلال النصف الثاني من ثمانينيات القرن نفسه وفي الأقل عبر فيلمين كبيرين اقتبسا القسمين الأولين من “ثلاثيته الروائية”، الذاتية هذه المرة، والذاتية إلى درجة أن الكل يعرف لماذا وضعنا هنا كلمة “روائية” بين معقوفتين. لأن الثلاثية ليست في حقيقتها سوى مئات من الصفحات ترسم لنا ذكريات هذا الكاتب الشعبي الفذ، ولكن أكثر من ذلك: ذكريات الجنوب الفرنسي. ومن هنا ليس غريباً أن يوصف بانيول بأنه كاتب الجنوب الفرنسي، وهو الذي كان واحداً من الذين أبدعوا في كتابة روايات وقصص ومن ثم تلك الذكريات التي تدور أحداثها في مدينة مرسيليا عاصمة الجنوب، وهي التي حين راحت تنتشر عبر السينما كان من الطبيعي لها أن تجعل مبدعها يعتبر كذلك “سينمائي الجنوب الفرنسي” بامتياز أيضاً. ولعل أكثر ما يلفت في أدب بانيول وسينماه، هو أنه عالم من الحب والود حتى وإن كان لا يخلو من خيبات وأحزان. عالم من دون أشرار أو من دون صراعات حقيقية. وحين تكون هناك صراعات لا تكون غالباً صراعات بين الخير والشر، بل بين الطيبين والأقل طيبة. طيبة مصدرها الإنسان نفسه من هنا كان ثمة تساؤل دائم، في الزمن الذي أوصل فيه هذا الكاتب أدبه وإبداعه بصورة عامة إلى الذروة: من أين يأتي بانيول بكل هذه الطيبة في أدبه؟ كيف تراه تمكن من أن ينأى بنفسه عن شرور القرن العشرين؟ عن الحروب؟ عن الكوارث؟ أما هو فإنه نادراً ما اهتم بأن يفسر ويجادل. كان دائماً يكتفي بالقول إن العدد الأكبر من الشخصيات التي تزدحم بها رواياته وأفلامه إنما يأتي من الحياة ومن الناس الذين عرفهم وعايشهم فعلاً. ولهذا كان الاهتمام كبيراً بمجموعة كتب الذكريات التي أصدرها هذا الكاتب السينمائي عام 1957، وكان قد بلغ الثانية والستين من عمره بعنوان “ذكريات الطفولة”. وتتألف المجموعة في الواقع من ثلاثة أجزاء صدرت تباعاً وحمل أولها عنوان “مجد أبي” فيما حمل الثاني عنوان “قصر أمي” وجعل للثالث عنوان “زمن الأسرار”. وكما يدل عنوان المجموعة لا بد من الإشارة أولاً إلى أن ذكريات بانيول في هذه الأجزاء الثلاثة معاً لا تحتوي إلا على حكايات السنوات الأولى من عمره، أي تلك التي تمضي بين ولادته ودخوله المدرسة الثانوية. وهذا يعني طبعاً، بالنظر إلى كثرة عدد الصفحات، أن الكاتب أورد مئات التفاصيل والحكايات ليس حول حياته الخاصة فقط بل حول حيوات المحيطين به، وحول أجواء الحياة في تلك المنطقة الجنوبية من فرنسا عند مفتتح القرن العشرين. مارسيل بانيول (1895 – 1975): نجاحات متنوعة (غيتي) من الجد إلى الأب في الجزء الأول “مجد أبي” لا يروي لنا الكاتب حياته الشخصية، بل حياة أسرته، بدءاً من الجد العجوز وصولاً إلى الأب، الذي كان مدرساً علمانياً، بل مناضلاً في سبيل العلمانية، محباً للمعرفة محبوباً من الجميع، يساير الناس بلطف لكنه لا يساوم على مبادئه ولا على أفكاره الجمهورية. وبين هاتين الشخصيتين تتوزع وتتحرك جملة من شخصيات أخرى من الأسرة. فهناك الأم أوغستينا التي زوجت وهي في التاسعة عشرة من عمرها ولم ترحها الحياة والواجبات المنزلية ولو لحظة. وهناك “العم جول”، القريب الطيب الذي لا يفوت صلاة أو قداساً في كنيسة. وآرمان، المدرس زميل الأب الذي يشارك هذا الأخير معظم أفكاره ويعملان معاً على وضع خريطة للمنطقة الريفية… أما مارسيل، الصغير، والذي سيصبح كاتبنا الذي نعرف لاحقاً، فإنه يصور نفسه وحضوره وسط ذلك العالم الطيب الجميل، من خلال مشاهد عابرة لكنها مليئة بالمعاني. منها مشهد يصوره لنا وهو في الرابعة من عمره وقد اكتشف أهله، لدهشتهم، أنه بات يحسن القراءة وأن السر يكمن في أنه كان علم نفسه بنفسه حب الكلمات والقراءة من دون أن يتنبه إليه أحد. بعد ذلك نراه في سن العاشرة وقد صاغ قصيدة لمجد زعيم هندي أحمر أولع به منذ قرأ رواية لفينيمور كوبر. من المنزل إلى الطبيعة فالحب الجزء الثاني من “ذكريات الطفولة” يحمل كما أسلفنا عنوان “قصر أمي”. وفي هذا الجزء يخرج بنا الكاتب من إطار المنزل العائلي الضيق ليتجول في مناطق الطبيعة المحيطة ببلدته. وإذ نقول الطبيعة فإننا، بالتأكيد، نعني التلال التي تكاد تكون جبالاً، والغابات التي يحلو الصيد فيها، لكن الصيد والحياة الحلوة ليسا كل