شيروود أندرسون (غيتي) ثقافة و فنون حداثة شيروود أندرسون “من فوق” على عكس “أزمنة” تشابلن by admin 4 نوفمبر، 2023 written by admin 4 نوفمبر، 2023 31 نظرة روائية ساخرة ولئيمة في رواية “الأبيض المسكين” إلى كيفية تصنيع ذلك الحلم الأميركي الذي صاغ ذهنية العالم الجديد اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب في فيلم “الأزمنة الحديثة” جعلنا تشارلي تشابلن ننظر إلى وضع بؤساء الطبقة العاملة، وإلى الاستلاب الناجم عن العمل مع الآلات الحديثة وإلى مختلف ضروب التجديدات التقنية التي تصل إلى عمق التدخل في الحياة الخاصة للعامل، وذلك من وجهة نظر هذا الأخير. فإذا استثير تعاطفنا معه، فما هذا إلا لأننا نرى ما يعانيه منقولاً على الشاشة أمامنا، ومن ثم نشعر بقدر كبير من التماهي معه رافضين العوامل التي فجرت معاناته. إنه نحن، حتى وإن بدت أوضاعنا في الحياة العامة، أفضل من أوضاعه على الشاشة. إننا هو، ضمن إطار الممكن ما دامت الظروف الخارجية الفالتة من إرادتنا هي التي تتحكم في حياتنا ورزقنا. بشكل عام تمكن تشابلن في ذلك الفيلم من لعب لعبته، ومن فرض رؤيته الخاصة: الرؤيا من الأسفل. ومن هنا أتت قوة فيلمه، من حيث شيطن أصحاب العمل وأصحاب الاختراعات، ورجال السلطة، لحساب إضفاء صفة الملائكة على البائسين الضحايا. ولعل قوة هذا الفيلم تأتي تحديداً من هذه الناحية. من ناحية انزياح لعبة الخير والشر، لتلعب هنا على المستوى الطبقي، وأكثر من هذا، على مستوى العامل/ صاحب العمل، من دون أن يكون ثمة مجال للمصالحة (التي هي جوهر فيلم مشابه، في بعض ظروفه، هو فيلم “متروبوليس” للألماني فريتز لانغ). نظرة أدب اجتماعي أميركي الكاتب الأميركي شيروود أندرسون (1876 – 1941)، كان قبل تشابلن بأكثر من عقد ونصف العقد من السنين، قد دنا من الموضوع نفسه، وفي الأطر العمالية والتقنية نفسها، وذلك في واحدة من أجمل رواياته، ولكن – ويا للغرابة! – من أقلها شهرة، وهي “الأبيض المسكين” التي نشرت في عام 1920، لتسجل انعطافة في تاريخ الأدب الاجتماعي الأميركي، لا تقل قوة عن الانعطافات التي ارتبطت بأبناء جيل أندرسون، وعلى رأسهم سنكلير لويس. ففي ذلك الحين، بعد انقضاء الحرب العالمية الأولى التي شهدت أول خروج للولايات المتحدة إلى العالم، كان لا بد للأدب أن يستعير من العالم قضاياه ومن أوروبا الاجتماعية أساليبها ليتمكن من تصوير ما كان يحصل داخل المجتمع الأميركي. ولقد كان لويس وأندرسون، من بين الذين جعلوا تلك السمات تطبع أدبهما بقوة. فما الذي فعله، أو قاله، شيروود أندرسون في هذه الرواية؟ من فيلم “الأزمنة الحديثة” لتشابلن (موقع الفيلم) نظرة من فوق هو على عكس تشابلن تماماً… عالج الموضوع نفسه الذي سيعالجه هذا الأخير في “الأزمنة الحديثة” ولكن من وجهة نظر أتت من فوق: من وجهة نظر أصحاب العمل ومخترعي الآلات الحديثة المستلبة أنفسهم… ومن هنا نظرة كثر من النقاد الذين يرون أن “الأبيض المسكين” تشكل، مستبقة فيلم تشابلن، نسخة ساخرة وسوداوية منه. فالشخصية المحورية في هذه الرواية شاب في الـ20 من عمره يدعى هيو ماكفاي. إنه شاب وسيم ممشوق القامة، همه الأساس في حياته أن يتمكن بأية طريقة من الطرق من أن يفلت من نزوعه الدائم والعميق إلى الكسل… أي إلى العيش من دون فعل أي شيء. ولسوف ينتهي به الأمر إلى الوصول إلى مدينة بدويل في ولاية أوهايو الأميركية، حين يتمكن من اختراع آلة تتولى زراعة الملفوف تلقائياً ومن دون أية جهود حقيقية… وإذ يختبر أهل المدينة هذا الاختراع ويدركون جدواه وكيف أنه سيغير حياتهم، يصبح هيو بفضل ذلك الاختراع الذي لا يدركون أن كسله كان هو وراء اختراعه، بطلهم من دون منازع ويبدأون بتقديم آيات الاحترام له، معتبرينه المحقق الأول للحلم الأميركي الحقيقي. وهو، بهذه الصفة، يصبح المثال الذي يتعين أن يحتذى، والسيد الذي يجب أن يطيعه الجميع. ومن خلال طقوس التبجيل والاحترام اليومية التي يقدمها سكان بدويل لهيو ماكفاي، يقدم لنا شيروود أندرسون وبتلك الطريقة الفذة التي لا يتقنها إلا ذلك النوع من الروائيين الاجتماعيين الأميركيين، مجموعة من “البورتريهات” لسكان المدينة. ونحن القراء، ما إن نتمعن في تلك “البوتريهات” حتى ندرك أننا لسنا أمام سكان مدينة بدويل، بقدر ما نحن أمام أميركا كلها… أميركا الرواد الذين سعوا كثيرا إلى تحقيق الحلم الأميركي فكان النجاح من نصيب كثر منهم – أو هذا ما تقوله الأسطورة في الأقل، ويصوره لنا شيروود أندرسون بأسلوبه الساخر اللئيم، الذي سيثبت في نهاية الأمر أن العكس هو الصحيح – وكان الإخفاق، في المقابل، من نصيب الآخرين. الناجحون والفاشلون في عالم الحلم وهكذا يضعنا الكاتب من خلال ذلك التقابل، بين “الناجحين” والآخرين الذين فاتهم قطار الحلم. ومن الواضح أن هذا التقابل هو الذي أراد أندرسون أن يجعله الموضوع الرئيس في رواية، عرفت باكراً كيف تصور من خلال عبادة الرواد الناجحين، عبادة المال، والنهم إلى تصنيع أميركا مهما كانت النتائج وبأي ثمن كان. ولعل ما يعزز هذا المنطق الذي يصوره أندرسون بتهكمه، هو تلك الأسطورة التي يتحول إليها البطل: الأسطورة التي تنطلي على بسطاء الناس – أي على الأميركيين في مجموعهم – لكن الكاتب يتواطأ مع قارئه لفضحها… ومن خلال ذلك، وصولاً إلى تقديم صورة قاسية وحادة للكائنات البشرية – التي هي، هنا، وقود كل شيء – تصورها في مجموعها “ذكية وحمقاء” في الآن عينه. لكن ذكاءها وحمقها هذين ليسا كما يقول لنا أندرسون قضاء منزلاً، بل هما مشغولان اجتماعياً ومن فوق، بشكل يؤهل هؤلاء الناس، من ناحية للشعور بالتميز على الآخرين، ومن ناحية ثانية لتسليم قيادهم إلى الزعماء المرسلين من لدن الأقدار. والحقيقة أن من يقرأ هذه الرواية التي تعود أحداثها إلى عشرينيات القرن الـ20، ويتمعن في حال “الأكثرية الصامتة” الأميركية اليوم، سيدهشه أن يكتشف أن هذه الأكثرية لم تتطور أبداً، لم تتعلم شيئاً خلال ما يقارب 100 