شيء هنا… هناك أيضاً بدأ وعي ابن الحادية عشرة على الحب، وعلى الفضائح التي يثيرها الحب. وعلى خوفه الخاص من الفضيحة أولاً وبعد ذلك من “قصر الخوف” ذاك الذي أتى مزيجاً من مكان يقال إنه مرصود حقيقة، ومن خياله الخصب. وعلى قصر الخوف يوقف مارسيل هذا الجزء الثاني، وهو الذي في الجزء الأول كان كاتباً يقدم نفسه طفلاً يرصده الآخرون عبوراً… أما الآن فإنه الصبي الذي يرصد الآخرين ولكن، فقط، كجزء من انشغالاته الخاصة اليومية التي يصفها لنا في تفاصيلها الطريفة من دون أن يسامح نفسه على خطأ أو يبرر نقاط ضعفه. اليد والقبلة الخالدة في الجزء الثالث “زمن الأسرار” لم يعد الطفل بانيول طفلاً أو صبياً بالمعنى الحرفي للكلمة. لقد صار الآن مراهقاً، لا يشكل الحب لديه بدايات وعي، بل وعي كامل. وها هو ذا رصده للآخرين يتحول من رصد براني يحتاج إلى مزيد من التعمق، إلى رصد جواني يحاول أن يسبر الأغوار ويفهم النفسيات التي تقف خلف التصرفات. من هنا صرنا أمام وعي اكتمل: وعي الذات ووعي الآخر. وآية هذا أن قراءات مارسيل تحولت من فينيمور كوبر إلى جول فيرن. ووعيه صار مرتبطاً بصبية حسناء تظهر فجأة في حياته هي إيزابيل ابنة شاعر كان معروفاً حينها. إيزابيل التي ذات لحظة خالدة في تاريخ مارسيل ستمد يدها نحوه كي يقبلها. وهذا ما سيجعله من فوره يتخلى عن ليلي رفيقة صفه ويعيش غراماً صاخباً مع إيزابيل، لا يفيق منه إلا حين يكتشف أن أباها الشاعر سكير، وأنها هي بالكاد تختلف عن الأخريات. وهذا كله سيوقظه من حكاية الحب تلك… الحكاية التي ستصبح مجرد ذكرى منذ اللحظة التي يتفتح فيها وعيه الرجولي إذ يتمكن وحده من قتل أفعى لا يقل طولها عن ثلاثة أمتار. وإذ يتواكب هذا كله مع نجاحه وتخرجه في الصفوف الابتدائية ليلتحق بالثانوية، يوقف مارسيل بانيول عند هذه النقطة تلك الذكريات التي ضمتها كتب ثلاثة، تعتبر من أجمل ما صدر في فرنسا في إطار مثل هذا النوع من الأدب. نجاحات متواصلة بقي أن نذكر أن مارسيل بانيول ولد عام 1895 وعاش حتى عام 1975 لكنه عاش كما يمكن أن يقال بين الكتب حتى خلال فترة ما قبل المدرسة. وهو اشتهر بعفويته وحياته التي عاشها من دون كثرة حسابات على رغم أنه مارس مهناً إبداعية كثيرة كانت دائماً ما تتطلب حسابات، فعمل إلى جانب الكتابة والإخراج السينمائي وكتابة السناريوهات منتجاً وناشراً. ويعتبر فيلمه “ماريوس” الذي حققته هوليوود مرة أولى، بعد تحقيقه هو له كمنطلق للثلاثية الأولى، واحداً من أول نجاحات السينما الفرنسية في فرنسا نفسها وفي العالم، تماماً كما أن فيلمي “مجد أبي” و”قصر أمي” يعتبران في الثمانينيات من دون أن يعيش بانيول ليشهد أياً منهما مفتتح التجدد الجماهيري الذي عرفته السينما الفرنسية الشعبية في الربع الأخير من القرن العشرين، من دون أن ننسى مسرحيته “توباز” التي نجحت عالمياً إلى حد اقتباس نجيب الريحاني لها في مصر، ولا “زوجة الخباز” الفيلم الذي يعتبر من العلامات الأساسية في تاريخ السينما الفرنسية. المزيد عن: مارسيل بانيو\لالسينما الفرنسي\ةهوليوود\الجنوب الفرنسي 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post سحب أدوية للسعال من صيدليات بريطانية بسبب مخاوف تتعلق بالسلامة next post الكاتبة المجرية كريستينا توت صوت الاحتجاج النسوي You may also like مستقبل مقاومة هوليوود الليبرالية بوجه ترمب 29 نوفمبر، 2024 نظرية فوكوياما عن “نهاية التاريخ” تسقط في غزة 29 نوفمبر، 2024 لماذا لا يعرف محبو فان غوخ سوى القليل... 29 نوفمبر، 2024 جائزة الكتاب النمساوي لرواية جريمة وديوان شعر ذاتي 29 نوفمبر، 2024 طفولة وبساطة مدهشة في لوحات العراقي وضاح مهدي 29 نوفمبر، 2024 استعادة كتاب “أطياف ماركس” بعد 20 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 تحديات المخرج فرنسوا تروفو بعد 40 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 21 قصيدة تعمد نيرودا نسيانها فشغلت الناس بعد... 28 نوفمبر، 2024 الرواية التاريخية النسوية كما تمثلت لدى ثلاث كاتبات... 28 نوفمبر، 2024 بودلير وهيغو… لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم... 27 نوفمبر، 2024