عام… وكيف أن التاريخ، سياسياً وأخلاقياً واجتماعياً، يبدو وكأنه يكرر نفسه. في عمق السيكولوجيا الاجتماعية وفي هذا المعنى، حتى وإن كان الباحثون في تاريخ الرواية الأميركية يمتنعون عن حسبان شيروود أندرسون بين كتاب الصف الأول من أبناء جيله، بالنسبة إلى تقنيات الكتابة نفسها، كما بالنسبة إلى لغته وأسلوبه، فإنهم لا يتوانون عن اعتباره من الطبقة الأولى من ناحية حساسيته الاجتماعية وقدرته على التوغل في عمق أعماق السيكولوجيا الاجتماعية، بحيث قيل دائماً إنه يكاد يكون، إلى جانب سنكلير لويس وجون دوس باسوس، من أفضل الذين كتبوا الروايات الجماعية الأميركية خلال النصف الأول من القرن الـ20، إلى درجة أن من يقرأ رواياتهم، لن يدهشه التحول الخطر الذي طرأ على المجتمع الأميركي ما إن اندلعت أزمة الكساد الاقتصادي بدءاً من انهيار بورصة نيويورك في خريف عام 1929. ولنضف إلى ذلك أن شيروود أندرسون (1876 – 1941) كان على أية حال قادراً على التوغل في عقلية العمال وأرباب العمل – أي القطاع الأعرض من الشعب الأميركي – انطلاقاً من أنه بدأ حياته رب عمل حين كان هو نفسه يمتلك مصنعاً، وكان عليه أن يمضي حياته في تلك المهنة، لولا اكتشافه في نفسه رغبات كتابية وتعبيرية قوية منذ صار في الـ40 من عمره… وهكذا، راح يتخلى عن العمل الصناعي بالتدرج ليكتب روايات وقصصاً قصيرة، تقف في مضامينها عند نقطة التلاقي – أو الفصل إذا شئتم – بين تيار الواقعية التقليدية في الأدب الأميركي، وتيارات “الجيل الضائع” الذي كان أندرسون من رواده والبادئين به. ومن أشهر روايات شيروود أندرسون، إضافة إلى “الأبيض المسكين”، “ابن وندي ماكفرسن” و”واينسبرغ – أوهايو” و”انتصار البيضة” و”أحصنة ورجال” و”ربما امرأة” و”ما وراء الرغبة”… ولقد حول بعض رواياته إلى أفلام، كما إلى مسرحيات. المزيد عن: تشارلي تشابلنفيلم الأزمنة الحديثةشيروود أندرسونالحلم الأميركي 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post “العفو الدولية” تتهم “فيسبوك” بانتهاك حقوق الإنسان في إثيوبيا next post ذكاء اصطناعي قد يحقق نتائج علاجية أفضل لآلاف مرضى السرطان You may also like فلسفة الحياة أي أن نفكر في أحوالنا اليومية والعالم 29 ديسمبر، 2024 هوبيما الرسام الهولندي الذي أسس المدرسة الطبيعية الإنجليزية 29 ديسمبر، 2024 “الحمار الذهبي” من أقدم السرديات الكبرى في التاريخ 29 ديسمبر، 2024 سامر أبوهواش يكتب عن: بين “سقوط الأسد” و”مئة... 29 ديسمبر، 2024 يوسف بزي يكتب عن العودة إلى دمشق: قصر... 29 ديسمبر، 2024 يوسف بزي يكتب عن: العودة إلى دمشق.. عشوائية... 29 ديسمبر، 2024 مهى سلطان تكتب عن: جدلية العلاقة بين ابن... 27 ديسمبر، 2024 جون هستون أغوى هوليوود “الشعبية” بتحف الأدب النخبوي 27 ديسمبر، 2024 10 أفلام عربية وعالمية تصدّرت المشهد السينمائي في... 27 ديسمبر، 2024 فريد الأطرش في خمسين رحيله… أربع ملاحظات لإنصاف... 27 ديسمبر، 2024